د. احمد يوسف : خذوا حذركم.. سلميِّة المسيرة بوصلة النجاح
د. أحمد يوسف
قلنا منذ انطلاق مسيرة العودة الكبرى في ذكرى يوم الأرض – وما زلنا نكرر – إن نجاحها مرهون بالقدرة على الحفاظ على سلميّتها في كل ما تبتدعه من فعاليات، وما يطرحه الشباب القائمين عليها من أفكار تقطع الطريق أمام جيش الاحتلال وتحشره في الزاوية، وتجعل من استخدام السلاح أمام حشود سلمية جريمة بحق الإنسانية، حسب الشرائع والمواثيق والقوانين الدولية.
لقد نجحت الجهات الشبابية المنظمة لفعاليات مسيرة العودة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية في ضبط الايقاع السلمي للهبّة الشعبية، ولفت الأنظار للواقع المأسوي الذي يعيشه أهالي قطاع غزة، جراء الاحتلال والحصار، والذي أحال القطاع إلى برميل بارود سيبقى مع استمرار المعاناة قابلاً للانفجار في كل اتجاه.
من الواضح أن القيادات الشبابية لحراك مسيرة العودة تعمل بذكاء وفطنة عالية لسحب ذرائع الاحتلال، والابقاء على سلمية الحراك وفعالياته، مستعينة بشبكة واسعة من العلاقات على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما تعمل إسرائيل لتوصيف المشهد وكأنه ساحة حرب تهدد وجودها، بهدف تبرير جريمة الاستهداف لكل مكونات ذلك الحراك من أطفال ونساء وإعلاميين!!
إن النداءات والتوجيهات التي تطلقها القيادات الشبابية لمسيرة العودة تعكس حركية وعيها لما تقوم به وتهدف إليه، فهي التي تخلقت في رحم المعاناة، واكتوت أكثر من غيرها بأوجاعها وآلامها، ودفعت أكلافاً غالية من مستقبلها، الذي غدا مجهولاً ولا يلوح منه – للأسف – بصيص أمل أو معلم خلاص.
سلميِّة المسيرة: النهج والممارسة
لا يمكنني إلا الإشادة بالقيادة الشبابية التي رسمت ملامح هذا الحراك الشعبي، وتمكنت في الحفاظ على وتيرة المسيرة في إطار السلمية والإيقاع اللاعنفي، الذي أحرج دولة الاحتلال ووضعها في دائرة الإدانة والاتهام.
ولعل طلائع القيادة الشبابية التي يمثلها الأستاذ أحمد أبو ارتيمة، والدكتور بلال ياسين، والأستاذ وسام أبو شمالة، والأستاذ هاني مقبل، والمهندس كايد جربوع، والدكتورة حلا شومان، قد فرضت وجودها في الميدان مع عدد آخر من الشخصيات المخضرمة، أمثال: الأستاذ صلاح عبد العاطي، والمهندس عصام حماد، والأستاذ يسري درويش، إضافة إلى نشطاء آخرين بعناوين فلسطينية جامعة.. لقد نجح هؤلاء الشباب بامتياز في الحفاظ على الطابع اللاعنفي لمسيرة العودة منذ أسبوعها الأول، وما تزال هذه المجموعة من النشطاء الأخيار والقيادات الواعدة تتحرك بحكمة واقتدار، وترسم وتخطط مع الفصائل واللجنة الوطنية العليا، لضمان ألا تنحرف البوصلة وتكثر الإصابات، فتتعطل بذلك مسيرة العودة الكبرى بالشكل الذي يدور في مخيلة النخبة الشبابية في الداخل، واللجان العاملة في الدول العربية والبلدان الغربية.
لا يدَّعي أحد بأن هذه المسيرة هي نهاية الطريق في حراكنا الوطني باتجاه حقنا في تقرير المصير، بل هي تجربة نضالية تحافظ على حيوية ذاكرة الأجيال، وإبقاء القضية الفلسطينية حيَّة، حتى لا نجد أنفسنا يوماً مضطرين لطرح السؤال الأصعب: هل ما تزال فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، وللإسلاميين حول العالم؟!
اليوم، نحن الفلسطينيين وفي ظل تراجع الحماس الرسمي لقضيتنا، وتآمر البعض عليها، وانشغال شعوب أمتنا بجراحها المفتوحة وصراعاتها المفتعلة، بحاجة إلى رؤية ثاقبة نعيد فيها ضبط اتجاهات البوصلة لتبقى القدس هي العنوان، والأقصى هو الميدان، والأمة على عهدها من حيث الزمان والمكان.
خذوا حِذركم: نصائح وتوجيهات
منذ اللحظات الأولى لفعاليات مسيرة العودة، سعينا كغيرنا لتحصين حراكها بتغريدات تحمي بوصلتها من الانحراف والوقوع في مصيدة الاحتلال لعسكرتها، ومن ثمَّ تبرير قمعها بقوته الغاشمة.. كانت هذه التغريدات المتعاقبة، والتي أشادت بالهبّة وحراكها السلمي، هي قناعتي التي حرصت على توطينها في أذهان كل من تحرك من الشباب لتحقيق حلمنا جميعاً في العودة إلى أرضنا وديارنا.. نعم؛ ما زال الدرب طويلاً، ولكننا نجحنا بوضع أقدامنا في وفاق واتفاق على بداية الطريق.
حاولت في كل ما كتبت من تغريدات العيش في عقل هؤلاء الشباب، والتلطف في لغة الخطاب؛ لأن جيلي هو المسؤول بالدرجة الأولى عما لحق بهم من متاهة وضياع، وهم اليوم أحوج للحكمة لرؤية معالم الطريق، وتقدير الخطى لبلوغ الغايات بأبعادها الوطنية والمعيشية.
إن قراءتي لمسيرة العودة الكبرى كانت – وما تزال – تتهادى حول هذه التغريدات، وهي تجسد فهمي لرؤية من بدأوا هذا الحراك من الشباب، وهم ثلة من الرواد الشباب الذين أوردنا بعضاً من أسمائهم، والذين تمكنوا بنجاحهم، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، اقناع الكبار من فصائل العمل الوطني والإسلامي باللحاق بهم، ودعمهم بشكل جيد – معنوياً ولوجستياً – منذ بداية المسيرة.
هذه هي أهم التغريدات التي أطلقتها – كوجهة نظر – منذ أن بدأت فعاليات مسيرة العودة الكبرى تأخذ طريقها للتنفيذ، وما تزال قناعاتي بها قائمة، وهي كالتالي:
– إن مسيرة العودة هي فكرة إنسانية رائعة الإبداع، والتعبير عنها ثقافياً وميدانياً هي تجربة حضارية تلفت الأنظار، وهي جهد يستحق الدعم والمؤازرة.
– لماذا يخشى العدو مسيرة العودة الفلسطينية الكبرى؟ لأنه اعتقد أنه شطب الفلسطينيين من الخريطة، واليوم يشاهدهم بأحفادهم زاحفون إليه!!
– إن مسيرة العودة الفلسطينية الكبرى هي مشهدٌ بالغ الروعة وطنياً، وسنتركه خالداً في ذاكرة الأبناء والأحفاد حتى تظل فلسطين؛ الأرض والمقدسات، “حق يأبى النسيان”.
– إن مسيرةُ العودة الكبرى هي روح ونبض شعبٍ يستحق الحياة.. لقد عقدنا العزم أن نموت وتحيا فلسطين؛ الأرض والأهل والمقدسات.
– إن مسيرة العودة الكبرى تجعلك تشعر وكأن الانتصار هو مجرد خطوة أو خطوتين، وأن القدس تلوح في الأفق لشعبٍ يستحق المجد والخلود.
– إن مسيرةُ العودة هي ابداعٌ شبابي بدعم ومباركة الجميع، وهي دليلٌ على أن الشباب يمتلكون أهليّة القيادة، وليس فقط للتوظيف والاتِّباع.
– من أجل الحفاظ على صدقية حراكنا السلمي، وبهدف قطع الطريق أمام الادعاءات الإسرائيلية لخداع الرأي العام العالمي، نرجو أن يتم تشييع الشهداء جميعاً دون خصوصيات أو شعائر حزبية.. إن المسيرة أو الهبَّة كانت فلسطينية خالصة وبامتياز، فلتكن أيضاً تعبيراتها في العزاء بالشهداء هي الأخرى خالصة لوجه الله.
– إن مسيرة العودة أخرجتنا من حالة اليأس والقنوط إلى ابتسامة الأمل.. نحن اليوم أكثر تفاؤلاً بعودة قضيتنا لتتصدر المشهد الإعلامي كشعب يطلب حقه، والتأكيد أنه ما ضاع حق وراءه مطالب.
– حافظوا على نجاح مسيرة العودة من خلال سلميتها وهويتها الوطنية، وإيَّاكم وحرف بوصلتها بالمظاهر الحزبية.. ومن أجل إيصال رسالتنا للعالمين، اقترح إقامة مجسَّم كبير للمهاتما غاندي، يلتف حوله الأطفال بلباس أبيض، وشعارات معبرة عن حق العودة.
– إن مسيرة العودة في حِراكاتها الشبابية قد أعادت لنا ذكرى انتفاضة أطفال الحجارة، التي تفاعل العالم معها، وكان التعاطف الذي فضح وحشية الاحتلال.
– تذكروا أن مسيرة العودة الكبرى هي هبَّة جيل وانتفاضة شعب، وليس مناسبات وأعراس فصائل.. كُلفتها غالية، وثمن تضحياتها عودة وطن.
– لإخواننا في قيادات الفصائل.. لا تقولوا لهؤلاء الشباب المتميزين، والذين أبدعوا في أفكارهم، فكانت هذه الفعاليات الرائعة لمسيرة العودة الكبرى، من أنتم؟! ولا تبخسوا جهودهم، وامنحوهم فرصة الظهور والتألق فهم أهلٌ لها، قولوا لهم: بوركتم، وبوركت سواعدكم، وإنَّا معكم زاحفون ومع حشودكم قادمون.
– تذكروا أن سلميتنا في هذه المرحلة أقوى من كل الرصاص.. لا تنجروا لما يتمناه جيش الاحتلال من مواجهات مسلحة.
– إذا ما أريد لتحركات مسيرة العودة الكبرى أن تنجح وتحقق أهدافها، فإن على الفصائل جميعاً أن تبتعد عن ركوب الموجة، ومحاولة تجيير الحراك وكأنها “ابن جلا وطلاع الثنايا”.!! إن هذه المسيرة هي فكرة شبابية بامتياز، ونمط سلمي جديد في المقاومة، والمطلوب دعمه بكل السبل كتعبير عن وحدة الشارع الفلسطيني، وسد باب الذرائع أمام الاحتلال لعسكرة هذا الحراك وشيطنته، لتمارس إسرائيل هوايتها في القتل والتدمير.
– تذكروا دائماً بأن سلميّة المسيرة هي عنوان نجاحها وتألقها الإعلامي.. أي نداءات للعسكرة ستجرنا إلى مربعات الدم التي تريدها إسرائيل.
– ما أكثر المتعلقين اليوم بليلى.. مسيرة العودة كانت فكرة دارت في عقول بعض الشباب، فتداولوا الحديث عنها بإسهاب وحماس كبير عبر فضاء التواصل الاجتماعي.. تردد – آنذاك – عن احتضانها الكثير؛ لأنها لم ترق لعنترياتهم، وكانت دون سقف نضاليّاتهم!! اليوم؛ الكل يتقدم بطلب يد ليلى!! لأن الحديث عن طهارتها وروعة جمالها أصبح حديث الساحات والميادين.. سبحان الله؛ مسيرة العودة اليوم أشبه بليلى، حيث غدا الكل يخطب ودَّها، وادعاء أنه ولي أمرها!! وهي بعفويتها وحيائها وبأدب لا تقر لهم بذلك. هل تتفهم فصائلنا الوطنية والإسلامية أن مسيرة العودة (ليلى بنت غزة) بخير، إذا ما تركوها تؤدي طقوس فرحتها بعيداً عن جلبة “خَيْلِكَ وَرَجِلِكَ”، والكل سيطاله بالتأكيد من مهرها نصيب.
– إن تسويق البعض لمسيرة العودة وكأنها حِراك لإخراج هذا الفصيل أو ذاك التنظيم من أزماته هي حسبة خاطئة، فالاحتلال يتربص بنا الدوائر، وبانتظار أية ممارسات تحرف سلمية المسيرة قد يفتعلها بعض الموتورين، حينئذ سيضيع الكسب، ونخسر كل ما عمله من سهروا ليلهم الطويل لشهور عدة لإنجاح هذا العمل، وفرص بلوغ غاياته المرجوة في 15 مايو القادم.
– مسيرة العودة ليست صهوة جواد للامتطاء والمتاجرة؛ لأنها باختصار رسائل بمضامين ثورية ووقفات نضالية، لشعب أدمى الحصار قدماه، وأضاع الانقسام مستقبل أبنائه.. اتركوا مسيرة العودة لعفويتها وشعاراتها الوطنية والإنسانية حتى تبلغ ما ترنو إليه من غاية وأهداف.
– إن عفوية مسيرة العودة وسلميّتها هي ما يُحرج الاحتلال ويُعرِّي جرائمه.. هذا حراك شبابي لجيلٍ أضعناه، فاتركوه يفرض حضوره ويقدم أسماء وجوهه القيادية.
مسيرة العودة: أفكار إبداعية
إن هناك الكثير من الأفكار الرائعة والابداعية التي تجود بها جُعبة الآخرين، ويتم تداول بعضها عبر وسائل التواصل الاجتماعي كفعاليات لمسيرة العودة، والتي يتوجب دراستها وأخذها في الحسبان.. ومنها على سبيل المثال:
– النائب حنين زعبي؛ عضو الكنيست من القائمة العربية، أشارت في تغريدة لها بالقول: إن على أهل الضفة الغربية ألا يتركوا أبناء قطاع غزة وحدهم، وعليهم التحرك لمناصرتهم، فنحن بحاجة لملايين الفلسطينيين للتقدم إلى القدس.. هذا طموحنا؛ لأن إسرائيل تحولت من دولة عنصرية إلى فاشيّة، ومظاهرات غزة سلميّة، ووسيلة مشروعة للتحرر من ظلم الاحتلال.
– الأستاذ أكرم السحّار؛ مدير عام سابق بالمجلس التشريعي، فقد قدَّم وجهة نظر مفادها أن تتبني اللجنة الوطنية العليا لمسيرة العودة فعالية الأسبوع المقبل باسم “جمعة البالونات”، بحيث يتم إعداد مليون بالون بحجم كبير؛ وبتم توزيعها لتحمل أسماء القرى والمدن الفلسطينية، وأسماء شهداء الشعب الفلسطيني والأسرى الفلسطينيين، وكذلك تحمل مجموعة منها صور القادة الشهداء، وأعلام فلسطين، كما تحمل مجموعة منها قرارات الشرعية الدولية حول حق العودة، وأخرى تحمل يافطات ذات دلالات سياسية ومعنوية ونفسية، إضافة إلى مجموعة تحمل رسائل موجهة للجنود الصهاينة بأن المسيرات سلمية، وأن أعمالهم جرائم حرب، وسيتم ملاحقتهم أمام المحاكم الدولية.
طبعاً كل ذلك باللغة العبريّة والإنجليزية، وتطلق البالونات في وقت واحد، لتغطي سماء جنوب فلسطين.
– د. ناجي شرّاب؛ أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأزهر، أشار هو الآخر بأنه “ينبغي أن تصاحب هذا الحراك الشعبي لغة الأرقام، التي تبيّن حجم الأراضي المحتلة وتلك المصادرة، وحجم الاستيطان وسياسات التهويد في الأراضي التي اعترف العالم والأمم المتحدة بحق الفلسطينيين بها وقيام دولتهم عليها. هذا هو المعنى المباشر للعودة. ثم، التذكير بقضية النكبة واللاجئين، وكيف أُجبروا على ترك ديارهم بعدما ارتكبت العصابات الصهيونية المجازر بحقهم. والخطوة الثانية تتمثل بالتوافق على آليات وأساليب استمرار المسيرة في إطارها السلمي، والإبداع في هذه الأساليب من مقاطعة للبضائع، إلى العصيان المدني، لإرسال رسائل بالهدف السلمي والمغزى السياسي للمسيرة بما فيها داخل إسرائيل”.
ختاماً… تبقى تحذيراتنا قائمة بالابتعاد عن مربع العنف حتى لا نعطي المبررات لجيش الاحتلال لادعاء الحق في القتل وممارسة القمع بالقوة المفرطة، كما أضم صوتي إلى ما ذكره الأستاذ أكرم عطالله؛ الكاتب والمحلل السياسي، حيث أشار بأن “الأهم هو كيف تبقى المسيرات سلمية وبأقل الخسائر.. لا نريد في عمل سلمي أن نخسر الأبناء، وتلك الرسالة المقدسة التي يجب أن تشغل الفصائل أكثر من أي شيء آخر، تعزيز ثقافة الكفاح السلمي تحت معادلة إنجازات أكبر وخسائر أقل”…!
ولعل ما ذكره؛ د. مصطفى البرغوثي؛ الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية، من تقييم لفعاليات مسيرة العودة السلمية هو رأي له وجاهته، حيث أشار إلى أن “المقاومة الشعبية الفلسطينية وضعت الإسرائيليين في حالة حيرة حقيقية، فإن استخدموا القوة العسكرية يكونوا خاسرين، وإن لم يستخدموها يكونوا خاسرين، وتحقيق تلك الحيرة لدى الخصم هو الهدف الأكبر لأي نوع من المقاومة الشعبية”.
باختصار: إن المطلوب هو الحفاظ على زخم الفعل الوطني، واستمرارية التفاعل العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، وعدم تهميشها في المحافل الدولية، والحفاظ على صحوة الضمير العالمي وتفاعله في الدعم والتأييد لعدالة قضيتنا، حتى لا تغيب مكانتها تحت الشمس.