د. جمال عبدالجواد: ترامب رئيسا مرة جديدة
د. جمال عبدالجواد 29-11-2024: ترامب رئيسا مرة جديدة
عندما ترشح الرئيس ترامب للرئاسة لأول مرة لم يأخذه الكثيرون بجدية، فالرجل غريب عن الطبقة السياسية الأمريكية، ولم يسبق له خوض أى انتخابات، ولا تولى القيادة إلا فى مؤسسته المتخصصة فى الاستثمار العقارى وأنشطة الترفيه. غير أن ترامب لم يكن غريبا عن نخب المال والشهرة والإعلام فى أمريكا، فهو واحد من أغنى أغنياء البلاد، وأكثرهم شهرة بسبب البرامج التى قدمها فى قنوات تليفزيون قومية لسنوات طويلة، وظهوره المتكرر فى أنشطة استعراضية، من تمثيل أدوار صغيرة فى السينما إلى المشاركة فى بعض حلقات المصارعة الاستعراضية. كان ترامب معروفا صورة واسما لجمهور الناخبين الأمريكيين، وربما باستثناء رؤساء أمريكا وقلة أخرى قليلة جدا، تمتع ترامب بشهرة زادت على أغلب السياسيين الأمريكيين.
فار ترامب بانتخابات الرئاسة عام 2016 رغم أن استطلاعات الرأى كانت ترجح فوز السيدة هيلارى كلينتون، التى حصلت على النسبة الأكبر من التصويت الشعبى، لكنها خسرت الأغلبية فى المجمع الانتخابي. تشير روايات المحيطين بالرئيس ترامب إلى أن نتيجة الانتخابات كانت مفاجأة للرئيس الفائز نفسه، الذى لم يكن قد أعد نفسه لهذا الاحتمال بشكل جدى، فوجدناه طوال الشهور التالية، وحتى قرب نهاية فترة رئاسته فى عام 2020، دائم البحث عن مرشحين لشغل مناصب إدارته، ودائم التخلص من مساعدين وتعيين غيرهم، بحثا عن مساعدين يتسمون بالولاء، يناسبون طريقته فى العمل، ورؤيته للعالم.
لقد تغير كل هذا فى الانتخابات الأخيرة، بعد أن حول ترامب نفسه من مرشح متطفل على الحياة السياسية الأمريكية، إلى رمز وزعيم لأهم تيار سياسى فى أمريكا المعاصرة. هذا هو ما نجح ترامب فى تحقيقه بعد خمس سنوات من العمل الشاق فى مواجهة معارضيه الديمقراطيين الذين أنهكوه فى عديد الملاحقات القضائية، وعرضوه لحملات قاسية لتشويه السمعة. رغم هذا فإن ترامب وتياره فازوا بالتصويت الشعبى، والمجمع الانتخابى، ومجلس الشيوخ، ومجلس النواب. إنه فوز رباعى، وليس فوزا واحدا.
أفلتت أمريكا من أزمة كبيرة والفضل يرجع إلى الفوز الساحق للرئيس ترامب. فالأمر كان يمكن أن يكون شديد السوء لو خسر ترامب بفارق ضئيل، عندها كان يمكن لأنصاره المتحمسين الطعن فى كل صندوق وكل صوت، وكان من الممكن أن نشهد معارك قانونية وغير قانونية، تهون بجانبها أحداث اجتياح الكونجرس فى السادس من يناير عام 2021.
لم يضيع ترامب وقتا، وراح فى كل يوم منذ انتخابه يكشف عن اختياراته لشغل مناصب رئيسية فى إدارته، حتى اكتمل عقد كبار موظفى الإدارة قبل مرور ثلاثة أسابيع بعد الانتخابات. فدونالد ترامب لم يعد وحيدا وغريبا عن الطبقة السياسية بعد أن التحق به عدد كبيرة من المؤيدين، كان من السهل عليه أن يجد بينهم ما يبحث عنه فى مساعديه.
فوز ترامب الكاسح هو الظاهرة الأهم التى ستبقى موضوعا للدراسة والتحليل لوقت ليس قصيرا. لقد صوت لترامب أغلبية الناخبين أساسابسبب الوضع الاقتصادى السيئ، والأداء الضعيف للرئيس بايدن على الساحة الدولية. هكذا هو الحال مع عموم الناخبين، يتخذون قرار التصويت بطريقة بسيطة نسبيا، وفقا لأحدث صورة تحتفظ بها ذاكرتهم عن أداء الإدارة الموجودة فى الحكم، وليس نتيجة لتفكير عميق، يأخذ العوامل المختلفة فى الاعتبار. اللافت للنظر هو أن قطاعات من النخب الأمريكية التحقت بمعسكر الرئيس ترامب، ليس بالضرورة اقتناعا بأفكاره، فقد كان بعضهم معارضا له حتى وقت ليس بعيدا، وإنما ببساطة لأن نجاحه كان مرجحا، والكثيرون من هؤلاء أرادوا أن يكونوا ضمن الفريق الفائز، لرئيس سيترك الرئاسة بعد أربع سنوات، مفسحا المجال للطامحين فى خلافته.
فى معسكر الرئيس ترامب ألوان أيديولوجية متعددة. فهناك من يرفضون البيروقراطية المفرطة، وهناك من يرفضون حكم الأجهزة والدولة العميقة، وهناك من يكرهون اليسار، وهناك محافظون اجتماعيون ومتدينون متشددون، وهناك انتهازيون يريدون ببساطة ركوب الحصان الرابح.
المليونير المخترع إيلون ماسك هو أحد هؤلاء، فقد صوت للمرشح الديمقراطى منذ انتخب الرئيس أوباما لأول مرة، حتى انتخب الرئيس بايدن فى الانتخابات السابقة، ولم يسبق له الانحياز للمرشح الجمهورى إلا هذه المرة. قام إيلون ماسك بإقناع جى دى فانس بالاقتراب من الرئيس ترامب، وإقناع الأخير باختيار فانس نائبا له. كان فانس معارضا لترامب حتى وقت قريب جدا، ومن يقرأ الكتاب الوحيد الذى ألفه، يجد فيه اعتدالا وحسا اجتماعيا وديمقراطيا واحتراما للمؤسسات السياسية، وموضوعية فى الحكم على مخالفيه، فى اختلاف واضح عما يعبر عنه الرئيس ترامب.
اختار الرئيس ترامب البليونير سكوت بسنت وزيرا للمالية. حتى عام مضى كان بسنت يعتبر نفسه ديمقراطيا، وهو مثلى متزوج من شريك له، ولديه أولاد حملتهم أمهات متطوعات. مع هذا فإن سكوت بسنت يجد لنفسه مكانا فى إدارة جمهورية انتخبها جمهور ذو مزاج محافظ ومتدين، ثار ضد ما يعتبره تحللا اجتماعيا وحريات مفرطة يرفع اليسار راياتها.
ترامب يكره البيروقراطية ويكره اليسار، لكنه ليس محافظا اجتماعيا، ولا وهو متدينا، ولا هو من أتباع الكنائس الإنجيلية المتيمة بحب إسرائيل، وإن كان استطاع الفوز بتأييد كل هؤلاء، باعتباره المرشح القادر على إدخال أفكارهم إلى البيت الأبيض. وجود الرئيس ترامب فى البيت الأبيض يحفظ وحدة وتماسك مؤيديه، غير أن الاختبار الحقيقى لتيار الرئيس ترامب العريض سيحدث بعد انتهاء رئاسته فى عام 2029.
مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook