د. جمال عبدالجواد: الصراع من أجل البقاء فى الشرق الأوسط
إلى جانب الصراعات المرتبطة بفلسطين، توجد أيضا فئة صراعات الدول الفاشلة. لدينا صراع مسلح يكتسب بسرعة أبعادا إقليمية فى السودان. لدينا حروب أهلية غير منتهية فى سوريا وليبيا، واليمن. لا يوجد إقليم آخر فى العالم فى وقتنا الراهن فيه كل هذا العدد من الصراعات، وكل هذه الكثافة فى استخدام القوة المسلحة.
الميليشيات هى العامل المشترك بين نوعى الحروب الدائرة فى المنطقة. سواء دار الصراع المسلح من أجل التحرر أو من أجل التمرد، فالميليشيات هى طرف مباشر فى الصراع. لا توجد حروب بين دول الشرق الأوسط، فالدول تقف وراء ستار تمول وتسلح وتدرب ميليشيات تخوض الحرب نيابة عنها.
الحروب المباشرة بين الدول لها بداية ولها نهاية، ويمكن تسويتها ووضع حد لها. الدولة لديها مدن ومراكز اقتصادية ومصادر للثروة وسكان هى مسئولة عن سلامتهم وأمنهم، وتدير شئونها من مقار حكومية معروفة تمثل رمزا ومصدرا للشرعية. تخشى الدولة تعريض كل هذه المقدرات للخطر، لذا نجدها تتصرف بعقلانية ومنطق يمكن فهمه، وفقا لحسابات يمكن توقعها. الميليشيات، على عكس ذلك، ليس لديها ما تخسره، لذا فإنها على ضعفها يمكنها مواصلة القتال لفترات طويلة. نوع العقلانية الحاكمة لحسابات الميليشيات يصعب فهمه أو توقعه. ليس لدى الميليشيات مقدرات تخسرها، لذا يكون من الصعب الانتصار عليها أو ردعها عبر التهديد بالحرمان منها.
ليس للميليشيا أزياء مميزة أو مقار وقواعد خاصة منفصلة عن المدنيين، بما يوفر لها حماية الدروع البشرية. تكنولوجيا الحرب الحديثة، خاصة الصواريخ والمسيرات وأجهزة التحكم والاتصال تخدم الميليشيات، فتمنحها قدرات هجومية كبيرة رغم ضعف إمكاناتها. ليس من المستحيل إلحاق الهزيمة بالميليشيا، لكن التكلفة السياسية لذلك لا يمكن تحملها. ربما تستطيع إسرائيل إلحاق هزيمة كاملة بحماس لكن عليها قبل ذلك قتل مائة ألف مدنى فلسطيني. تستطيع الولايات المتحدة إلحاق الهزيمة بالحوثى لو كانت مستعدة للدخول فى حرب طويلة فى اليمن، وهو أمر مستبعد تماما بعد أن تم تبديد طاقة أمريكا على الحرب فى حروب أفغانستان والعراق غير الضرورية خلال العقدين السابقين.
الشرق الأوسط الراهن مكان شديد الخطورة والتعقيد. فى الشرق الأوسط الكثير من الصراعات والأطماع والتمرد على الأمر الواقع، ولا توجد فيه مؤسسات إقليمية أو دولية تعمل وفقا لقواعد متفق عليها، تضمن السلم والأمن، وتحمى الضعفاء. لا رحمة للغافلين فى الشرق الأوسط، فما أن تظهر علامات الضعف أو التراخى على جماعة أو دولة إلا وينقض عليها الطامعون. من الضرورى فى الشرق الأوسط التسلح بالقوة طوال الوقت، وإظهار الاستعداد لاستخدامها من حين لآخر ردعا للطامعين.
الصراعات فى الشرق الأوسط تبدأ لكنها نادرا ما تنتهى، فتواصل التزاحم فى فضاء المنطقة الملبد بالغبار والدخان ورائحة الدم. هل تذكر آخر مرة تم فيها وضع نهاية لأحد صراعات المنطقة الدامية؟ ربما كان ذلك عندما توصل فرقاء الشمال والجنوب فى السودان لاتفاق أفضى إلى انفصال الجنوب، وفتح الباب لطائفة جديدة من الصراعات. صراعات الشرق الأوسط لا تنتهى لكنها تتحول إلى صراعات أخرى بأشكال جديدة. الأفضل هو تجنب بدء صراع فى هذه المنطقة التى تعرف كيف تبدأ الصراعات لكنها لا تعرف كيف تنهيها.
الاستعداد للحرب والعمل على تجنبها. هذه هى الصيغة النموذجية للإبحار فى مياه الشرق الأوسط المضطربة. توصية منطقية سليمة يسهل قولها، لكن تنفيذها شديد الصعوبة. على الدول أن تستعد للقتال، لأن ظهور علامات الضعف أو التردد فى استخدام القوة يغرى على الابتزاز والعدوان. فى نفس الوقت فإن الانزلاق للحرب قد ينتهى بالدولة فى صراعات ممتدة تستنزف مواردها. تجنب الحرب يظل أفضل من التورط فيها. الدبلوماسية والسياسة هى الجسر الذى يمكنه التوفيق بين التناقضات الكامنة فى صيغة الاستعداد للحرب والعمل على تجنبها.
هل هناك إمكانية للذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك فى الشرق الأوسط؟ هل يمكن الانتقال إلى مرحلة يتم فيها حل صراعات المنطقة بدلا من الاكتفاء بالاستعداد لخوضها أو تجنبها؟ هل يمكن تحويل الميليشيات إلى دول، لها عنوان نتحدث معه، ومصالح تدافع عنها، وحسابات منطقية عقلانية يمكن فهمها؟ هل يمكن إعطاء الفلسطينيين دولتهم الوطنية التى طالما حرموا منها؟ هل يمكن دمج ميليشيات الدول الفاشلة فى كيانات الدول القائمة، أو الاعتراف بالأمر الواقع وتحويل الميليشيات إلى دول بدلا من الدول القائمة العاجزة عن الاستمرار؟ السلام والاستقرار فى الشرق الأوسط يستحق منا بعض التفكير الخلاق.