أقلام وأراء

د. جمال عبدالجواد: من «طوفان الأقصى» إلى حل الدولتين

د. جمال عبدالجواد 21-11-2023

كيف سيبدو المشهد فى المنطقة بعد نهاية الحرب الدائرة فى غزة؟ الجميع متفقون على أن الشرق الأوسط بعد «طوفان الأقصى» الحمساوى وسيوف إسرائيل الحديدية لن يكون كما كان قبلهما، لكن لا أحد يدلنا على شكل الشرق الأوسط الذى ستسفر عنه هذه الحرب، وهل سيكون أفضل أم أسوأ حالا من الشرق الأوسط الحالى؟ الجميع على يقين من أنه من المستحيل للأمور أن تبقى على حالها بعد هذا الحجم الهائل من الدمار والتقتيل، لكن فيما وراء هذا الإجماع تبدو صورة المستقبل شديدة الغموض.لدينا ما يكفى من المعطيات لاستشراف الحال الذى ستكون عليه بعض عناصر الموقف فى نهاية الحرب الدائرة الآن، وإن كنا لا نستطيع التنبؤ بالمآل بعيد المدى لهذه العناصر نفسها، أو الطريقة التى ستتفاعل بها العناصر المختلفة المكونة للمشهد مع بعضها.لنبدأ باستبعاد السيناريوهات الأقل احتمالا وغير المرجحة، بغض النظر عن حبنا أو بغضنا لها. ما إن وصلت أخبار «طوفان الأقصى» إلا وخرج علينا المبشرون بنهاية إسرائيل. بعد أكثر من شهر من القتال لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن الحرب الراهنة ستكون القاضية بالنسبة لإسرائيل. هذا سيناريو مستبعد تماما فى ظل موازين القوى الراهنة. ستخرج إسرائيل مجروحة، تشعر بالتهديد الوجودى أكثر من أى وقت مضى، لكنها لن تختفى، بل ستكون أكثر توحدا وتشددا.لن يصبح المجتمع الإسرائيلى أكثر استعدادا للسلام فى نهاية هذه الحرب. دخل المجتمع الإسرائيلى خلال العقدين الأخيرين فى موجة تحول ناحية اليمين القومى والدينى، وتراجع قوى الوسط واليسار. لن يتغير هذا المسار نتيجة الحرب الراهنة، ولن نرى ازدهارا لأحزاب اليسار والوسط وحركات السلام التى عرفناها قبل ثلاثين عاما. على العكس، فالأرجح أن يتعزز موقع قوى اليمين بسبب مشاعر الكراهية والتعصب التى أطلقها «طوفان الأقصى» فى إسرائيل. أحدث استطلاعات الرأى تشير إلى أن 58% من الإسرائيليين يرون أن الجيش الإسرائيلى لا يستخدم القوة بشكل كاف فى حرب غزة، بينما تراجعت نسبة الإسرائيليين المؤيدين لحل الدولتين من 38% إلى 29%، وانخفض المؤيدون للتفاوض مع السلطة الفلسطينية من 47٪ قبل الحرب، إلى 24% بعهدها، وهى النسبة الأقل على الإطلاق فى الثلاثين عاما الأخيرة.سيفقد رئيس الوزراء نيتانياهو منصبه، لكن الخريطة السياسية الجديدة لن تكون أقل تشددا، وإن أصبحت أكثر تعقلا بسبب صعود شخصيات قيادية جديدة لديها قدر أقل من الانحرافات والعقد النفسية والأجندات الخاصة.القضاء على حركة حماس هو أحد أهداف إسرائيل فى الحرب الراهنة، لكن حماس لن تختفى فى نهاية هذه الحرب. لحركة حماس جذور أكثر عمقا من أن تطيح بها الحرب الراهنة، وسيظل خيار المقاومة المسلحة مطروحا طالما حُرم الفلسطينيون من حقوقهم الوطنية المشروعة. ستخرج حماس من هذه الحرب وهى أضعف كثيرا مما كانت عليه قبلها. إنهاء حكم حماس فى غزة هو أمر مرجح، لكن تثبيت حكومة بديلة مستقرة وقوية سيواجه صعوبات حقيقية، والأمر يتوقف فى النهاية على ما تتمتع به الحركات السياسية الفلسطينية البديلة من تأييد، خاصة أن حماس ستبقى قادرة على عرقلة خطط وسياسات السلطات البديلة، سواء عبر اللجوء إلى العنف أو عبر التحريض وإثارة القلاقل ونزع الشرعية.ما يجرى فى غزة هو مجزرة بالغة القسوة والوحشية، وهى مجزرة قابلة للتكرار مالم نضع حدا للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، من خلال تمكين الفلسطينيين من إنشاء دولتهم المستقلة.لا يوجد أى شىء إيجابى فى الأزمة الراهنة باستثناء ما أدت إليه من شيوع الإدراك بالضرورة الملحة لوضع حل الدولتين موضع التطبيق. سيكون رائعا لو انقشع الدمار الحادث فى غزة ليسفر عن دولة فلسطينية تضع حدا نهائيا لهذا الصراع، فتصبح حرب غزة 2023 هى آخر الحروب الفلسطينية – الإسرائيلية، كما كانت حرب أكتوبر 1973 هى آخر الحروب بين مصر وإسرائيل، فهل هذا ممكن فى ظل المسافة الشاسعة بين السلام الموعود وما يحدث فى غزة من دمار وتقتيل؟للولايات المتحدة دور حاسم فى تقرير مستقبل المنطقة. تقدم أمريكا دعما هائلا لإسرائيل، وهى لا تنقطع عن التبشير بالسلام وحل الدولتين الذى ستأتى لنا به بعد توقف القتال. الإلحاح الأمريكى على حل الدولتين هو من العناصر الإيجابية القليلة فى الوضع الراهن، فهل سيواصل الأمريكيون تبنى مشروع الدولتين لفترة تكفى للتغلب على الصعاب الكثيرة، أم أنهم سرعان ما سينشغلون بانتخابات رئاسية تنتظرهم، وحرب فى أوكرانيا أصابها الجمود، ومنافس صينى يواصل الصعود والتحدى؟فشلنا فى تحقيق حل الدولتين عندما كان لدينا حزب العمل وإسحاق رابين وإيهود باراك ومنظمة التحرير الفلسطينية وأبو عمار وبيل كلينتون، فهل نحققه ولدينا أحزاب اليمين وبنيامين نيتانياهو وآخرون ينادون بقصف الفلسطينيين بالسلاح النووى وتهجيرهم من بلادهم، بالإضافة إلى حماس ويحيى السنوار؟لا يبدو أن «طوفان الأقصى» والسيوف الحديدية سيمنحاننا سلاما فشلت اتفاقات أوسلو فى منحه لنا، فيما يبدو وعد الدولة الفلسطينية بعيد المنال، وتفكيرا تبشيريا لا تسنده حقائق الواقع.لقد جعلتنا قسوة ومخاطر الحرب فى غزة أكثر إدراكا لأهمية وضرورة وإلحاح حل الدولتين، لكنها لم توفر الشروط الضرورية لتحقيق هذا الحل. توفير شروط حل الدولتين إسرائيليا وفلسطينيا وأمريكيا هو المهمة المباشرة، أما سلام الشرق الأوسط فسوف يكون عليه الانتظار حتى تتوافر هذه الشروط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى