أقلام وأراء

د. احمد رفيق عوض يكتب –  إعلام التفكيك والتفريق!

بقلم  الدكتور احمد رفيق عوض* – 19/7/2021

يتحول الإعلام بكل أنواعه وأشكاله الى أداة فتّاكة من أدوات القولبة والتأطير والضبط الاجتماعي والسياسي، وإعادة ترتيب الأولويات وتغيير قائمة الاعداء والأصدقاء والخصوم.

ليس من الضرورة اطلاقاً ان يتمتع المشاهد بقدر عالٍ من الذكاء ليكتشف أن الإعلام العربي المرئي بالذات يخلو الى حد كبير من رؤية متكاملة أو شاملة أو ذات اهداف قومية جامعة, ولهذا ليس من الغريب اطلاقاً ان تشاهد قناة عربية ولكنها تبث طيلة الوقت افلاماً غربية و قيماً غربية وسياسة غربية, وكأنها قناة تخترع جمهورها أو تعيد تركيبه أو قولبته.

المفجع في الأمر أن هذا الاعلام يفقد صلته بالواقع تماماً عندما يخترع الحاجات و الأهداف و الوسائل أيضاً, و لهذا السبب بالذات,فالمشاهد العربي يجبر على أن يرى عدة أنواع من الاسلام و عدة انواع من العروبة و عدة أنواع من الرؤى التحررية و التنموية, و قد يقول قائل ان هذا التنوع مفيد و يشير الى التعافي السياسي و المجتمعي, و لكن-للأسف- فإن هذا التنوع المضطرب و المرتبك و المشوش في معظمه يصدر عن ذات المصادر, بمعنى أن “السيد” أو “المعلم” واحد وهو قادر على أن يصنع الحزب و نقيضه والفكرة وضدها، وهذا ما يذكر برواية الروائي العظيم عبد الرحمن منيف “شرق المتوسط” , فالإعلام العربي المرئي في معظمه يترجم الاضطراب والتفكك السياسي, و يعكس تماماً غياب الهويات أو تبعثرها أو اعادة تشكيلها أو اختراعها أو اصطناعها أو تشويهها و هي هويات ملتبسة و جزئية تفكك وحدة الشعب و وحدة الوطن و وحدة المرجعيات و وحدة الأهداف أيضاً. وبما ان الاعلام هو جزء أو ذراع من اذرع النظام السياسي أو المجتمعي, فإن هذا الاعلام يسقط في هوة التقليد و التماهي و التشبه و اعادة انتاج النماذج الاقوى أو الاكثر هيمنة و نفوذاً, بكلمات أخرى, فإن معظم هذا الاعلام يتشابه الى حدٍ كبير في ما يقدم و لكنه يختلف في طريقة العرض و السرد ليس إلا.

وفي هذا فإن الاعلام يقوم عملياً بخيانة نفسه وخيانة قضيته الصغيرة الكبيرة, الخاصة و العامة. تجب الاشارة هنا الى ان التكنولوجيا تقدم عملياً احدى الوسائل الناجعة في ايقاظ الهويات النائمة او اعادة تجميع الجماعات او اعادة تعريفها لذاتها, وقد يفسر هذا تكاثر القنوات الفضائية بطريقة اسرع من تكاثر الفطر بعد موسم ماطر, الاعلام في هذه الحالة يقدم السرد- الذي تحتاجه كل جماعة حسب المنظّرهومي بابا- ويقدم المصطلح و يعيد هالات الاسلاف و هيمنتها. كثرة و تعدد القنوات العربية برأيي جزء من منظومة كاملة جديدة لرؤية مجتمعات جديدة في المنطقة العربية , هذه الكثرة هي جزء من عمليات التفتيت والتذرير واثارة النعرات وايقاظ المختلف وطمس المشترك في مقدمة لتفجير المنطقة برمتها, وحتى اكون واضحاً وصريحاً جداً, فإن ما أراه مخيفا تماماً, فهذا الاعلام المختطف والمرتهن و الموظف و المستخدم هو أحد ما يلي؛ فإما إعلام رسمي حذر و شكاك و متوجس و يخلو حتى من البهجة و التفاؤل, يعتقد بالتأبيد و الازلية و الوحدانية المنجية, و لأنه يخلو من الشرعية والاقناع والتمثيل فهو لا يرى حرجاً بأن يكون الغرب وسقوفه وقيمة جزءاً من منظومته أيضاً, وهكذا نربح اعلاماً رسمياً مضطرباً ما بين ادعاء الأصالة و زيف المعاصرة, اعلام يحرمك النقد والقدرة عليه, ويحرمك من المشاركة الا في طلب الأغاني والمسلسلات.

اما الأخطر والادهى من ذلك كله, فهو الاعلام ذو الأجندات, الاعلام الممول و المشبوه, و المرتبط فعلاً و قولاً, و هو اعلام لا يتورع عن ايقاظ الفتن في المنطقة العربية و بين شعوبها, قنوات تخصصت في الردح و القدح الأعمى و البغيض و المقيت و المقزز, اعلام يستعيد قصصاً انتهت و حروباً تم الاتفاق بشأنها اعلام يكتشف فجأة الفروق بين الأديان و المذاهب و الطوائف و الأعراق والجهات و التاريخ, اعلام سلفيات و أصوليات علمانية و دينية, اعلام الاختلاف و الخلاف لا اعلام الجدل العميق والمسئول, اعلام مشبوه لأنه لا يحكي عن الاحتلال الاسرائيلي العنصري ولا عن الفقر ولا عن الظلم و لا عن نسبة الجهل و التصحر و المرض في العالم العربي و الاسلامي,و لا يحكي عن أولويات الأمة و أهدافها القريبة, و لا عن الازدحام و التلوث و قلة البحث العلمي و نسبة العنوسة و تناقص الطاقة و اختطاف القرار و تشقق الأمة و محاصرتها و تبعيتها للمحتل من كل نوع و جنس, اعلام لا يحكي عن الضياع و الغياب و قلة الهيبة وقلة الاحترام, اعلام كاذب وملفق وغبي و متعصب, و حتى لا يفهم كلامي بشكل خاطئ, فإنني اعني كل هؤلاء الذين يدعون انهم يمثلون المذاهب أو الطوائف أو الاثنيات-التي تكاثرت فجأة دون سابق انذار-. وللوضوح و للصراحة, فإنني ولأنني اعرف نفسي باسلامي وعروبيتي وفلسطينيتي, فإنني اؤمن ايمانا قاطعاً بأن كل هذه القنوات التي تضخ الفتنة, بكل شكل وبكل نوع وبكل أنواع اللحى الطويلة والقصيرة وما بينهما, انما تخدم اعداء امتنا كلهم بلا استثناء, لا يعنيني كما لا يعني الجامعي المغربي العاطل عن العمل والاردني المغترب واليمني الذي لا يحصل على دولار في اليوم و المصري المثقف الذي يعمل سائقاً, لا يعنينا هذا الخلاف المفتعل الآن, والذي لا يخدم أحداً سوى أولئك الذين يريدون تغيير أولويات الصراع وأولويات الضرر أولويات الخطر, ان ما يعنينا الآن هو التحرير و التعمير والتنمية والحرية والكرامة والتخلص من الهيمنة الأجنبية – بكل انواعها وبكل لغاتها.

لنعترف ان انظمتنا السياسية اثبتت فشلها وها هي تعاني ما تعاني , فإن حرف الصراع وتشتيت الرؤية والتباس العدو أو تغييره يعني احباطاً أو التفافاً على حركة التاريخ الطبيعية. وما بين الإعلام الرسمي والإعلام المقنع والمشبوه, هناك انواع اخرى من الإعلام تعكس حالة الالتباس والارتباك والتوهان, فهنالك الإعلام الذي يدعي الموضوعية في زمن لا يسيل فيه الا الدم العربي ولا يغتصب الا الشرف العربي, فتتحول الموضوعية الى موقف معادٍ و مشبوه و مشكوك فيه, ففي زمن الهزائم و الانسحاق فإن عرض وجهة النظر الأخرى تشبه استماعنا لوجهة نظر مغتصب اختنا وهو يقول انها كانت مغرية, وهذا الاعلام العربي الموضوعي موهوم تماماً, فالموضوعية للأقوياء الذين يريدون الاحتلال والقتل, الموضوعية هنا تقنية المحتل لأنه يساوى بين الجلاد والضحية, وبهذا يستطيع ارتكاب جرائمه لأنه يقتل المرجعية الاخلاقية لأي خبر أو قصة أو فيلم. وهناك الاعلام المتعوي والاستهلاكي والمغرق في الجهالة والاثم والدعارة والتجارة و ما بينهما, وهناك اعلام النصب- نعم النصب- و الدجل.

هل الصورة قاتمة الى هذا الحد؟! ولله الامر من قبل ومن بعد.

*رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية في جامعة القدس .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى