أقلام وأراء

د. جمال عبدالجواد: الإبحار فى عالم شديد الخطورة

د. جمال عبدالجواد 7-4-2025: الإبحار فى عالم شديد الخطورة

دخل العالم زمن الأزمات المتراكبة. الأزمات لم تعد تأتى فرادي، بل تأتى فى حزم يغذى بعضها بعضا، بسبب التسارع فى معدلات الانتشار والتطوير التكنولوجي، وسلاسل التوريد المعقدة، والحروب التجارية، والقومية الاقتصادية المتصاعدة، والزيادة السريعة فى حركة السفر. هناك أيضا مخاطر ظهور أوبئة جديدة، وأزمات جيوسياسية بسبب تكاثر الحروب، أوكرانيا والشرق الأوسط نموذجا، وأزمة النظام الدولى التى تزداد عمقا بسبب التوتر الناتج عن صعود الصين، والانقلاب الأيديولوجى الكبير فى الولايات المتحدة. كل هذا يحدث فيما يتواصل إخفاق العالم فى التعامل مع أزمة التغير المناخى الذى أوشك على الوصول إلى نقطة اللاعودة.فهم ما يجرى فى العالم، ناهيك عن شرحه، أصبح أمرا غاية فى الصعوبة، فالعالم الراهن يختلف كثيرا عن المراحل السابقة التى مر بها النظام الدولي، والتى درسناها تفصيلا فى الجامعات وقرأنا عنها الكتب والدراسات، حتى إن ما سبق لنا وتعلمناه يبدو فى أحيان كثيرة قليل الفائدة فى فهم العالم الراهن والتعامل معه. غير أننا لا نملك تأجيل القرارات انتظارا لاكتمال الفهم والوصول إلى اليقين الكامل، فعندها سيكون الوقت قد فات، والمخاطر تحققت.

التحدى هو اتخاذ القرار السليم، فى الوقت المناسب، فى ظل عدم يقين طاغ، وهو ما يجعل التعامل مع العالم الراهن مغامرة محفوفة بالمخاطر، لا مفر من خوضها.بلادنا من بين البلاد المتوسطة والصغيرة، التى لا تصنع العالم أو تشكله، والتى يتوقف نجاحها على التكيف السليم مع أوضاع دولية لا تسهم فى صنعها. لبلادنا دور، يزيد أو يقل حسب ظروف معقدة، فى توجيه شئون الإقليم الذى ننتمى إليه، أما بينما وراء ذلك فالتطورات الدولية العاتية تقع وراء قدرتنا على التأثير. نجاحنا وفشلنا متوقف على قدرتنا على فهم هذا العالم المعقد، والتيارات المؤثرة فيه، واتخاذ قرار بمجاراة بعضها، والتحالف مع أخري، وتحييد ثالثة، وربما التوافق والموازنة بينها جميعا. المهم هو أن نأخذ القرارات الصعبة فى الوقت المناسب، فالعالم لا ينتظرنا، ولا يقدم لنا الفرص، لكنه بالتأكيد يضغط علينا. العالم فى حالة حركة دائمة، وإن فى اتجاهات متعارضة مربكة؛ وعلينا نحن أيضا أن نكون فى حالة حركة دائمة، لامتصاص الصدمات والتقاط الفرص، والاستعداد الدائم للتكيف والتغير وفقا لتيارات الحركة العالمية. المهم هو أن نواصل الحركة، ونتجنب الجمود فى مكاننا.الوقت ليس عاملا محايدا، ولابد من تعزيز القدرة على الحركة السريعة. هذا هو الدرس الذى مازال صالحا من الدروس التى تعلمناها من المراحل السابقة لتطور النظام الدولي. التوقيت هو توليفة القوى والظروف التى تجعل أمرا ما ممكنا، وقرارا ما صائبا. تضيع الفرصة عندما تنقضى الظروف وينتهى السياق الذى يسمح بتحقيق النتيجة المرغوبة.

التأخر فى اتخاذ القرار السليم له تكلفة باهظة. لا يمكن تأجيل القرار السليم، لنعود بعد فترة لاتخاذه كما لو كان مرور الوقت لا يعنى شيئا. الفرصة التى تضيع قد لا تأتى ثانية أبدا. تخيل لو أن الرئيس السورى حافظ الأسد استفاد من عرض السلام الذى قدمه له الرئيس كلينتون عندما التقاه فى مارس 2000. كان الخلاف على أمتار قليلة على ضفاف بحيرة طبرية، تمسك بها الرئيس الأسد، وضاعت الفرصة، ولم تأت ثانية أبدا. لقد ضمت إسرائيل الجولان، ولم يعد فى أمريكا رؤساء يتحدثون عن السلام بين إٍسرائيل وسوريا، واحتلت إسرائيل أراضى سورية إضافية، بل وأصبح بقاء الدولة السورية نفسه موضع شك. بعد ذلك بشهور قليلة رفض الزعيم ياسر عرفات عرضا أمريكيا لإقامة دولة فلسطينية. كان العرض أقل من الطموح الفلسطيني، لكنه كان أفضل من أى شيء تم عرضه على الفلسطينيين قبل أو بعد ذلك. ضاعت الفرصة، ومن يومها والفلسطينيون يبتعدون فى كل يوم فراسخ إضافية عن حلم الدولة الوطنية، مرة بسبب إسرائيل، ومرة بسبب انقساماتهم، بينما الشرق الأوسط من حولهم يغرق أكثر وأكثر فى دوامات العنف والفوضي.

فى زمن صعود العولمة كانت لدينا فرصة للتحول إلى اقتصاد تصدير، والانضمام لمجموعة اقتصادات التصدير الكبري، مثل الصين وكوريا وماليزيا وفيتنام، عبر الاستفادة من انفتاح الأسواق وتحرير التجارة وتخفيض الجمارك، ترددنا فى اقتناص الفرصة، حتى تغير كل هذا، فارتفعت الحواجز الجمركية، ولم يعد التوجه التصديرى للاقتصاد استراتيجية ممكنة، أو على الأقل فإنها لم تعد ممكنة بنفس الطريقة التى كانت ممكنة بها قبل ثلاثين عاما.المهمة و الهدف الدائم، بغير لبس أو تردد، هو تعظيم القدرات الوطنية، وتحسين ميزان القوة لمصلحتنا فى علاقتنا بالخصوم والمنافسين، وتقليل انكشافنا تجاههم. لا بد من مواصلة التقدم نحو هذا الهدف بلا انقطاع، وإلا فإننا بالتأكيد نتأخر. إلى جانب ذلك فإن علينا أن نتابع بدقة ما يجرى فى العالم، وأن نتخذ إزاءه القرارات المناسبة فى الوقت المناسب.لن يكف العالم عن إلقاء المفاجآت غير السارة فى وجهنا. المخاطر لا تصل إلى باب دارنا عندما نفكر فيها أو عندما نتحدث عنها، لكنها تحل بنا عندما نغفل عن رصدها والاستعداد لمجابهتها. فلنستثمر أكثر فى بناء مجتمع الخبراء والدارسين لجوانب التطور الدولى العديدة والمعقدة، ولندعهم يفكرون بحرية، وندعوهم لاقتراح مسارات الحركة المناسبة. هذا هو السبيل الوحيد لفهم تناقضات العالم وامتلاك قدر أكبر من اليقين إزاءه.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى