أقلام وأراء

د. جمال عبد الجواد: تحديات بناء الدولة العربية

د. جمال عبد الجواد 30-4-2025: تحديات بناء الدولة العربية

سقط نظام الأسد، لكن سوريا مازالت ممزقة. بعض السوريين لا يثقون فى بعضهم الآخر، ويخشون تسلطنهم عليهم. الوضع فى سوريا هو الأكثر مأساوية بالمقارنة بين الدول العربية التى ولدت نتيجة اتفاقات سايكس بيكو الاستعمارية. لسنوات طويلة اعتدنا نحن العرب توجيه سهام النقد لخطة سايكس بيكو التى أسست دول المشرق العربى ورسمت حدودها، فاعتبرنا سايكس بيكو سببا لكل البلايا التى أصابت العرب. تقوم سردية التجزئة والوحدة على القول إن وحدة العرب هى الأصل، وأن تجزئتهم إلى دول مستقلة هو انحراف عن الوضع الطبيعى، وأن هذا الانحراف هو المسئول عن كل ما أصاب العرب من انتكاسات وهزائم. لا تشرح هذه السردية الأسباب التى منعت قيام الوحدة بين بلاد عربية حكمها الهاشميون، منبت فكرة الوحدة العربية؛ أو بين بلاد عربية حكمها البعث، أهم أحزاب القومية العربية؛ أو فشل الوحدة المصرية السورية التى لم يتجاوز عمرها السنوات الأربع.

أتأمل السردية الوحدوية فلا أستطيع منع نفسى من التساؤل عن أسباب السلم الأهلى المهدور فى سوريا ولبنان والعراق، وعما إذا كان الأمر ليكون أفضل حالا لو أن كل هذه البلاد، مع بلاد عربية أخرى، قد تم جمعها معا فى دولة عربية واحدة كبيرة، تمتد من الخليج إلى البحر المتوسط، وربما إلى المحيط الأطلنطي. لقد ضرب العنف العلاقة بين مكونات الكيانات الصغيرة الناتجة عن التجزئة المفترضة، فهل كان السلام ليحل لو تم جمع كل هذه المكونات فى دولة واحدة كبيرة؟

رسم حدود الدول فى سايكس بيكو كان اعتباطيا يعكس مصالح الدول الاستعمارية. هذا صحيح تماما. لم يفكر الاستعماريون ولو لثانية واحدة فى مصالح أهل البلاد، فهل لو فعلوا كانوا ليجمعون البلاد العربية فى دولة واحدة، أم كانوا ليقيمون دولا أصغر، تتيح للأقليات استقلالا ذاتيا تسعى إليه اليوم؟ هل كنا وقتها سنرضى عن سايكس بيكو؟

مشكلة العرب هى الانشغال بقضية التجزئة والوحدة المتخيلة، بدلا من التعامل مع المشكلات الواقعية لبناء الدولة. كمية الحبر الذى سال لكتابة مقالات وتأليف كتب عن التجزئة والوحدة تزيد بآلاف المرات عما تمت كتابته عن بناء الدولة الوطنية. انشغل المثقفون العرب بالتفكير فى الأمة، العربية أو الإسلامية، بينما كان عليهم الانشغال بالتفكير فى الدولة.أهدرنا الطاقات، وتهربنا من التحديات الصعبة لبناء الدولة من أجل الصراعات البلاغية والمؤامرات السياسية وحروب الإعلام التى شاعت فى زمن الحرب ضد التجزئة ولملاحقة سراب الوحدة.

الدولة الوطنية الحديثة التى منحها الاستعمار لأهل المشرق هى دولة تم تصميمها فى موطنها الأصلى لكى تدار بالمؤسسات وليس بالأشخاص. دولة تحكمها قوانين مكتوبة تنطبق على الكافة، متحررة من نزوات الحكام والقضاة. لا يوجد ميليشيات فى الدولة الوطنية الحديثة التى تحتكر الحق فى استخدام الإكراه والعنف، غير مقيدة سوى بالقانون. الدولة الوطنية الحديثة هى دولة الوطن، تبدأ وتنتهى بالحدود المرسومة لها، وفيها يتمتع الناس بالمساواة، بغض النظر عن الدين والعرق واللغة والمذهب والطائفة. هذا هو النموذج المثالى للدولة الوطنية الحديثة، والذى تعرض لتشويه متعدد الأبعاد فى منطقتنا.

بناء الدولة يحتاج إلى بناء كتلة اجتماعية سياسية تتماهى مع الدولة فى حدودها القائمة، وتقبل وتؤيد شرعية النخبة الحاكمة. تظل الدولة مصطنعة أو مختطفة حتى تتكون كتلة اجتماعية سياسية تشعر بعمق وإخلاص بأن الدولة دولتها، وأنها أفضل تعبير عنها، وأنها الإطار السياسى الأنسب لها، وأن وضعها سيكون أسوأ كثيرا فى أى إطار سياسى آخر. كلما كانت هذه الكتلة الاجتماعية أوسع كان أفضل، وكلما ضمت هذه الكتلة عددا أكبر من المكونات الطائفية والمذهبية والعرقية والقومية كان أفضل أيضا. الدولة هى تعبير معنوى عن انتصار الوحدة على الاختلاف، والعام على الخاص، والمصلحة العامة على الخاصة.بناء الدولة ليس مرادفا للتنمية والعمران، ولا هومرادف للتخلص من الاستعمار، ما لم يتم توظيف كل ذلك لبناء وتعزيز الكتلة الاجتماعية المساندة للدولة. تأسيس الدولة هو بالأساس عملية بناء توافق اجتماعى وسياسى واسع النطاق، وبلورته فى مؤسسات تحميه، ونصوص قانونية ودستورية تنظمه، وعندما تفتقر الدولة إلى هذه العناصر فإنها تلجأ إلى العنف لتعويض ما ينقصها، فتتحول المشكلة إلى كارثة.

لاحظ أن بلاد العرب تم حكمها لقرون طويلة بنظام الخلافة والسلطنة العابر للحدود والقوميات، والذى احتكرت فيه السلطة جماعات عرقية غير عربية، من الأتراك والفرس والمماليك. وضعت سايكس بيكو المجتمعات العربية أمام اختبارين متداخلين. الاختبار الأول هو ما إذا كانت تبعية مجتمعات العرب للمجتمعات والمراكز الحضارية المجاورة أمرا أبديا، أم أن المجتمعات العربية تملك خصائص ونسيجا اجتماعيا يميزها، ويبرر تمتعها بالاستقلال الذاتى والسيادة تجاه المحيط الثقافى المجاور. الاختبار الثانى هو ما إذا كانت المجتمعات العربية قادرة على إنتاج نخب حاكمة، تمارس السلطة باقتدار، مستقلة عن مراكز السلطة فى الجوار، وقادرة على بناء كتلة اجتماعية مساندة للدولة. حتى الآن لا يوجد ما يدعو للاعتقاد أن دول المشرق العربى نجحت فى اجتياز هذين الاختبارين إلا بشكل جزئى جدا. ليس فى هذا حكم على المستقبل أو مصادرة له، فالفرصة قائمة، وإن كانت خبرات الفشل والقمع السابقة تجعل الأمر أكثر صعوبة، بعد أن تراكمت الدماء والضغائن خلال سنوات الإخفاق الطويل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى