أقلام وأراء

د. جواد العناني يكتب – اقتصاديات الصيام

د. جواد العناني *- 15/4/2021

بالنسبة للمتعبّدين الناسكين والمراعين للصيام الأكبر من أهل الديانة المسيحية، فإن الصوم يعني حرمان النفس وتربيتها على الابتعاد عن أكل ما هو من الحيوانات، سواء كانت دواب تمشي على أربع، أم طيوراً، أم زواحف، أم أسماكا عدا القشريات.

وهذا لا يعني الامتناع عن أكل اللحوم فقط، ولكن يعني الصّومَ عن تناول منتجات الحيوانات من أجبان وألبان وغيرها. إذن، هي رياضة في الصبر على الحرمان مما تعوّد الناس عليه، وهو بذلك صوم عبادة.

بالنسبة للاقتصاديين، فإن الحرمان من أكل المنتجات الحيوانية يعني انخفاض الطلب عليها، ما يدفع إلى انخفاض أسعارها في الأسواق، أو أن يسعى التجار إلى عدم عرضها في الأسواق من الأصل، حتى لا يهبط سعرها كثيراً.

ولذلك، التوقف عن أكل اللحوم والألبان، وهي عادةً أغلى ثمناً من الأصناف النباتية، وهبوط كلفة الغذاء خلال مدة الصيام البالغة أربعين يوماً أو أكثر يعني زيادة في الدخل، يمكن توجيهها إلى أنواع أخرى من الاستهلاك، أو قد تعني زيادة الادخار.

وليس هنالك دراسات إحصائية أو قياسية أعرفها لتقدير أثر الدخل وأثر التعويض الاستهلاكي (Compensatory effect) لمثل هذا الصيام. وهي دراسة تستحق أن تُجرى وتتابع لما لها من فوائد للمنتجين والبائعين، خصوصا أن هذا الصيام يمتد من 40 – 46 يوماً حسب الطائفة الدينية.

الطلب الموسمي

ويقع هذا التحليل ضمن الدراسات التي تُعنى بالطلب الموسمي. ولكن عدم دراسة أثر الصيام لا يعني أن الطلب الموسمي غير مدروس، فمناسبة أعياد البلاد تفتح الشهية على الاستهلاك من نواحٍ كثيرة، سواء لشراء الهدايا للأسرة أو الأحبة.

ويرتفع اهتمام الناس بشراء سلع معينة، مثل أشجار كريسماس وزينتها، وديك الحبش (تيركي)، والحلوى، والملابس. وفِي بعض الدول تبلغ المبيعات في شهري نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول حوالي 20% من مجموع المبيعات السنوية لمحلات بيع التجزئة في الولايات المتحدة وكندا وبعض الدول الأوروبية.

أما المسلمون، فيصومون شهر رمضان من الفجر حتى المغيب بين 29 – 30 يوماً. وبسبب أن شهر رمضان هو أحد الأشهر القمرية، فإن موعده السنوي يتنقل باستمرار حسب الروزنامة الشمسية. والعيد يأتي متنقلاً من شهر إلى آخر. ويعود إلى ما ابتدأ به بعد قرابة 33 سنة. وهذا ينطبق أيضاً على موسم الحج وعيد الأضحى الذي يليه.

وقد وجدتُ دراسات حول تأثير ممارسة التعاليم الدينية على النمو الاقتصادي والسعادة. من أبرزها، دراسة صادرة عن الهيئة القومية للبحث الاقتصادي (National Bureau of Economic Research) الواقعة في مدينة واشنطن. ونشرت الدراسة عام 2013. والباحثان اللذان قاما بها هما فيليبي كامبانتي (Filipe Campante) وديفيد ياناجيزاوا- دروت (David Yanagisawa Droht). وقد ركّزت على دراسة تأثير صيام شهر رمضان على النمو الاقتصادي والسعادة.

وقد وجدت الدراسة محايدة وعلمية، واستُخدِمت فيها وسائل رياضية متعدّدة. والنتيجة التي وصل إليها البحث أن الصيام يقلل من نسبة النمو الاقتصادي، ولكنه يزيد مستوى السعادة والرضا. ولا يعود سبب التراجع بالضرورة إلى الصيام، ولكنه يتأثر باختيارات الفرد المسلم للمهنة التي يريد ممارستها، حيث لا يكون متحمساً لها أصلاً، وليس بسبب الصيام. وأكدت الدراسة أن عوامل خارجية ليس لها علاقة بالصيام هي التي تغري باتخاذ الصيام حجة لتقليل ساعات العمل.

الصوم والنمو الاقتصادي

وهنالك دراساتٌ عديدة عن أثر الممارسات الدينية على النمو الاقتصادي. ولكن ما لم أجده واضحاً ومدروساً دراسة علمية هو أثر الصيام على الاستهلاك. ومن الواضح أن النتائج سوف تتفاوت من دولة إلى أخرى، وبين فئة من المسلمين وفئة أخرى، فهنالك من يرى أن الصيام عبادة يجب أن تُمارس، وأن يقدّم المسلم فيها الدليل على أن الصيام هو امتحان للنفس ومثابرتها.

وهو كذلك دعم للمشاعر مع الفقراء والمحرومين. وهو أيضاً شهر الوفاء بفريضة الزكاة وصدقة الفطر. وهو ليس شهراً للكسل، والإفراط في تناول الأكل والأطايب من الطعام.

وهنالك من يرى في الصيام مشقة، وأن الجسم يكون في آخر اليوم بحاجة إلى الطعام الدسم، والشراب، خصوصا قمر الدين والعرقسوس والخرّوب، وإلى الحلويات الدسمة، كالقطائف والكنافة ولقمة القاضي (العوامة) وكرابيج حلب والبقلاوة والزلابية وغيرها.

إذن، من الواضح أن كل الإحصاءات تشير إلى زيادة الاستهلاك في شهر رمضان. ومن ناحية التسوق، التبضع وزيارة الأسواق في أثناء الصوم يفتحان الشهية على المبالغة في الشراء، خصوصا في الأيام الأولى من رمضان.

السلع الموسمية

وهنالك سلع موسمية إما أنها حكر على رمضان، أو أن الطلب عليها يزداد خلال الشهر. ومن السلع الخاصة بشهر رمضان القطائف في بلاد الشرق العربي، وشراب المشمش أو القمر دين. بينما يزداد الطلب في هذا الشهر على التمور والحلويات والشوربات وغيرها. ولكن أهمية الموسم تتجلى أكثر في مشتريات العيد، كالكعك المحلى (المعمول)، أو الشكولاتة، وملابس العيد خصوصا الأطفال، وزيارة الأقارب وتقديم الهدايا النقدية أو العينية للأطفال والنساء.

اقتصاديات الصيام كثيرة، ومعظم دراسات أثره تجرى في دول غير عربية، علماً أن فهم أساليب الاستهلاك وممارسة العمل والتكافل هي مظاهر تستحق الدراسة، لما لها من أثر على العرض والطلب على السلع المختلفة، وزيادة الإنتاجية الاجتماعية.

*د. جواد العناني سياسي وخبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء ورئيس الديوان الملكي الأردني الأسبق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى