د. ابراهيم ابراش: قضية القدس واستشكالات الديني والسياسي في فلسطين
د. ابراهيم ابراش ٢٦-٤-٢٠١٨م
في القضية الفلسطينية يتداخل :الديني مع السياسي ،التاريخ مع الحاضر ، والوطني مع القومي مع الديني مع الدولي ،الأمر الذي يجعل القضية الفلسطينية أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الأكثر تعقيدا من بين كل الصراعات في عالمنا المعاصر .
المكانة الدينية لمدينة القدس عند الديانات السماوية الثلاثة أضفى طابعا دينيا على مجمل القضية الفلسطينية وعلى الصراع مع إسرائيل ،مما جعل القضية الفلسطينية تتبوأ مكانة خاصة عند كل المسلمين والعرب ، ولهذا اعتاد الخطاب السياسي الفلسطيني والعربي والإسلامي الحديث عن البعد الديني للقضية الفلسطينية . إلا أن الخطاب السياسي والحديث عن هذا البُعد لم يكن منسجما أو متوافقا مع الممارسات على أرض الواقع ، فعلى العكس من منطوق الخطاب وما يتطلبه من ممارسة عقلانية حضارية تقطع الطريق على إسرائيل التي تسعى لإضفاء بعد ديني على الصراع لتمرير رؤيتها ليهودية دولة إسرائيل ، فإن بعض الحكومات والجماعات الإسلامية وظفت البعد الديني لخدمة سياسات ومصالح هذه الأطراف ،وأحيانا كانت المبالغة في توظيف البعد الإسلامي تؤثر سلبا على البعد الوطني من خلال مراهنة أحزاب فلسطينية على الجماعات والأنظمة التي ترفع رايات الإسلام بدلا من المراهنة على الذات الوطنية .
المكانة الدينية والتاريخية لمدينة القدس بالنسبة للديانات السماوية الثلاث لا يلغي أنها مدينة فلسطينية وعاصمة الدولة الفلسطينية المنشودة وينطبق عليها ما ينطبق على بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة . أيضا البعد الديني للقدس لا يلغي أو يسقط المسؤولية الوطنية الفلسطينية عن المدينة ،والبعد الديني أو الصفة الدينية للقدس ليس بديلا عن بُعدها الوطني .
التداخل بين الديني والسياسي في الصراع مع إسرائيل وحول القدس لم يقتصر على الفلسطينيين بل حاضر أيضا عند الحركة الصهيونية التي وظفت الدين وفكرة العودة إلى القدس (أورشليم) كأداة استقطاب ليهود العالم وللدول والشعوب المسيحية وخصوصا الانجليكيين الذين يؤمنون بفكرة أن عودة المسيح المنتظر مرتهنة بقيام دولة إسرائيل .
بسبب هذه المكانة الدينية للقدس فقد ارتأت الأمم المتحدة منذ اندلاع الصدامات بين اليهود والفلسطينيين أن تضع القدس تحت الوصاية الدولية وهذا ما تضمنه قرار التقسيم عام 1947 الذي نص على تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب ووضع مدينة القدس تحت الوصاية الدولية وأن تكون مفتوحة لأصحاب كل الديانات ، إلا أن إسرائيل احتلت القدس الغربية في حرب 1948 ثم احتلت القدس الشرقية وكل الضفة الغربية لنهر الأردن في حرب يونيو 1967 .
جاء قرار الرئيس الأمريكي ترامب بالمصادقة على قرار الكونجرس الامريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل اليهودية ونقل السفارة الامريكية للقدس ليؤجج مجددا التوتر في المنطقة في بعده الديني ، ذلك أن هذا القرار يعتبر تجاوزا ليس فقط للحقائق والوقائع التاريخية التي تؤكد أن القدس مدينة عربية إسلامية فلسطينية مفتوحة لكل اصحاب الديانات السماوية بل تجاوزا أيضا للشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي تلحظ للقدس مكانة خاصة ، أيضا هذا القرار يتعارض مع مرجعيات التسوية السياسية التي انطلقت منذ مؤتمر مدريد 1991 كما سيُعطل أية تسوية جديدة .
سنقارب موضوع البحث من خلال المحاور التالية :
المحور الاول : الخلفيات العقائدية والسياسية لتداخل الديني والسياسي
المحور الثاني : التاريخ والشرعية الدولية يفندان المزاعم الصهيونية
المحور الثالث:القدس ما بين الممارسات الإسرائيلية والممكن الفلسطيني
المحور الأول
الخلفيات العقائدية والسياسية لتداخل الديني والسياسي
البعد الديني للقضية الفلسطينية أو الصراع ما بين الكيان الصهيوني من جانب والفلسطينيون والعرب والمسلمون من جانب آخر ليس وليد اللحظة ولم يبدأ مع حرب 48 وقيام دولة إسرائيل بل يضرب بجذوره في العقيدة اليهودية والمشروع الصهيوني ، كما أنه كان وما زال حاضرا في العقيدة الإسلامية وفي التجربة النضالية الفلسطينية قبل أن يقرر الفلسطينيون بأن القدس عاصمة للدولة الفلسطينية ويتبنى العرب هذا الطرح ويجعلوه أساسيا في المبادرة العربية للسلام .
سنقارب أولا البعد الديني في المنظومتين اليهودية والصهيونية ثم نتناوله في الرؤية العربية والإسلامية والفلسطينية .
أولا : عند اليهودية والصهيونية
من المعروف أن الكيان الصهيوني مشروع استعماري استيطاني مغلّف بالدين وبالأسطورة وتحديدا بمقولتي شعب الله المختار وأرض الميعاد والمقولتان متلازمتان .بالإضافة إلى المزاعم حول وجود هيكل سليمان في القدس وتحديدا أسفل المسجد الاقصى كما يقولون وحيث يكون الهيكل يجب أن تقام دولة إسرائيل .
مقولة شعب الله المختار من أكثر المقولات عنصرية عبر تاريخ البشرية القديم والحديث ، وهي أخطر من النازية ومن العنصرية المعاصرة لا لأنها تقول بما تقول به العنصرية من تمييز وتفضيل لجنس من البشر على بقية الأجناس ، بل أيضا لأنها تضفي بعدا دينيا على هذه العنصرية ، إنها مقولة تزعم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي فضل اليهود على غيرهم من الأقوام ، ولأنهم شعب الله المختار فيجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم ، وبالتالي من حقهم أن لا يلتزموا بما تلتزم به الشعوب الأخرى من قوانين واعراف ،- وهذا ما طبقته النازية الهتلرية في مفهومها للمجال الحيوي وفي تبرير احتلالها للدول الأخرى ،- وإذا كان الكيان الصهيوني يقوم اليوم باحتلال أراض دول عربية ويعتدي على سيادة دول أخرى ، ويرفض احترام القوانين الدولية ، ويسعى للهيمنة على المنطقة الشرق أوسطية فما ذلك إلا لأن اليهود يعتبرون انفسهم شعب الله المختار ، والشعوب الأخرى هم (الأغيار )الذين ذكرتهم التوراة والذين يجوز قتلهم واستباحة عرضهم وأرضهم.
يرتبط بمقولة شعب الله المختار ويُحيل إليها مقولة أرض الميعاد والتي تعني أن (ربهم ) وعدهم -شعبه المختار -بأرض خاصة بهم تمتد من النيل إلى الفرات ، وفلسطين هي قاعدة المنطلق وهي المركز الديني لهذه الدولة ، وحيث إن رب اليهود وعدهم بهذه الأرض فإن قيام دولتهم على هذا الأساس يصبح عملا دينيا والدفاع عنها واجبا دينيا والحفاظ عليها واجبا دينيا ومن يفرط بجزء من هذه الأرض يعد خارجا عن الدين ومن هنا يمكن فهم مقتل اسحق رابين والاحترام والتقدير الذين حضي بهما قاتله وكل الارهابيين والمتطرفين اليهود والمكانة المتميزة التي يحتلها المتطرفون الدينيون في النظام السياسي الاسرائيلي .
هذا الإضفاء للبعد الديني على المشروع الصهيوني الاستعماري لا يقتصر على كونه عنصر تعبئة وتحريض ليهود فلسطين بل توظفه الصهيونية العالمية لحشد المسيحيين في أوروبا والأمريكيتين ، لتبني هذا التصور ، حيث إن الكتاب المقدس عند المسيحيين يشمل العهدين : العهد القديم وهو التوراة والعهد الجديد وهو الانجيل ، بمعنى أن الصهيونية واليهودية تمارسان عملية مماهاة لربهم المذكور في التوراة بالله رب العالمين ، وبالتالي اعتبار كل ما جاء في التوراة – التي وضعها أحبارهم – مرجعا لتاريخ البشرية ومرجعا دينيا ملزما لكل العالم أو على الأقل ملزما لليهود والمسيحيين ، ومن هنا يمكن فهم هذا التحالف بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية .
لن نكلف أنفسنا عناء تبيان الأغلاط والتحريفات بل والإساءة إلى الله جلت قدرته التي تتضمنها مقولتا شعب الله المختار وأرض الميعاد ، ولكن يمكن التساؤل هنا هل يُعقل أن يكون الخالق جلت قدرته يؤمن بالعنصرية فيميز شعبا عن شعب ، أن يفرق الله رب العالمين بين عباده ؟، وهل يُعقل ان الله جلت قدرته كان قبل ثلاثة آلاف سنة يرسم حدودا سياسية للشعوب ؟.
لو أن لأمة أن تزعم أنها شعب الله المختار فهي الأمة العربية الإسلامية ، ألم يختار الله سبحانه وتعالى العرب من بين كل الأمم لينزل القرآن بلغتهم ؟ وألم يختار محمدا عليه السلام من بينهم ليكون خاتم الأنبياء ؟ ومع ذلك لم يقل العرب يوما أنهم شعب الله المختار لأن الإسلام لا يفرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى ، ولأن المسلمين يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى لا يمكنه أن يميز بين الناس والشعوب إلا بالإيمان والعمل الصالح.
البعد الديني تم توظيفه بشكل مكثف من طرف الحركة الصهيونية المتحالفة مع الحركة الاستعمارية لإقامة الكيان الصهيوني ، حيث مزجت الصهيونية أو وحدت بالعنف والتآمر والتزوير ما بين الدين والقومية والدولة ، ويقول بن غوريون رجل الدولة وأحد أهم مفكري الحركة الصهيونية الأوائل : ( إن الصهيونية تستطيع وبإمكانها اجتياز الهوة بين المثال الديني التاريخي إلى الواقع ، عن طريق العنف … إذ أن العنف هو الوسيلة الوحيدة لفرض الاتساق الهندسي على جدل الواقع ) .
التوظيف التحريفي والابتزازي للدين يظهر في سياسة الكيان الصهيوني اليوم ، فهذا الكيان هو في ممارساته من أكثر دول العالم عنصرية وصلفا واستعلاء وهو الوحيد الذي يضع نفسه فوق الشرعية الدولية وقراراتها ، وهو الوحيد الذي يحتل أرض دول أخرى وهو الوحيد الذي يعطي نفسه الحق بالاعتداء على سيادة الدول المجاورة ، وهو الدولة الوحيدة في العالم التي تعطي جنسيتها لليهودي لمجرد أنه يهودي مهما كان أصله ولونه ، والكيان الصهيوني هو الدولة الوحيدة التي تريد تأسيس دولة دينية يهودية خالصة ، لأنه في منظورهم شعب الله المختار لا يمكنه أن يتساوى مع الأغيار – والفلسطينيون أغيار كما تقول توراتهم – .
إذن في ظل كيان يقوم على أساطير دينية ويريد دولة يهودية خالصة وينظر للآخرين كأغيار والأغيار حسب التوراة يجوز قتلهم وتعذيبهم وانتهاك حرماتهم ، في ظل كيان تقول نصوص دينهم كما جاء وعلى لسان نبيهم يشع بن نون « ابقِروا بطون الحوامل ، اذبحوا الأطفال ، اقتلوا الرجال ، احرقوا الأرض ثم استولوا عليها »، في ظل كيان يطبق هذه النصوص فيرتكب مجازر دير ياسين وقانا ويكسر عظام أطفال الحجارة ، ويحتل الأرض ويدمر البيوت ويعتقل ويُرهب ، ويكدّس الأسلحة النووية ويعتبر نفسه فوق القوانين والأعراف الدولية لأنه شعب الله المختار ، في ظل هكذا كيان هل يمكن الدخول معه في علاقات تقوم على التسامح والسلام ؟ .
لا يعني قولنا هذا الدعوة إلى الحرب والقتال ولكن المقصود هو معرفة العدو الصهيوني جيدا ، وإن كانت موازين القوى المحلية والتحولات الدولية والضغوطات الخارجية تفرض رفع شعارات التسامح والسلام ، فإنه عليا أن نتهيأ للحرب وكأنها ستقوم غدا وعدم المراهنة على لغة السلام الأمريكية والصهيونية ، وعدم وضع بيضنا في سلة واحدة ، فالقائد او السياسي الذكي هو الذي يحسب حساب أسوأ الاحتمالات ، ونعتقد أن الكيان الصهيوني اليهودي بتركيبته وسياسته الحالية لا يمكنه أن يقبل بالعيش بسلام مع دول المنطقة.
ثانيا : البعد الديني الاسلامي للصراع
نظرا لأن الساحة السياسية العربية تعج بالتيارات والأحزاب والنظم السياسية ، ونظرا لأن التدين أصبح سببا ونتيجة في نفس الوقت لأزمة الفكر السياسي العربي ، فقد تعددت التصورات حول موقع البعد الديني في الصراع مع الكيان الصهيوني . يمكن رصد هذا البعد على مستويين : الأول العلاقة الإسلامية اليهودية عبر التاريخ ، والثاني التصور الفلسطيني للبعد الديني للصراع مع الكيان الصهيوني.
أ- بلاد الإسلام بلاد التسامح والتعايش بين الديانات
يُجمع أغلبية المؤرخين أجانب وإسلاميين أن اليهود لم يشعروا بالطمأنينة والأمان خلال تاريخهم إلا في ظل الدولة الإسلامية ، فهذه كانت دائما بلد التسامح والتعايش بين أصحاب الديانات و كل حالات الاضطهاد التي تعرض لها اليهود عبر التاريخ كانت على يد شعوب غير إسلامية وغير عربية ، وفي هذه الحالات كان اليهود يلتجئون إلى ديار الإسلام طلبا للحماية والأمان ، وهذا يعود إلى أن الإسلام عكس يهودية الصهاينة يعترف بالديانات الأخرى ويحترم أصحابها ويصون حقهم في ممارسة شعائرهم الدينية ، كما يصون كنائسهم وكنسهم ، كما شغل أهل الذمة من يهود ونصارى مناصب رفيعة في دولة الخلافة الاسلامية ، وفي العصر الحديث شغلوا مناصب مهمة في الدول العربية التي ينتمون اليها ، ففي المغرب مثلا شغلوا أكثر من وزارة.
ليس هذا فحسب بل إن المسلمين انصياعا لما ورد في القرآن الكريم يعتبرون سيدنا ابراهيم أبو الأنبياء وأول من قال بالإسلام ، وأن موسى وداود وسليمان وعيسى أنبياء لهم احترامهم وتقديرهم ، ويسمي المسلمون أبناءهم بأسماء أنبياء اليهود والمسيحية دون حرج ، وهذا عكس ما يجري عند اليهود والمسيحيين ، فلا يوجد يهودي أو مسيحي يسمى اسمه محمد أو مصطفى ، أو باسم خليفة من الخلفاء الراشدين أو بأي اسم إسلامي ، فالمشكلة هنا ليست إننا الذين نرفضهم أو لا نعترف بديانتهم بل هم الذين لا يحترمون ديننا أو يعترفون به إلا القلة منهم .
من هنا نلاحظ أنه وقبل ظهور الحركة الصهيونية في نهاية القرن الماضي وقبل تحالفها مع الحركة الاستعمارية لم تكن هناك أية مشكلة ما بين اليهود والمسلمين سواء داخل فلسطين أو خارجها ، ولم تبدأ العلاقة بين الطرفين تأخذ طابعا صراعيا عدائيا إلا بعد انتقال الصهيونية من فكرة إلى حركة سياسية تمارس سياسة الاستيطان في فلسطين وتعمل على طرد أصحاب الأرض العرب من مسلمين ومسيحيين من أرضهم لإحلال المهاجرين اليهود الذين جلبتهم من شتى بقاع الأرض.
ب – البعد الديني في المشروع السياسي الوطني الفلسطيني :
حتى بعد انكشاف المشروع الصهيوني استمرت الحركة الوطنية الفلسطينية بعيدة عن التعصب الديني ، حيث يلاحظ أن أول ظهور للحركة الوطنية الفلسطينية في نهاية العقد الثاني من هذا القرن كان خلال جمعيات حملت اسم الجمعيات الإسلامية – المسيحية وهي التي تحولت فيما بعد إلى أحزاب ، وكان ظهور هذه الجمعيات كمؤطر للحركة السياسية الفلسطينية ومُعبّر عن مطالب الشعب الفلسطيني له دلالة واضحة وهي أن الشعب الفلسطيني متحد في مواجهة الغزو الصهيوني والاستعمار البريطاني ، وأنه شعب يؤمن بالتعايش بين أصحاب الديانات في الوطن الواحد.
قيام الكيان الصهيوني عام 1948 وممارسته لسياسة تهويد الأرض وتدنيس المقدسات ، ثم احتلاله لبقية أجزاء فلسطين وأراض عربية أخرى عام 1967 ، وإعلانه ضم القدس واعتبارها عاصمة موحدة له ، كل هذا استفز الشعور الديني عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين مما دفعهم لاتخاذ مواقف معادية للحركة الصهيونية ولدولة إسرائيل .
هذا الموقف الرافض والمعادي للصهيونية لم يكن موجها ضد أصحاب الديانة اليهودية بالمطلق بل انصب على الحركة الصهيونية والتعصب الديني اليهودي . حتى لا تظهر الحركة الوطنية الفلسطينية بمظهر المعادي للدين اليهودي رفعت شعار اليهودية غير الصهيونية ، أي أنها ميزت بين اليهود كأصحاب ديانة سماوية والصهيونية كفئة من اليهود يوظفوا الدين لأغراض سياسية استعمارية ، هذا الشعار الذي تحول إلى سياسة رسمية عند م.ت.ف وتم التنصيص عليه في مقررات المجلس الوطني الفلسطيني.
اعتبارات متعددة وقفت وراء تغييب البعد الديني كمحدد رئيسي في المواجهة مع الكيان الصهيوني طوال عقدي الستينيات و السبعينات ، فبالإضافة إلى ما ذكرناه حول طبيعة الدين الإسلامي الذي يحترم أصحاب الديانات السماوية فإن طبيعة التركيبة السكانية في فلسطين كانت عنصرا يدفع في هذا الاتجاه ، حيث يوجد مواطنون فلسطينيون مسيحيون ، والعديد من قادة حركة المقاومة الفلسطينية وشهدائها كانوا مسيحيين : جورج حبش ، نايف حواتمة ، غسان كنفاني ، كمال ناصر ، ناجي علوش ، منير شفيق – قبل إسلامه – الخ ، بالإضافة إلى ذلك وهو العنصر المهم أن الفكر السياسي العربي الذي ساد خلال تلك الفترة- وكان الفكر السياسي الفلسطيني جزءا منه -كان فكرا قوميا اشتراكيا وأمميا ، لا يؤسِس برنامجه على أسس دينية بل طغت عليه العلمانية ، وربما كان لتحالف حركة التحرر العربية آنذاك بما فيها الحركة الوطنية الفلسطينية مع المعسكر الشيوعي دور في تهميش دور الدين كعامل من عوامل الصراع.
ولعل أبرز شعار رفعته حركة المقاومة الفلسطينية آنذاك واعتبرت تحقيقه هدفا لها هو الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية ، التي يتعايش فيها كل أصحاب الديانات المقيمين على أرض فلسطين . إذا كانت بعض قوى اليسار في الكيان الصهيوني رحبت بهذا الشعار فإن الدولة العبرية ومعها غالبية القوى السياسية وخصوصا اليمينية اليهودية عارضته بشدة ورفضته لكونه يتضمن إلغاء وجود دولة ( إسرائيل ) ويتناقض مع فكر وهدف الحركة الصهيونية ألا وهو إقامة دولة يهودية خالصة ، وما زال هذا الموقف المعادي للتعايش يحكم سياسة إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو .
كان لا بد من انتظار الثمانينات بما حفلت به من أحداث وتحولات منها تراجع المد القومي اليساري العلماني الأمر الذي فسح المجال للتيار الأصولي ليملأ الفراغ ، وقيام الثورة الإيرانية التي عززت من موقع الحركات الدينية ، ثم انهيار المعسكر الاشتراكي حليف القوى اليسارية والعلمانية الفلسطينية والعربية ، و فوق كل ذلك كان الإرهاب الصهيوني المتعاظم وعدوانه المتواصل وقمعه الشرس لانتفاضة الشعب الفلسطيني ورفضه لكل القوانين والشرائع الدولية ، وعجز قوى اليسار الاسرائيلي عن بلورة موقف سياسي مؤثر داخل الكيان الصهيوني يمكنه لجم اليمين اليهودي المتطرف ، كل هذه الأحداث أدت إلى ظهور خطاب سياسي فلسطيني ذي مضمون إسلامي يقاسم الخطاب الرسمي العلماني لـ م.ت.ف. الساحة السياسية إن لم يكن داخلا معه في صراع ذي أبعاد استراتيجية حول طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني ومنهاج حله.
إذا كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 اللحظة التاريخية والساحة العملياتية التي أظهرت قوة التيار الديني في الساحة الفلسطينية فإن اتفاقية أوسلو التي وقعتها م.ت.ف. مع الكيان الصهيوني وما استدعته من استحقاقات سياسية وأمنية كانت المناسبة ليعلن هذا التيار الديني برنامجه السياسي ذي الأبعاد الدينية الواضحة التناقض مع الطرح السياسي الرسمي للسلطة الوطنية الفلسطينية ، وكان أهم ما نتج عن دخول البعد الديني في الصراع مع الكيان الصهيوني بشكل مكثف مدعوم بتأييد شعبي هو إعادة النظر في طبيعة الصراع مع الكيان الصهيوني، هل هو صراع سياسي حول الأراضي المحتلة عام 1967 ، وبالتالي يمكن أن يحسم الصراع باتفاقيات سياسية بين الطرفين ؟ أم هو صراع ديني بين اليهود والمسلمين لا يحسم إلا باجتثاث الوجود اليهودي الصهيوني في أرض فلسطين ؟>
إذا كانت السلطة الوطنية الفلسطينية اتخذت موقفا واضحا باستعدادها لطي صفحة الصراع مع الكيان الصهيوني إذا قبل هذا الأخير بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وهو نفس موقف العديد من الدول العربية فإن موقف حماس والجهاد الإسلامي يتذبذب ما بين إعلانه للجهاد حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني واعتبار الصراع صراعا دينينا لا حلول وسطا فيه ، وموقف وسطي لا يمانع ب ( هدنة ) مع الكيان الصهيوني إذا قبل بالانسحاب من الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس الشرقية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ، وهذا الموقف لم يتجذر بشكل نهائي، ويبدو أنه يندرج في إطار بادرة حسن النية تجاه السلطة الفلسطينية وإعطائها فرصة لمحاولة تحقيق برنامجها السياسي مع احتفاظ حماس والجهاد الإسلامي ببرنامجها البديل إذا ما فشلت السلطة في تحقيق هذا الهدف.
وأخيرا يمكن القول بالنسبة لهذا المحور إن البعد الديني سيبقى عنصر صراع مع الكيان الصهيوني حتى وان حسمت أوجه الصراع الأخرى من سياسية واقتصادية وقانونية ، فما دام الكيان الصهيوني يؤسس وجوده على عقيدة صهيونية يهودية متعصبة وما دام يستحضر بقوة كل الرموز والأساطير الدينية اليهودية التي لا تعترف بأصحاب الديانات الأخرى مسلمين ومسيحيين كأصحاب حق في فلسطين وفي القدس تحديدا ، وفي ظل التحالف المتين بين الجماعات الدينية اليهودية المتطرفة والنخبة السياسية الحاكمة ، كل هذا سيكون مدعاة لأن يستحضر فلسطينيون ومسلمون البعد الديني في مواجهتهم مع العدو الصهيوني ، وهم في ذلك لن يكونوا متطرفين دينيين ولا معادين لليهود بل سيقدمون أنفسهم كدعاة حق ومدافعين عن المقدسات الإسلامية .
لقد مد العرب أيديهم للسلام ليس منذ مدريد بل منذ رفع الفلسطينيون شعار – هدف الدولة الفلسطينية الديمقراطية ، وما زالوا مادين أيديهم للسلام دون أن يجدوا من الكيان الصهيوني إلا كل صد وصلف واستهتار ، نعم للتسامح والسلام ولكن من منطلق القوة والكرامة وبما لا يمس الحقوق التاريخية المشروعة للعرب في أرضهم وللمسلمين في مقدساتهم وخصوصا في القدس الشرقية .
المحور الثاني
التاريخ والشرعية الدولية يفندان المزاعم الصهيونية
يستند الصهاينة في تبرير احتلالهم لفلسطين و وضمهم للقدس واعتبارها عاصمة لدولتهم على روايات تاريخية مصدرها التوراة اليهودية المحرفة وسياسات ومواقف استعمارية وخصوصا بريطانيا التي تبنت المشروع الصهيوني بداية قبل أن تحل محلها الولايات المتحدة الأمريكية في تبني دولة إسرائيل وتبني مزاعمها التاريخية وتبرر سلوكياتها في القدس كما فعل الرئيس ترامب في اعترافه بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل ، إلا أن العديد من الدراسات التاريخية الموضوعية تؤكد تهافت مزاعم الصهاينة .
أولا : التاريخ يكذب رواية الصهاينة
أعتبر الصهاينة الوعد الذي أصدره آرثر بلفور وزير الخارجية البريطانية لليهود في 2 نوفمبر 1917 بإقامة وطن لهم في فلسطين وكأنه اعتراف بحق تاريخي لليهود في فلسطين ، وعندما تم إدراج هذا الوعد في صك الانتداب البريطاني على فلسطين الصادر عن عصبة الأمم أعتبر الصهاينة ذلك وكأنه اعتراف أممي بحقهم في فلسطين .
وفي واقع الأمر فإن وعد بلفور كان افتئاتا على التاريخ وانتهاكا واضحا لحق الشعب الفلسطيني في أرضه فلسطين ، ذلك أن إقامة وطن قومي لليهود جاء كحل لمشكلة اليهود في أوروبا وليس لأنهم أصحاب حق بفلسطين ،وقد جرت محاولات لإقامة وطن لليهود في أكثر من منطقة في العالم ،أيضا جاء وعد بلفور نتيجة التقاء مصالح بين الحركة الصهيونية والتوجهات الاستعمارية البريطانية آنذاك .
بتحليل نص وعد بلفور نجد أن صيغته كانت : (إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي) مما يعني أنه لم يكن لهم قبل ذلك وطن قومي ،وإلا لكان النص بصيغة مختلفة ، أيضا النص يقول بإقامة هذا المقام القومي في فلسطين وليس في (أرض إسرائيل) وهذا اعتراف بوجود دولة أو كيان مُحدد يسمى فلسطين ،وفلسطين تنسب للشعب الفلسطيني الذي عَمَّر أرض فلسطين قبل ظهور اليهود أو بني إسرائيل في فلسطين ،وهذا ما يمكن الاستدلال به حتى من التوراة اليهودية نفسها التي تحدثت عن الفلسطينيين كسكان لأرض فلسطين التي وفد إليها بنو إسرائيل ، وإسرائيل في التوراة لا تُحيل إلى دولة أو أرض بهذا الاسم بل إلى شخص (إسرائيل) أي النبي يعقوب .
وكلمتا فلسطين والفلسطينيون كلمتان كنعانيتان موجودتان في الوثائق التاريخية منذ حوالي أربعة آلاف سنة ،وليس صحيحا أن الشعب الفلسطيني جاء مهاجرا من جزيرة كريت /كفتور في بحر إيجه عام 1118 قبل الميلاد كما يذكر كثير من المؤرخين نقلا عن مستشرقين يهود ، فهذه محاولة منهم للزعم أن بني إسرائيل سابقون على الفلسطينيين في التواجد في فلسطين. كما أن أسبقية وجود الشعب الفلسطيني في فلسطين تؤكدها التوراة نفسها والتي تعود لعهد النبي إبراهيم عام 1850 قبل الميلاد .
وحتى لا نبدو كمن يلقي الكلام على عواهنه فنستشهد بنصوص (التوراة) نفسها وهي المرجعية الدينية لليهود بل ولكثير من المؤرخين الغربيين عند كتابتهم عن تاريخ فلسطين والشرق الأوسط ، حيث سنلاحظ أن التوراة وفي أكثر من موضع تحدثت عن الفلسطينيين كسكان البلاد الأصليين قبل وصول بني إسرائيل إليها .
ففي التوراة وفي الإصحاح الرابع من سفر (صموئيل) جاء : (واصطف الفلسطينيون لقاء “إسرائيل” واشتبكت الحرب ، فانكسر بنو إسرائيل أمام الفلسطينيين) ،وفي نفس السفر جاء : (فحارب الفلسطينيون ، وانكسر بنو إسرائيل وهربوا ، كل واحد منهم إلى خيمته ، وكانت الضربة عظيمة جداً ، وسقط من بني إسرائيل ثلاثون ألف رجل وأخذ الفلسطينيون تابوت الرب) … و(نقل الفلسطينيون “تابوت الرب” وجاؤوا به إلى مدينتهم أشدود) …و(انتقل “تابوت الرب” من مدينة إلى أخرى لمدة سبعة شهور ، حتى اضطر الفلسطينيون في النهاية ، إلى دعوة الكهنة والعرافين ويسألونهم قائلين : ماذا نعمل بتابوت الرب؟) .
وفي نفس السفر جاء : (قتل الفلسطينيون شاؤل ملك بني إسرائيل وأبناءه الثلاثة وتحقق النصر النهائي للفلسطينيين) … و (بني إسرائيل الذين في عبر الوادي والذين في عبر الأردن ، حينما رأوا أن رجال إسرائيل قد هربوا وأن ملكهم شاؤل وبنيه قد ماتوا ، تركوا المدن وهربوا ، وقطع الفلسطينيون رأس شاؤل وأرسلوه إلى كل جهة في فلسطين) !.
لكن قبل أن ننهي هذه الجزئية التي تكشف زيف افتئات وعد بلفور على التاريخ سنسرد قصة شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية وهي قصة موجود في التوراة أيضا وفي سفر القضاة 14 ، ونصها حرفيا ( نَزَلَ شمْشُونُ إِلَى تِمْنَةَ، وَرَأَى امرَأَةً فِي تِمْنَةَ من بَناتِ الْفلسْطِينِيِينَ .فَصعِدَ وَأَخْبَرَ أَباهُ وأُمَّهُ وقَال : «قَدْ رأَيْتُ امرأَةً فِي تِمْنَةَ من بَنَاتِ الْفلسْطِينِيِينَ ، فَالآنَ خُذَاها لِيَ امْرَأَةً»َقَالَ لهُ أَبوهُ وأُمُّهُ : «أَلَيْسَ في بناتِ إِخْوَتِكَ وفي كُلِّ شعْبي امْرَأَةٌ حَتَّى أَنَّكَ ذاهبٌ لِتَأْخُذَ امْرَأَةً منَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ الْغُلْفِ؟) .
هذه النصوص من التوراة نفسها تعترف بوجود الفلسطينيين في فلسطين قبل أن يصل لها اليهود كما تؤكد على وجود ملوك ومدن للفلسطينيين ،وهناك نصوص توراتية أخرى تذكر أسماء المدن الفلسطينية كعسقلان وغزة وأسدود وعقرون الخ .
هذا بالإضافة إلى أن كثيرا من المؤرِخين والبَحَاثة الأوروبيين بما فيهم بريطانيين كشفوا أساطير وأكاذيب الرواية الصهيونية حول تاريخ اليهود في فلسطين ، كما أن الإسرائيليين أنفسهم نبشوا كل أرض فلسطين شبرا شبرا ولم يجدوا شيئا يؤكد وجود حضارة قديمة لليهود في فلسطين ، هذا بالإضافة إلى قرارات الأمم المتحدة وخصوصا قرارات اليونسكو التي تُنصِفُ جزئيا الحق الفلسطيني وخصوصا في القدس .
ثانيا : الأمم المتحدة تفند المزاعم الإسرائيلية بشأن القدس
الصراع على هوية المسجد الأقصى هو جزء من صراع طويل حول هوية القدس وفلسطين وهو صراع ممتد منذ مائة عام ، وكانت أولى المواجهات في هبة البراق عام 1929 حيث تصدى الفلسطينيون لقطعان المستوطنين الذين أرادوا الصلاة عند حائط البر اق الذي يسميه اليهود حائط المبكى وفي المسجد الأقصى تحت حماية قوات الانتداب البريطاني ، وتصدى لهم الفلسطينيون وجرت مواجهات دامية سقط فيها المئات من الجانبين بين قتلى وجرحى كما قامت القوات البريطانية بإعدام الشهداء الثلاثة عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم .
على إثر هذا الحادث شكلت بريطانيا لجنة برئاسة شو وسميت باسمه و أوصت بإحالة الأمر على عصبة الأمم التي شكلت بدورها في 14/1/1930 لجنة أكدت توصياتها بأن ” ملكية الحائط الغربي تعود للمسلمين وحدهم ولهم الحق وحدهم فيه لأنه يؤلف جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف ، وتعود لهم أيضا ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لأن ذلك الرصيف وقف إسلامي” .
وفي قرار التقسيم في نوفمبر 1947 توافق أعضاء الأمم المتحدة على وضع القدس بكاملها تحت الوصاية الدولية ورفضت أي سيادة إسرائيلية عليها ، ومنذ ذلك التاريخ وبالرغم من الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 لكل المدينة المقدسة إلا أن كل القرارات والتوصيات والتفاهمات الدولية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي تعتبر القدس الشرقية أراضي عربية وفلسطينية محتلة . وبعد تصويت الجمعية العامة عام 2012 على قرار الاعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967 عضوا مراقبا أصبحت القدس الشرقية أراضي دولة فلسطين خاضعة للاحتلال ولا يجوز لإسرائيل تغيير معالمها دون إذن وموافقة أهلها وأي إجراء إسرائيلي منفرد يعتبر مخالفة دولة ، وهو ما يتوافق مع اتفاقية لاهاي الربعة 1907 واتفاقات وبروتوكلات جنيف 1949 وميثاق الأمم المتحدة بخصوص الأراضي المحتلة.
في هذا السياق ولأن الأمر الواقع المفروض بقوة الاحتلال لا يؤسِس حقا ، تأتي أهمية تبني اليونسكو لقرارات تؤكد إسلامية المسجد الاقصى وترفض أي مزاعم يهودية بشأنه وخصوصا زعم وجود الهيكل وأن المسجد الاقصى قام على انقاض الهيكل .
ففي اكتوبر 2016 صوتت اليونسكو إلى جانب قرار ينفي وجود أي علاقة لليهود في المسجد الأقصى وحائط البراق وفي العام الموالي 2017 تبنىت المنظمة قرارين يعتبران القدس الشرقية أرض محتلة وجزء من اراضي الدولة الفلسطينية ، وأن المسجد الأقصى والحائط الغربي تراثا إسلاميا ولا علاقة لليهود به هو إقرار لحقيقة تاريخية ولواقع معاش ورفضا للابتزاز الإسرائيلي والأمريكي وتأكيد لمواقف دولية سابقة بهذا الشأن وحول اعتبار كل الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية أراض محتلة ، وهو قرار يقطع الطريق على الجهود الإسرائيلية لتهويد المسجد أو تقاسمه ويؤكد الرواية الفلسطينية التي يتم تعميدها يوميا بالدم الفلسطيني داخل المسجد الاقصى والقدس وفي عموم أرض فلسطين .
على إثر توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم السادس من ديسمبر 2017 على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها عقدت الجمعية العامة يوم 21 من نفس الشهر جلسة لبحث تداعيات القرار الأمريكي وقد صوت اعضاء الجمعية بأغلبية الأصوات 128 على قرار يدعو واشنطن للتراجع عن قرارها وتؤكد الجمعية العامة على عدم شرعية أي إجراءات تغير من الوضع القائم في القدس أو يمس القرارات الأممية السابقة بهذا الشأن .
المواقف الدولية إضافة إلى المواقف العربية والإسلامية الرسمية والشعبية وبالرغم من محدوديتها لأنها لوحده لن تغير شيئا على أرض الواقع ولن تكبح الاستيطان أو تُوقف الاعتداءات على المقدسات الإسلامية والمسيحية إلا أنه وفي ظل الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية الراهنة وفي مواجهة الجهود الإسرائيلية المستميتة لفرض الرواية اليهودية بخصوص المسجد الاقصى والقدس على العالم وعلى منظمة اليونسكو تحديدا ، فإنه يعتبر انجازا ويؤكد على أهمية الشرعية الدولية لو احسنا التعامل معها .
المحور الثالث
القدس ما بين الممارسات الإسرائيلية والممكن الفلسطيني
بالرغم من رفع القيادة الفلسطينية شعار حل الدولتين إلا أن إسرائيل كانت تعمل على وضع عقبات أمام فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية كما كانت تحذر من إضفاء طابع ديني على الصراع ،سواء من خلال التلاعب بعملية التسوية والاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين أو وضع شروط تعجيزية كالاعتراف الفلسطيني المُسبق بيهودية دولة إسرائيل ،ولكن الأكثر خطورة هو ما تقوم به إسرائيل عمليا على الأرض من استيطان وتهويد وخصوصا في مدينة القدس .
أولا : إسرائيل وسياسة فرض الأمر الواقع في القدس
في هذا السياق نجحت إسرائيل وبموافقة أمريكية في جعل حل الدولتين بالرؤية الفلسطينية مستحيل التطبيق من خلال تغيير وظيفة السلطة الفلسطينية وجغرافيا سيطرتها و إخراج القدس من سياقها الوطني حيث تصرفت إسرائيل مع قضية القدس ،أرضا وسكانا ،بطريقة مغايرة مع تصرفاتها مع بقية مناطق الضفة الغربية ، وفي هذا السياق نشير إلى ما يلي :
1- مباشرة بعد حرب حزيران 1967 اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارها القاضي بسريان القانون الإسرائيلي على القدس العربية المحتلة .
2- في 31 يوليو 1980 أقر البرلمان الإسرائيلي قانون “القدس عاصمة إسرائيل” .
3- في اتفاقية أوسلو تم استبعاد القدس من موضوعات التفاوض وتأجيلها لمفاوضات الوضع النهائي ، وبالرغم من قيام السلطة الفلسطينية عام 1994 إلا أن إسرائيل حالت ما بين السلطة وفرض نفوذها على القدس وانفردت إسرائيل بالقدس الشرقية استيطانا وتهويدا ، كما منحت هويات خاصة لأهالي القدس .
4- في 10 آب 2001، قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي باقتحام واحتلال تسعة مباني فلسطينية في القدس الشرقية وكان أبرزها بيت الشرق كما أعادت احتلال مبنى المحافظ ومكاتب أخرى تابعة للسلطة الفلسطينية في قرية أبو ديس المجاورة التي يشملها الحكم المدني الفلسطيني بموجب الاتفاقيات الموقّعة.
5- سعي إسرائيل المحموم لتغيير التركيبة السكانية في القدس لصالح اليهود ،مع تضييق سبل العيش على الفلسطينيين من عمل وسكن وسفر الخ .
6- انجر الفلسطينيون ،وتساوقت معهم الجماهير العربية والإسلامية ، إلى التعامل مع قضية القدس كقضية دينية فقط ،وهكذا بدت القدس وكأنها خارج المشروع والسياق الوطني ،وأنه يمكن التوصل لحلول دينية خاصة بالمسجد الاقصى بعيدا عن الرابطة الوطنية .
7- إصدار الكونجرس الامريكي عام 1995 قانونا يعترف بالقدس كعاصمة لدولة إسرائيلي دون ردود فعل قوية فلسطينية وعربية وإسلامية ، وهو ما شجع الإدارة الامريكية برئاسة ترامب على المصادقة على قرار الكونجرس .
8- فشلت السلطة الفلسطينية والمنظمات الدولية في ردع إسرائيل والحد من ممارساتها الاستيطانية في القدس أو التأثير في السياسة الامريكية المنحازة ، بالرغم من صدور عديد القرارات التي تعارض الرواية الصهيونية في القدس كقرارات منظمة اليونسكو وأخرى صادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة تعارض قرار ترامب حول القدس .
9- في 31/3/2013 وقّع الملك الأردني عبد الله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس اتفاقية بشأن حماية الأردن للقدس والمقدسات وقد جاءت الاتفاقية لتعيد تأكيد دور الأردن في الوصاية على المقدسات في القدس والتي بدأت منذ عام 1924.
10- هبة البوابات الالكترونية –من 14 إلى 28 يوليو 2017 – وبالرغم مما حققه المقدسيون من إنجاز إلا أنها أظهرت حالة الفصل ما بين القدس وبقية المناطق الفلسطينية سواء قطاع غزة وحتى الضفة الغربية وكرست الطابع الديني بدلا من أن تأخذ بعدا وطنيا ،كما أظهرت هامشية دور السلطة الفلسطينية .
ثانيا : البعد الديني لمدينة القدس لا يلغي الواجب والمسؤولية الوطنية
عقود من الزمن ما بعد حرب يونيو 1967 وإسرائيل تواصل احتلالها للقدس ولكل فلسطين وتدنس المقدسات ولم يتصدى للاحتلال الصهيوني فعليا إلا أهل فلسطين ،ولم يدافع عن المسجد الاقصى إلا أهل القدس . ليس هذا انكار للجميل لكل من ساند شعب فلسطين وليس كفرا ورفضا للبعدين القومي والإسلامي للقدس وفلسطين ولكل كشفا لزيف الأيديولوجيات والشعارات ودعوة للتعامل بعقلانية وواقعية مع ما يجري في المسجد الأقصى والقدس .
إن كان من غير المجدي في ظل الظروف العربية والإسلامية الراهنة مطالبة الأنظمة العربية والإسلامية بأكثر مما قدموا حيث مشاكلهم وهمومهم الداخلية لها الأولوية على أي ارتباطات أيديولوجية حتى وإن كانت دينية ، ففي المقابل مطلوب فلسطينيا التوقف عن المراهنة على البعد الديني الذي يقول بأن القدس مقدسة لمليار ونصف المليار مسلم وعلى هؤلاء تقع مسؤولية التصدي للاحتلال الإسرائيلي وتحرير القدس ،والتوقف أيضا عن وهم أن قرارات الشرعية الدولية بما فيها قرارات اليونسكو يمكنها أن تشكل رادعا لإسرائيل وتُعيد السيادة الفلسطينية والعربية على القدس .
المكانة الدينية والتاريخية لمدينة القدس بالنسبة للديانات السماوية الثلاث لا يلغي أنها مدينة فلسطينية وعاصمة الدولة الفلسطينية المنشودة وينطبق عليها ما ينطبق على بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة . أيضا البعد الديني للقدس لا يلغي أو يسقط المسؤولية الوطنية الفلسطينية عن المدينة ،والبعد الديني أو الصفة الدينية للقدس ليس بديلا عن بُعدها الوطني ، فوطنية القدس والمقدسات لها الأولوية على بُعدها الأيديولوجي الديني أو القومي .
وإذ يرحب الفلسطينيون بأي جهود أردنية أو عربية أو دولية للتصدي للممارسات الإسرائيلية في القدس إلا أنه يجب الحذر من أي حلول بعيدا عن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لأن ذلك سيعزز محاولات فصل القدس عن الضفة وعن الإيالة الفلسطينية عليها وسيعزز إحساسا عند سكان القدس أنهم ليسوا جزءا من الحالة الوطنية ما دامت مشاكلهم تُحل بعيدا عن الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني .
الخاتمة
لا نقلل من شدة الهجمة الصهيونية واختلال موازين القوي بين الفلسطينيين والإسرائيليين ،كما لا نقلل من قيمة ما يتم انجازه بصبر وصمود شعبنا وبما هو متاح من حراك دبلوماسي فلسطيني وعربي وإسلامي للتصدي للممارسات الإسرائيلية في القدس وكل فلسطين ،كما نقف احتراما وإجلالا لأهلنا في القدس الذي يدافعون عن القدس والأقصى بصدورهم العارية ، ولكن هناك مخاطر حقيقية تواجه مدينة القدس وخصوصا في ظل الإدارة الأمريكية الحالية .
ليس أمام الشعب الفلسطيني إلا أن يستجمع قواه ويوحد مكوناته السياسية لإنقاذ ما تبقى من الأرض والمقدسات والكرامة الوطنية . انشغال العرب والمسلمين بمشاكلهم الداخلية لا يسقط عنهم المسؤولية ولو في حدود دعم صمود أهالي القدس والدفاع عن الرواية العربية والإسلامية حول القدس ،كما أن هذا الانشغال العربي والإسلامي يجب ألا يكون مبررا للإحباط الفلسطيني الرسمي والشعبي وهناك الكثير مما يمكن عمله فيما لو تمكن الفلسطينيون من إنهاء الانقسام والتوصل لإستراتيجية وطنية يتوافق عليها الجميع.