أقلام وأراء

د. جمال عبدالجواد: تجديد الوجود الأمريكى فى الشرق الأوسط

د. جمال عبدالجواد 23-5-2025: تجديد الوجود الأمريكى فى الشرق الأوسط

فى زياراته لدول الخليج تحدث الرئيس الأمريكى مرارا عن قوة أمريكا العسكرية التى لا يضاهيها أى بلد آخر، واستعرض التحديثات المذهلة الجارى إدخالها على الترسانة الأمريكية. زار الرئيس ترامب القاعدة الأمريكية فى قطر، وفاخر بالميزانية العسكرية الأمريكية التى قاربت التريليون دولار. لم يكن حديث الرئيس عن القوة العسكرية الأمريكية فى الخليج من قبيل التفاخر الفارغ، فقد أكد فى كل مرة تحدث فيها عن القوة العسكرية الأمريكية أن هذه القوة هى للدفاع عن أمريكا وأصدقائها، نعم أصدقائها، على عكس ما هو معروف عن الرئيس الأمريكى من شح شديد فى توفير الضمانات الأمنية للحلفاء والأصدقاء. زيارة الرئيس ترامب للخليج، وما شملته من قرارات واتفاقات هى إعلان تجديد الالتزام الأمريكى بأمن الخليج، بعد فترة حامت فيها شكوك قوية حول جدية الالتزام الأمريكى بأمن المنطقة.

اتجهت الإدارات الأمريكية منذ رئاسة باراك أوباما للحد من التزامات أمريكا فى الشرق الأوسط. حدث هذا بسبب صعود القوة الصينية، والحاجة لتوجيه قسم أكبر من الموارد الأمريكية لآسيا والمحيط الهادي. حدث هذا أيضا بسبب النظرة السلبية لمصادر الطاقة الأحفورية باعتبارها المسئولة عن الاحترار العالمى، والاتجاه المتزايد للاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة النظيفة، بما انطوى عليه ذلك من تراجع أسهم الدول المنتجة للنفط. حدث تراجع الاهتمام الأمريكى بالشرق الأوسط أيضا بسبب تراجع أهمية نفط المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، التى أصبحت تحتل المركز الرابع بين أكبر مصدرى النفط فى العالم، والمركز الأول بين مصدرى الغاز، فأصبحت منافسا لدول الخليج، وتراجع اهتمامها بتأمين إمدادات النفط القادم من المنطقة، والذى يذهب معظمه لمنافسيها فى آسيا.

رغم الاختلافات الكبيرة بينهما، فإن الرئيسين ترامب وبايدن اتبعا سياسات متشابهة فيما يخص تراجع الاهتمام الأمريكى بالمنطقة. لقد كان عام 2019، فى منتصف فترة رئاسة ترامب الأولى، عاما حاسما، ففى شهر مايو من ذلك العام تعرضت سفن تجارية من جنسيات مختلفة لعمليات تخريب فى أثناء رسوها فى ميناء تابع لدولة الإمارات. فى سبتمبر من العام نفسه هاجمت مسيرات انطلقت من اليمن منشآت نفط سعودية رئيسية تقع على بعد خمسمائة كيلومتر داخل أراضى المملكة. الحادثان على خطورتهما مرا من دون رد فعل من جانب الولايات المتحدة التى كان يظن حتى ذلك الوقت أنها معنية بأمن الخليج. فى يناير 2022، بعد عام من بدء رئاسة الديمقراطى بايدن، تعرض مطار أبو ظبى لهجوم بمسيرات قادمة أيضا من اليمن. مثل الاعتداءات السابقة، مر الهجوم على مطار أبو ظبى دون رد فعل من جانب الأمريكيين. قبل ذلك بستة أشهر كانت إدارة بايدن قد سحبت بطاريات دفاع جوى من طرازات باتريوت وثاد من الشرق الأوسط وأعادت نشرها فى آسيا.

أعادت هذه التطورات طرح السؤال القديم عن أمن الخليج. منطقة شديدة الثراء، يطمع فيها الكثيرون، وتعانى خللا سكانيا بالغا. المصالحة مع إيران، والانفتاح على الصين وروسيا كانت هى الرد الخليجى على التهديدات فى طبعتها الأحدث. لكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيا، وأنه كان من الضرورى استعادة التزام أمريكا بأمن الخليج، الأمر الذى تحقق فى جولة الرئيس ترامب الأخيرة.

لم يعد نفط الخليج سببا كافيا لاهتمام أمريكا بأمن المنطقة، لكن المال الوفير الموجود فى المنطقة يقدم سببا بديلا للاهتمام بها. للرئيس الأمريكى طريقة خاصة فى النظر إلى القدرات الأمريكية. سوق أمريكا الكبيرة، وقدراتها العسكرية المتفوقة هى أهم ما تملكه الولايات المتحدة، ويجب عدم التفريط فى هذين العنصرين أو إتاحتهما مجانا للآخرين. فمن يرد الدخول بصادراته إلى السوق الأمريكية فعليه فتح سوقه لدخول السلع الأمريكية؛ ومن يرد التمتع بالحماية الأمريكية فعليه دفع مقابل ذلك، لأن الأمن ليس خدمة مجانية تقدمها الولايات المتحدة للمحتاجين والضعفاء. الاضطراب الكبير الذى أحدثه الرئيس الأمريكى فى النظام الدولى منذ وصوله ثانية للبيت الأبيض يدور حول هاتين النقطتين: إعادة التفاوض حول شروط الدخول إلى السوق الأمريكية الكبيرة، وحول شروط التمتع بالحماية الأمريكية، وقد تم الربط المحكم بين الاقتصاد والأمن فى الجولة الخليجية.

ما حدث فى جولة ترامب الخليجية الأخيرة هو عملية تجديد وإعادة صياغة للروابط بين الولايات المتحدة ودول الخليج. فى الماضى كانت دول الخليج تصدر النفط، وتشترى السلاح الأمريكى، وتحصل على الأمن. لم يعد هذا كافيا بالنسبة للرئيس ترامب، الذى يرى أنه على الدول المستفيدة من الحماية الأمريكية شراء السلاح بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من السلع والخدمات الأمريكية، والدخول فى علاقات استثمار سخية مع الولايات المتحدة. على عكس الماضى، فإن الأموال لن يتم دفعها مقابل الحصول على سلع رفاهية استهلاكية، لكن مقابل مشروعات فى مجالات الدفاع والتطوير والتكنولوجيا والطاقة، ضمن خطة تحديث الاقتصاد والمجتمع فى بلدان الخليج. لقد تم إرضاء الرئيس ترامب ومجتمع الأعمال الأمريكى، لكن أيضا تم تعظيم الاستفادة لمجتمعات واقتصادات الخليج.

لقد جددت الولايات المتحدة التزامها بأمن الخليج، ويرتبط بذلك زيادة الوجود الأمريكى فى المنطقة، فهل هذا أمر إيجابى أم سلبى من وجهة نظر دول الشرق الأوسط الأوسع؟ وكيف يمكن التكيف مع هذا المتغير المهم، وتعظيم الفوائد التى يمكن تحقيقها من ورائه والحد من مخاطره؟.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى