د. جمال عبدالجواد: البحث عن قواعد جديدة للاشتباك فى المنطقة
د. جمال عبدالجواد 29-4-2024: البحث عن قواعد جديدة للاشتباك فى المنطقة
التحولات العميقة تواصل الحدوث فى الشرق الأوسط، وآخرها الهجمات الإيرانية المباشرة على إسرائيل. هذا تحول كبير بالفعل، فبعد خمسة وأربعين عاما من التهديد والوعيد الإيرانى بإزالة إسرائيل من الخريطة، اجتازت إيران الحواجز وقررت مهاجمة إسرائيل انطلاقا من الأراضى الإيرانية. انتهت هذه الجولة، وأخذ كل طرف يحصى مكاسبه وخسائره، وفيما يشعر البعض بالارتياح لوقوف الأمور عند هذا الحد، ولو مؤقتا، فإن البوابات التى تم فتحها تنذر باحتمالات شديدة الخطورة.
الوعد الصادق هو الاسم الذى أطلقته طهران على ضربتها لإسرائيل.الاسم كاشف لما يشغل بال قادة طهران، فإيران لأكثر من أربعين عاما تطلق الوعود بأن القضاء على إسرائيل هو أهم أهدافها، وأن نهاية الكيان الصهيونى ستكون على يديها، وأن كل التدخلات التى تقوم بها فى بلاد الجوار، فى لبنان وسوريا والعراق واليمن، لا تستهدف سوى تأسيس جبهة متراصة للتصدى لإسرائيل. تأخر الوعد الإيرانى كثيرا، وراجت الشكوك حول جدية إيران، حتى كادت تفقد مصداقيتها تماما عندما تركت حليفتها حماس تحارب وحدها معركة غزة، فيما كانت تدخلات الأذرع الإيرانية من لبنان واليمن والعراق ذات طابع رمزى غير كاف لتعديل الصورة.
تجاهلت إيران الحرب الإسرائيلية على غزة، لكن كان من الصعب عليها تجاهل القصف الإسرائيلى لقنصليتها فى دمشق،حيث الإهانة مباشرة، والتحرش والاستفزاز واضحان، والمحاولة الإٍسرائيلية لتغيير قواعد الاشتباك، عبر وضع المنشآت الرسمية الإيرانية فى الخارج، وليس فقط وكلاء إيران، ضمن قائمة الأهداف المسموح بضربها.
استجمعت إيران شجاعتها، وقصفت إسرائيل. إيران لا تكف عن التبشير بإنهاء إسرائيل، لكن الضربة الإيرانية الأخيرة ليس لها صلة بهذا الهدف، فهى فقط محاولة لرد الإهانة واستعادة المصداقية. عندما حاول الزعيم جمال عبد الناصر استعادة المصداقية فى مايو 1967 أدخل بلده فى حرب كبرى لم يتجاوز الشرق الأوسط نتائجها حتى الآن. إيران لا تقع فى مثل هذه الأخطاء، فهى تتصرف بحنكة بعد أن أخذت الاحتياطات اللازمة لكى يبقى الرد فى الحدود التى تم تصميمه لها:استعادة المصداقية، ومنع إسرائيل من تغيير قواعد الاشتباك، وليس جزءا من حملة عسكرية تستهدف القضاء على إسرائيل.
تقود إيران كتلة كبيرة من الأيديولوجيين المتحمسين المنتشرين فى ربوع الشرق الأوسط، إلا أن إيران تدير حساباتها بطريقة تختلف عن الطريقة التى يفكر بها أنصارها الشعبويون. نجحت إيران حتى الآن فى تجنب الوقوع فى فخ الانفعالات الشعبوية، مدركة الفرق بين حسابات الدول وسياسات الشارع. إلحاق الضرر بإسرائيل لم يكن هو الهدف الإيرانى من الضربة. على العكس، فإيران حرصت على عدم إلحاق ضرر مادى كبير بإسرائيل، حتى لا يتولد عن الضربة ضغينة تبقي، أو أقارب لضحايا يطالبون بالثأر. أوضحت إيران نياتها للأمريكيين ولجيرانها فى الإقليم، وعبر كل هؤلاء وصلت رسالة النيات الٍإيرانية إلى إسرائيل تجنبا لسوء الفهم، وحدوث مالا تحمد عقباه. إيضاح النيات والتواصل مع الخصم جزء لا يتجزأ من التفاعلات الاستراتيجية، حتى تحت القصف. هذا هو الدرس الذى علمنا إياه الرئيس السادات فى أكتوبر 1973، والذى طبقته إيران بحرفية.
قبل أن ينقشع غبار الهجمة الإيرانية، كان الإسرائيليون والإيرانيون يحتفلون. احتفل الإيرانيون بإنقاذ المصداقية، رغم أن إيران لم تقتل إٍسرائيليا واحدا أمام كل من قتلتهم إٍسرائيل من القيادات العسكرية الإيرانية. احتفل الإسرائيليون بإفشال الهجوم الإيراني، رغم أن صواريخ إيران نجحت فى الوصول بدقة إلى قاعدة عسكرية إسرائيلية فى النقب، فى دليل واضح على دقة الصواريخ الإيرانية، التى تغلبت على دفاعات إسرائيلية وأمريكية شديدة التقدم. هذه نقطة شديدة الأهمية قد تكون لها نتائج خطيرة فى المستقبل. إسرائيل تصدت للهجمة الإيرانية ضمن تحالف عريض يضم أطرافا دولية وإقليمية رئيسية، بينما وقفت إيران بمفردها. هذه أيضا نتيجة استراتيجية شديدة الأهمية ستكون لها آثارها على ما يأتى بعد ذلك.
أمريكا هى المهندس الحصيف لهذا المشهد النادر. أدركت أمريكا أن إيران لا يمكنها التغاضى عن قصف قنصليتها فى دمشق، وأن الرد الإيرانى قادم لا محالة. وجهت أمريكا لإيران رسائل شرحت فيها طبيعة الهجوم المسموح، بينما أسهمت بفعالية فى إفشال هذا الهجوم نفسه. أظهر الأمريكيون تفهما لحاجة إيران لرد الضربة إلى إسرائيل، بينما احتضنوا إسرائيل، للدفاع عنها من ناحية، ولكبح جماح رد فعلها من ناحية أخري. فى المرحلة التالية ربما يطلب الأمريكيون من إيران «تفويت» ضربة إسرائيلية رمزية لزوم حفظ ماء وجه تل أبيب، ولكتابة السطر الأخير فى مدونة قواعد الاشتباك الجديدة. هذا هو المنعطف الخطير التالي. أمريكا تريد إيقاف الأمور عند هذا الحد، ولو توقفت سلسلة التفاعلات العنيفة لكان هذا نجاحا كبيرا لواشنطن.
الموقف الآن أكثر خطورة بكثير مما كان عليه قبل الهجوم الإيراني، خاصة بالنسبة للدول العربية. لا توجد للعرب مصلحة فى صراع يدور بين قوتين توسعيتين تسعيان للهيمنة على المنطقة. فإسرائيل تريد ابتلاع فلسطين، كل فلسطين، وإضعاف العرب، لإرغامهم على القبول بذلك. وإيران تريد ابتلاع المنطقة كلها مستخدمة ذرائع مذهبية وإسلامية وفلسطينية، وليس ما حدث للبنان والعراق واليمن ببعيد. وصلنا إلى هذه النقطة عندما فرط العرب فى تضامنهم، ولعل فى الأزمة الراهنة دعوة إيقاظ تسهل تكوين تحالف قوى بين دول العقلانية والاعتدال العربية، يضيف إلى حالة الاستقطاب الإقليمى طرفا ثالثا يخفف الاحتقان، ويحفظ المصالح العربية.