د. أحمد عسكر: تحولات السياسة الأمنية والعسكرية الصينية في أفريقيا
د. أحمد عسكر 7-9-2024: تحولات السياسة الأمنية والعسكرية الصينية في أفريقيا
استضافت تنزانيا خلال الفترة من 28 يوليو إلى 15 أغسطس 2024 مناورات “وحدة السلام 2024” العسكرية المشتركة مع كلٍّ من الصين وموزمبيق، بحيث ركزت على مكافحة الإرهاب بما في ذلك الدفاع عن الموانئ البحرية وتكتيكات الحرب على الإرهاب والصعود على متن السفن ومكافحة القرصنة والدوريات البحرية المشتركة، وذلك بهدف تعميق الثقة العسكرية المتبادلة والتعاون العملي بين جيوش الدول الثلاث للحفاظ على السلام الإقليمي.
وشهدت تلك المناورات العسكرية البرية والبحرية أكبر انتشار عسكري للقوات الصينية في أفريقيا جنوب الصحراء، في إشارة إلى تحول لافت في سياسة الصين تجاه أفريقيا، لا سيما في ضوء مساعيها لتنويع مداخل اهتمامها بهدف تعزيز نفوذها على الساحة الأفريقية، من خلال التوسع في الحضور الأمني والعسكري الصيني عبر تعزيز العلاقات الأمنية والعسكرية مع الدول الأفريقية ومحاولة الانخراط في المعادلات الأمنية لبعض المناطق الحيوية في القارة مثل البحر الأحمر والمحيط الهندي بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، بعدما كانت ترتكز أدواتها بشكل أساسي على تعظيم الاستفادة من العامل الاقتصادي كمدخل رئيسي لها في توسيع علاقاتها مع الدول الأفريقية بهدف تأكيد نفوذها في القارة.
وتعكس هذه الخطوة الصينية العديد من الدوافع والدلالات الكاشفة لتحولات سياسة بكين الأمنية تجاه أفريقيا وتداعياتها المحتملة على مستقبل الدور الصيني هناك والقوى الدولية المناوئة لها.
دوافع استراتيجية صينية
لم تكن هذه المناورات العسكرية الصينية مع تنزانيا هي الأولى بين الجانبين، فقد سبقتها ثلاث مناورات مشتركة في أعوام 2014 و2019 و2023[1]، بما يجعل تنزانيا بمنزلة وجهة رئيسية للتعاون العسكري الصيني. وإن كانت تتضاعف أهمية المناورات هذا العام كونها تأتي في ظل سياق أمني إقليمي مضطرب بسبب تنامي التهديدات الأمنية في عدد من المناطق الحيوية مثل البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو ما يسلط الضوء على الأهمية الاستراتيجية التي تحظى بها المنطقة من المنظور الصيني.
وتعد كلٌّ من تنزانيا وموزمبيق من أبرز الشركاء الاستراتيجيين الرئيسيين لبكين في القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، حيث يتلقى كلاهما إلى جانب كل من ناميبيا وسيشل أكثر من 90% من عمليات نقل الأسلحة الصينية إلى أفريقيا، وهو ما يعد تأكيدًا لاتفاق الشراكة والتعاون الاستراتيجية في المجال الأمني والاستخباراتي الذي وقعته حكومة موزمبيق مع نظيرتها الصينية في عام 2016[2].
من هنا، تكشف هذه المناورات عن جملة من الدوافع الصينية من أجل تعزيز النفوذ الصيني على الساحة الأفريقية خلال الفترة المقبلة. إذ تدرك بكين الأهمية الاستراتيجية لمنطقة المحيط الهندي في إطار حرصها على تأمين وحماية أمن طريق الحرير البحري الصيني، وهو ما دفعها إلى تدشين استراتيجية القواعد العسكرية الصينية في المحيط الهندي وإنشاء نقاط دعم استراتيجية بحرية هناك، الأمر الذي يعزز الأهمية الجيوسياسية لكل من تنزانيا وموزمبيق اللتين تطلان على قناة موزمبيق الاستراتيجية التي يمر من خلالها نحو 30% من حركة ناقلات النفط العالمية[3].
ويعني ذلك أن تنزانيا وموزمبيق تقعان على طول ممر شحن رئيسي تستغله الصين في نقل النفط إليها. إضافة إلى كونهما تمثلان بوابة استراتيجية للعمق الأفريقي لا سيما دول الوسط والجنوب، الأمر الذي يدفع بكين نحو محاولة ربط البلدين بمبادرة الحزام والطريق الصينية التي ترغب في حمايتها من أجل تأمين سلاسل التوريد الصينية التي تصل بكين بالعالم، وإنشاء شبكة من الموانئ الإقليمية التي تربط الدول الساحلية في شرق أفريقيا بغرب آسيا وحتى الصين، وهو أمر مرتبط باحتمال تأسيس قواعد عسكرية صينية جديدة في المنطقة، لا سيما أن تنزانيا قد ظهرت ضمن بعض الدول الأفريقية الأخرى المرشحة لاستضافة قاعدة عسكرية صينية على أراضيها[4]، وذلك بهدف تعزيز النفوذ الاقتصادي والعسكري والاستراتيجي لبكين في أفريقيا.
ويرتبط ذلك بدوافع بكين لتعزيز حضورها عند قناة موزمبيق الاستراتيجية لا سيما في ضوء المساعي الصينية للبحث عن ممرات مائية بديلة لمضيق باب المندب، خاصة في ظل الإدراك الصيني بأن هذه المنطقة ستصبح ساحة للصراع والتنافس الدولي خلال الفترة المقبلة، وذلك في ضوء التفاعلات والتنافس المحتدم في المحيط الهندي، وتحول التجارة الدولية من البحر الأحمر الذي يشهد سياقًا أمنيًّا مضطربًا للمحيط الهندي، وهو ما يضفي أهمية كبيرة لقناة موزمبيق الاستراتيجية.
ولا يمكن إغفال امتلاك المنطقة العديد من الثروات والموارد الطبيعية، فلدى بكين مصلحة حيوية في حقول الغاز التي تتوافر باحتياطيات هائلة قبالة سواحل شمال موزمبيق، ومع دخول الجانب التنزاني في هذا المجال، تتعزز أهمية هذه المنطقة بحيث أضحى تحقيق الاستقرار الأمني هناك بما في ذلك تنزانيا وموزمبيق مصلحة حيوية للقوى الدولية الفاعلة لا سيما الصين، التي تمتلك مجموعة من الاستثمارات في المنطقة، مثل شركة سي إن بي سي الصينية التي تستثمر في مشروع “روموفا” للغاز الطبيعي المسال بالشراكة مع شركتي إكسون موبيل الأمريكية وإيني الإيطالية العملاقة. إضافة إلى توقيع شركة النفط والغاز الصينية “سيتوك المحدودة” في مايو 2024 صفقة لاستكشاف خمسة حقول للنفط في المنطقة.
لذلك، تنطلق بكين من إدراكها لدورها في إرساء الأمن والاستقرار الإقليمي من خلال تقديم نفسها كحليف قادر على المساعدة في مكافحة الإرهاب بالمنطقة واحتواء مخاطر وتهديدات تنظيم “داعش” خاصة في ضوء التراجع الغربي بعدد من المناطق مثل الساحل وغرب أفريقيا، وذلك من خلال المساهمة في تعزيز قدرات القوات التنزانية والموزمبيقية في الحرب على الإرهاب، في إطار تعزيز العلاقات العسكرية والأمنية بين الطرفين، وفي ضوء عدم رغبة الصين في اعتماد موزمبيق على الدول الغربية في حربها على الإرهاب لا سيما أنها انخرطت في تدريبات مشتركة مع بعض تلك الدول خلال السنوات الأخيرة في سبيل التصدي للهجمات الإرهابية لتنظيم “داعش” في إقليم كابو ديلجادو شمالي موزمبيق.
كما تسعى بكين إلى تعزيز حضورها في المنطقة في مواجهة التحركات الهندية المناوئة لها، لا سيما أن نيودلهي قد انخرطت في مناورة عسكرية مع تنزانيا وموزمبيق في مارس 2024 في ميناءي زنجبار التنزاني وموبوتو الموزمبيقي، وهو أمر مرتبط برغبة صينية في موازنة النفوذ الأمريكي والغربي في غرب المحيط الهندي من أجل الوقوف في وجه تحركات الطرفين وكذلك تقويض أي تفاهمات أمريكية فرنسية/أوروبية حيال المنطقة، لا سيما أن فرنسا لديها وجود ملحوظ في المحيط الهندي حيث تتواجد بشكل شبه دائم في بعض مناطق النفوذ الاستراتيجي هناك مثل جزيرة مايوت في جزر القمر. كما تزامنت المناورات الصينية مع قيام واشنطن ببدء محادثات مع تنزانيا بشأن دعم حكومة موزمبيق لاحتواء مخاطر التهديدات الأمنية في إطار تعزيز الشراكة الأمنية الأمريكية مع البلدين، وهو ما يهدد بالطبع تحركات ومساعي بكين لتأكيد النفوذ الصيني في المنطقة[5].
دور صيني أوسع
تبدو معظم الدول الأفريقية مستفيدة من تداعيات التحول في السياسة الصينية على الصعيد الأمني في القارة، إذ إن بكين تعد خيارًا بارزًا ومقبولًا لدى الأفارقة في هذا المجال وما يرتبط به من مجالات أخرى، خاصة أن تعدد الفاعلين البارزين في مجال الحرب على الإرهاب واحتواء التهديدات الأمنية في القارة الأفريقية يعد عاملًا إيجابيًّا بالنسبة للدول الأفريقية التي ترغب في توسيع دائرة التحالفات الدولية في هذا الصدد، بدلًا من الاعتماد على الدول الغربية وحدها خاصة بعد إخفاقها في منطقة الساحل على مدى العقد الماضي وانعكاسات ذلك على تراجع دورها ونفوذها هناك بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة.
فعلى سبيل المثال، من المرجح أن تستفيد دولتا تنزانيا وموزمبيق في هذا الصدد، وذلك من خلال تعزيز قدرات وكفاءة قوات الجيشيْن، إضافة إلى تحسين البنية التحتية في كلا البلدين بما في ذلك تطوير الموانئ البحرية التي تهتم بها بكين في إطار مبادرتها العالمية. ومن ثم؛ ربما تجد الدول الأفريقية في تنامي التنافس الدولي بين القوى الفاعلة مثل الصين والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها فرصة جيدة للحصول على المزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية والمالية، وضخ المزيد من الاستثمارات في العديد من المجالات، وإن كانت هذه الدول قد تتحول لساحة صراع وتنافس دولي بما يهدد أمنها واستقرارها في ضوء تباين المصالح الاستراتيجية للقوى المتنافسة هناك.
وفي سياق متصل، تدرك الصين أن الدول الغربية لا تستطيع مجاراتها في عدد من المجالات الداعمة لنفوذها في أفريقيا على رأسها المدخل الاقتصادي، وهو ما قد يشجعها على توسيع مجالات اهتماماتها مع الدول الأفريقية لا سيما المدخل الأمني، بما يدفعها لإبرام مزيد من اتفاقات التعاون العسكري مع عدد من الدول الأفريقية مثل الصومال، والانخراط بقوة في بعض المناطق الساخنة مثل الساحل، على نحو قد يعزز مكانتها على الساحة الأفريقية على حساب الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة، عقب تراجع دورها في الساحل خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي قد يضمن لها إمكانية إقامة عدد من القواعد العسكرية المحتملة في بعض الدول الأفريقية خلال الفترة المقبلة.
ويعزز هذا الطرح توسع بكين أيضًا في تنفيذ مشروعاتها الرامية إلى تطوير وتحسين البنية التحتية الأفريقية بما يضمن لها السيطرة على المزيد من الموانئ البحرية الاستراتيجية في بعض الدول الأفريقية، من خلال إبرام صفقات مع بعض الحكومات الأفريقية.
بينما تنظر الدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا إلى التمدد الصيني في الساحة الأفريقية بمزيد من التخوف والقلق، لا سيما أنها تدرك أن بكين تسعى إلى تقويض النفوذين الأمريكي والغربي في القارة، وذلك في إطار التنافس المحتدم بين الطرفين على النفوذ والاستيلاء على الموارد والثروات الأفريقية، وهو ما يجعل من المرجح أن يتسع التنافس البحري بين الصين وتلك الدول في بعض المناطق الاستراتيجية مثل غرب المحيط الهندي، على نحو يعزز المخاوف من انعدام الاستقرار الإقليمي في المنطقة.
إجمالًا، إن توسع الصين في تبني العامل الأمني كأحد المداخل الاستراتيجية لها من أجل تعزيز نفوذها في القارة الأفريقية يعني انخراط فاعل دولي بارز يمثل تهديدًا للنفوذين الغربي، والأمريكي تحديدًا، هناك. مع أنه يوسع الخيار الأفريقي لاختيار حلفاء داعمين في مجال الحرب على الإرهاب، وهو ما يعزز استفادة الصين التي ربما يتضاعف عدد قواتها العسكرية في القارة، وبما يضمن لها زيادة التواجد العسكري في بعض المناطق الاستراتيجية، لا سيما المضايق المائية المهمة مثل مضيق موزمبيق وغيره. إضافة إلى التوسع في إقامة قواعد عسكرية لها في الدول الأفريقية، والسيطرة على عدد أكبر من الموانئ البحرية الاستراتيجية هناك، الأمر الذي قد يجعلنا بصدد المزيد من العسكرة في أفريقيا وانعكاسات ذلك على توتر الأوضاع الأمنية الإقليمية هناك نتيجة احتدام التنافس الدولي في القارة لا سيما بين الصين والولايات المتحدة، مع استمرارية لعب قارة أفريقيا دور الساحة المفتوحة للصراع بين القوى الفاعلة من أجل الاستيلاء على مواردها وثرواتها المستنزفة منذ عقود طويلة.
الهوامش:
[1]. Patrick Kenyette, China deploys large force to Tanzania for Peace Unity 2024 joint exercise, Military Africa, 7 August 2024, accessible at: https://tinyurl.com/y2r9knwe
[2]. Paul Nantulya, Considerations for a Prospective New Chinese Naval Base in Africa, The Africa Center for Strategic Studies, 12 May 2022, accessible at: https://tinyurl.com/5atb6k23
[3]. Jevans Nyabiage, China’s drills with Tanzania and Mozambique show ‘blended approach’ to military diplomacy, South China Morning Post, 4 August 2024, accessible at: https://tinyurl.com/57jr7s87
[4]. Henry Tugendhat, Is China Eyeing a Second Military Base in Africa?, The United States Institute of Peace, 30 January 2024, accessible at: https://tinyurl.com/yyh85pnn
[5]. Bob Karashani, US, Tanzania begin talks on dealing with Mozambique threat, The East African, 27 July 2024, accessible at: https://tinyurl.com/4sjysdfc