دير شبيغل – انتصار الأسد : ما الذي سيأتي بعد الحرب في سورية
دير شبيغل – سوزان كويلبل – 24/1/2018
كسب النظام السوري إلى حد كبير حربه ضد المتمردين، وأصبح التفكير يتحول بالتدريج إلى مستقبل سورية. لكن أمام البلد طريق طويل ليقتطعه قبل أن يجد السلام.
* * *
دمشق، سورية – في الساعة الحادية عشرة وسبع وأربعين دقيقة صباحاً، في يوم صافٍ من أيام تشرين الثاني (نوفمبر)، لا يعبق الهواء في حي باب شرقي برائحة النصر، وإنما بالغبار والدخان، بينما تضرب قذيفة مورتر خلف مكتب جيني لطفي. وتقول لطفي، مشيرة إلى حي يقع على بعد كيلومتر واحد فقط من مكتبها في وكالة للرعاية الاجتماعية تابعة للكنيسة الكاثوليكية السورية: “الإرهابيون موجودون في جوبر”. وتضيف جيني البالغة من العمر 27 عاماً: “يقصفون بخط مستقيم”، مؤكدة على أن هذا هو ما يهم عندما يأتي الأمر إلى قذائف المورتر.
ارتطمت القذيفة بسقف الجامع خلف “البوابة الشرقية”، أو “باب شرقي”، وهو واحد من سبعة مداخل للمدينة القديمة في دمشق. وتتساءل لطفي: “لماذا يطلقون النار علينا؟ لم يتبقَّ هنا سوى المدنيين”. لكن ما لا تعرفه هو أن الحكومة تشن حملة من الضربات الجوية الكثيفة على الثوار هنا في جنوب شرق سورية، وأن الهجوم على المدينة القديمة هو بمثابة جهد اللحظات الأخيرة بالنسبة للثوار المحاصرين قبل مواجهة هزيمتهم الحتمية.
بالمعاني العسكرية، تقرر مصير الحرب فعلاً –بالنسبة للأسد والنظام السوري. ومع ذلك، ما يزال البلد بعيداً عن السلام.
جيني لطفي مسيحية أرثوذكسية، وهو ما يجعلها جزءاً من أقلية في سورية هي الأكثر احتمالاً للعثور على الحماية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. لكن ذلك لم يوقف الوفيات الناجمة عن القصف في الأيام الأخيرة في الأزقة الضيفة للحي المسيحي.
وقد أصيب والد لطفي في صدره بشظية، وأصيبت والدتها في ذراعها بقطعة منها بينما كانت تسير نحو جهاز صراف آلي. وفي الأيام الخمسة الماضية وحدها، تلقى الحي نحو 105 ضربات.
أصبح القتال في دمشق أسوأ مما كان عليه منذ وقت طويل. ويبدو الأمر كما لو أن صوت التفجيرات المتواصل هو طلقات المدفعية التي ترحب بمفاوضات السلام التي أعلِن عنها حديثا بين الحكومة السورية والمعارضة، وهي مفاوضات فشلت مرارا وتكرارا، كما حدث مؤخرا في اجتماع عُقِد في جنيف تحت قيادة المبعوث الخاص للأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا.
وكان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد زار دكتاتور سورية، بشار الأسد، في أوائل كانون الأول (ديسمبر). وكانت الرسالة التي نقلها هي أن الصراع العسكري سوف ينتهي قريباً، وأن بعض القوات الروسية سوف تنسحب. وتريد روسيا الآن إطلاق عملية السلام الخاصة بها في العام الجديد، وأن تقنع الغرب بتقديم أموال لإعادة الإعمار من أجل مساعدة البلد لمعاودة الوقوف على قدميه. وبعد وقت قصير من زيارة بوتين، تم الكشف عن أن روسيا تريد توسيع قاعدتها الجوية في البلد.
القصف يتواصل
في هذه الأثناء، تواصل القذائف السقوط على الغوطة الشرقية، حزام الضوحي الواقع إلى الجنوب الشرقي من دمشق، وأحد آخر معاقل الثوار. كما أن هناك أيضاً إطلاق نار في اليرموك، الجيب الفلسطيني وسط العاصمة. وفي مدينة إدلب الشمالية، على الحدود التركية، يتجمع المقاتلون مع جبهة النصرة المتطرفة ومجموعات ثوار أخرى لخوض المعركة الأخيرة ضد القوات الموالية للأسد.
كما أن الأميركيين أصبحوا موجودين الآن رسميا في البلد بتشكيلات أكبر للقوات في الشمال، بوجود مؤكد لنحو 2.000 جندي. كما أن الروس، والإيرانيين، وميليشيا حزب الله ما يزالون جميعاً في البلد. ويقوم الإسرائيليون بقصف مواقع حزب الله المشتبه بها في دمشق. وإذن، ما الذي يجب أن نفهمه من الزعم بأن الأسد كسب الحرب، عسكريا، بينما القتال ما يزال متواصلا؟ ما هو الذي على المحك بالضبط هنا، ومن هم اللاعبون وما هي مصالحهم وغاياتهم؟
الناس في دمشق سئموا بشكل خاص من الحرب، وقد أنهكتهم تماماً أكثر من ست سنوات من الحرب. ومثل جيني لطفي، فإنهم يتساءلون عن متى سينتهي القتال أخيراً، والأكثر أهمية، ما الذي سيبدو عليه السلام بعد ذلك.
من المؤكد أن السكان الذين ما يزالون يعيشون في دمشق ليسوا كثيرين بين أولئك الذين ثاروا على الرئيس الأسد في ذلك الحين. فقد هرب أولئك الناس منذ وقت طويل، أو أنهم في السجن أو موتى. ولو عُقدِت انتخابات غداً، فإن معظم سكان دمشق ربما يصوتون للأسد. فهو مطلق الحضور في المدينة، في الملصقات المعلقة في كل صالون حلاقة، أو على التقاطعات الرئيسية، في هيئة ضابط متجهم في الزي العسكري والنظارات، أو كرجل دولة في بدلة أمام مركز للتسوق.
وعلى النقيض من الناس في ضواحي المدينة، وفي حين لعب الناس في شمال سورية وحلب، وفي درعا في الجنوب الغربي، دائماً وفق قواعدهم الخاصة، ظل معظم سكان دمشق موالين دائماً لعائلة الأسد.
يقول الكثيرون إنه في حين أن الأسد ربما يكون دكتاتورا، فإن البديل سوف يكون –حرفيا- نظاما من قاطعي الرقاب. ويقول مهندس معماري: “سوف أحزم حقائبي إذا غادر الأسد، إذا جاء الثوار إلى السلطة، الإخوان المسلمون”. والرجل بعمر 52 عاماً، بنفس عمر الرئيس. ومكتبه الواقع في شارع محمي بشكل جيد وسط دمشق، ومؤثث بأناقة بينما تتعلق لوحة زيتية لمعبد بِل في تدمر على الجدار. ويعتقد المعماري أن الأسد هو أهون كل الشرور.
هناك، بطبيعة الحال، توق إلى العدالة، كما يقول، وإلى وضع نهاية للفساد والمحسوبية لعائلة الأسد ومؤيديها. لكنه لا يعتقد أن المعارضة المسلحة سوف تعرض حياة أفضل، وحرية أكثر أو حتى ديمقراطية مستقرة.
هل يمكن أن يكون هناك سلام مع الأسد؟
بدلاً من ذلك، يبدو أن القضية الأساسية اليوم هي ما إذا كان يمكن أن يكون هناك سلام مع الأسد، على الرغم من كل شيء؛ ما إذا كان ثمة حل تفاوضي يقود في نهاية المطاف إلى استقالته؛ أو ما إذا كان البلد سيظل دولة فاشلة منبوذة، مقسمة إلى شذرات مدمرة ومعزولة تسيطر عليها فصائل مختلفة.
نائب وزير الخارجية، فيصل مقداد، هو واحد من أكثر الموالين للأسد حماسة. وقد حافظ على الولاء على مر السنين، حتى في أحلك الساعات في أوائل 2013، عندما كان الغرب مقتنعاً بأن سقوط الأسد أصبح مؤكدا.
يقابل مقداد هذه الصحفية في وزارة الخارجية، مرتديا قميصا أبيض، ونظارات فضية وبدلة رمادية. وقد تحول الدبلوماسي الرفيع نفسه إلى الرمادي بمرور الوقت. ومقداد قانعٌ بأن سورية كسبت المعركة الأكثر أهمية في هذه الحرب. فقد استعاد الأسد، بمساعدة إيران وروسيا، مدن دير الزور وتدمر من “داعش”، ويريد مقداد أن يتم الاعتراف بهذه الحقيقة كما يجب. وهو يتجاهل ذكر أن الغرب قد ساعد بالمثل في قصف “داعش” وطرده من الرقة بدعم من الأكراد.
يتساءل مقداد عما إذا كان الغرب والأوروبيون قد أصبحوا مستعدين أخيراً لـ”الاعتراف بأنهم فشلوا” في خطتهم للإطاحة بالحكومة السورية واستبدال الأسد بـ”ألعوبة للغرب”. وهناك نغمة مجروحة في كلماته. فهنا أيضاً، كما يقول مقداد، عانى الناس، وتشردوا وقُتلوا.
لم تكن لدى الثوار قوة جوية، ولذلك لم يستطيعوا إيقاع نفس القدر من الضرر الذي أوقعه النظام، المسؤول أكثر بما لا يقاس عن أكبر عدد من الوفيات بين المدنيين. لكن الثوار أيضاً ألحقوا الأذى بالناس في المناطق التي يسيطر عليها الأسد. وعلى سبيل المثال، قاموا باختطاف ابن شقيق مقداد البالغ من العمر 12 عاما ووالد مقداد المسنّ. وكان هدف الخاطفين هو تأمين إطلاق سراح سجناء. وقد مات والد مقداد بعد وقت قصير من مبادلته بسجناء من المتمردين. ويدَّعي نائب وزير الخارجية بأن العقل المدبر وراء الخطف يوجد الآن في ألمانيا، حيث منح حق اللجوء. ويؤكد مقداد أن العديد من السوريين الذين هربوا إلى ألمانيا هم فارون من الخدمة العسكرية أو خونة أو مجرمون.
يتحدث مقداد كما لو أن الحرب قد انتهت فعلاً، كما لو أن القتال في الغوطة الشرقية هو مجرد الأنفاس الأخيرة. ويقول مقداد: “إعادة الإعمار” بدأت فعلا. ولكن، بأي أموال أو وسائل؟
دولة مقسمة
اليوم، أصبحت سورية التي يريد نائب وزير الخارجية أن يعيد بناءها بلدا مختلفا تماما عما كانته قبل الحرب. فبعد أن توزعت بين مؤيدي الأسد وكارهيه، أصبحت سورية دولة من الجزر العاملة الصغيرة فقط، في بحر من الدمار والتحلل.
ربما تفتح الجامعات، والمدارس والمشافي في دمشق. ولكن، في محيط هذه الجزر، حلت محل النظام العام في العديد من الأماكن ميليشات اضطرت إلى الدفاع عن قراها وبلداتها وضواحيها ضد الثوار و”داعش” أنفسهم، بسبب الافتقار إلى وجود أفراد الأمن النظاميين.
وقد تحول قادة الميليشيات المحلية إلى أمراء حرب انتهى بهم المطاف إلى نهب منازل مواطنيهم أنفسهم بعد أن استولوا على الأحياء. وباعوا الغنائم في أسواق البضائع المستعملة واعتبروا العوائد رواتبهم. والآن يسوِّق أمراء الحرب الجدد أنفسهم كمحرري البلد، ومن غير المرجح أن يتخلوا عن سلطتهم المكتشفة حديثا.
مع ذلك، وبدلا من معالجة مثل المشكلات، يفضل الدبلوماسي مقداد التحدث عن “الانتصار” على ما يسميه “الموامرة الدولية”. ويقول: “الولايات المتحدة، وتركيا، ودول الخليج وأوروبا مسؤولون عن كل قطرة دم أريقت هنا”. ووفقا لمقداد، فإنهم استخدموا نقودهم لجلب حاضنة الإرهاب إلى سورية، وتغذيتها، وإرسال جيش من المتطرفين إلى داخل البلد، وتحريض السوريين على الأسد.
لكن هناك حقيقة مختلفة على الجانب الآخر من الجبهة. وفي الحقيقة، كان جزء من المأساة السورية هو أن كل جانب يستطيع أن يقبل حقيقة واحدة فقط: حقيقته الخاصة.
“هل تأسف أيضا للضحايا على الجانب الآخر؛ الآلاف من أعضاء المعارضة الذين عُذبوا وقُتلوا في زنازين مخابرات الحكومة”؟
“إنهم يوجدون فقط في عقول أولئك الذين اختلقوا هذه الأكاذيب”.
“هل تعتقد جديّا بذلك”؟
“ليس هناك تعذيب منهجي هنا. إننا نعتني بمواطنينا”.
تعتقد معظم الحكومات الغربية بأن تسليح المعارضة كان مشروعا. ومن وجهة نظرها، جاءت الانتفاضة نتيجة للقمع الدموي للاحتجاجات السلمية التي انطلقت ضد الأسد في أوائل العام 2011. وعلى الجهة الأخرى، تقول الحكومة والناس في دمشق إن دول الخليج، والولايات المتحدة، والرئيس التركي رجب أردوغان وبضعة أوروبيين أرادوا التخلص من الأسد منذ البداية.
الألم مرئي في كل مكان
في كل هذه الأوقات، ظلت دمشق حصنا آمنا. ومع ذلك، فإن هذه المدينة القديمة التي شكلت جوهرة لثقافات بالغة الاختلاف، أصبحت مجروحة، والألم مرئيٌّ في كل مكان. وتمكن رؤية مظاهر حالة الطوارئ التي فُرضت على ما قد تكون أجمل حاضرة في الشرق الأوسط، في كل منعطف وشارع –حتى مع أن الدمار لا يُقارن أبداً بما حدث لحلب وحمص. هنا، يعيش سكان دمشق مع عدد لا يُحصى من نقاط التفتيش، وحواجز الأكياس الرملية التي تغلق الأزقة، والرجال في الزي العسكري الذين يحملون بنادق الكلاشنكوف. ومع ذلك، ما يزال قلب المدينة ينبض وسط هذه العاصفة.
ظل خط الإمداد من لبنان مفتوحا في كل الأوقات، وكذلك فعل في موانئ طرطوس واللاذقية على البحر المتوسط. ويواصل الباعة عرض بضائعهم في السوق القديم، سوق الحميدية، حيث يمكن العثور على كل شيء –من هاتف “آيفون 5” إلى أحدث تقليعات الأزياء. ويبدو فندق “فور سيزونز” الفاخر مثل أي مكان دولي آخر للأغنياء والجميلات. وتصطف المطاعم والمحلات التجارية على جوانب الشوارع، حتى مع أن ضيوف الفندق أصبحوا الآن من الأعضاء الحصريين تقريباً لمنظمات الإغاثة الدولية.
في حي باب توما المسيحي، ما يزال السكان يشربون النبيذ ويأكلون جيدا –على الأقل أولئك الذين يستطيعون تحمل الكلفة. وتعادل الليرة السورية أقل من عُشر قيمتها قبل الحرب.
الكثير من أولئك الذين ما يزالون يقطنون دمشق هم هناك لأنهم لم يستطيعوا المغادرة، أو لم يريدوا المغادرة، أو لأنهم ما يزالون يتشبثون بالفكرة المشبعة بالحنين؛ أنَّ الحياة ربما تعود إلى ما كانت عليه سابقاً، على الرغم من كل شيء. ويبدو أنهم يقمعون الذكريات عن كيف أن جهاز أمن الأسد الشهير بقسوته دقَّق دائماً في حياة كل فرد وجعل خصومه يختفون في سجون التعذيب سيئة الصيت. لكن الكثيرين هناك يرون أن هذا كان شراً صغيراً مقارنة بالتهديد من الإسلاميين.
كانت المؤسسة الأمنية موجودة قبل الحرب. وهي تتكون من أربعة أجهزة استخبارية قوية تتنافس مع بعضها البعض وتتعاون أيضاً مع ذلك، والتي يعتمد عليها الجميع في نهاية المطاف. وقد ورث الرئيس الأسد المؤسسة الأمنية عن والده. واليوم، أصبح الجاني والسجين في الوقت نفسه لنظام الرعاية المبهم الذي يحافظ عليه، وإنما لا يستطيع أن يحله أيضاً من دون فقدان السلطة.
في هذه الأيام، أصبحت دمشق عاصمة بلا شباب ذكور تقريباً، ومكاناً حيث لا تستطيع الشابات العثور على رجال لتأسيس عائلة. ولا يعلن الجيش أي أرقام عن عدد الجنود الذين قتلوا أو جُرحوا في الحرب.
وفي الأجزاء الأفقر من المدينة، مثل أحياء الدويلة والمليحة، فقد الآلاف من الدمشقيين منازلهم، من أنصار وخصوم الأسد على حد سواء. وهم الآن يزدحمون في ملاجئ الطوارئ في ضاحية جرمانا التي تضم أيضا عشرات الآلاف من اللاجئين من أجزاء أخرى من البلد، من إدلب وحلب، ودير الزور والبوكمال. ولكن ليس هناك عمل يمكن العثور عليه. فالمصانع مدمرة، ويعيش معظم الذين فقدوا منازلهم في القصف على التبرعات من الجمعيات الخيرية. وهناك الكثير من المتسولين.
“لا نريد أن ننظر إلى الوراء”
عندما يجلس سكان دمشق إلى طاولة الإفطار في الصباح ويشاهدون التلفاز الذي تسيطر عليه الحكومة، يعتقد معظمهم أن ما يرونه فيها إيجابي. ويعتقدون بأن الجيش السوري المنتصر حرر البوكمال، معقل الإرهابيين على نهر الفرات، إلى جانب قوات القدس الإيرانية. ويعود اللاجئون من المنطقة إلى قراهم، وتجري إعادة بناء السوق في حلب سريعاً، وتتم إعادة إعمار مدرسة في مدينة حمص المدمرة. وعندما التقى الأسد بالرئيس الروسي فلاديمين بوتين في نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) في مدينة سوشي الروسية، قال: “إننا لا نريد أن ننظر إلى الوراء بعد الآن”. أولئك الذين ينظرون إلى الوراء سوف يرون مئات الآلاف من القتلى الذين تمت التضحية بهم في صراع يزعم كل طرف بأنه عادل ومن أجل خير الشعب السوري. ويستطيع أولئك الذين ينظرون إلى الوراء أن يروا أيضاً 10 ملايين مشرد -نحو نصف السوريين- الذين أُجبِر أكثر من 5 ملايين منهم على مغادرة البلد. وسيرون أيضا جرائم حرب خطيرة.
يعرض التلفزيون الحكومي الآن مقابلات معدة بعناية مع قادة الثوار الذين يعترفون أمام الكاميرا: “لقد ارتكبت خطأ. وأنا ممتن للنظام على قبولي مرة أخرى”.
يقول علي حيدر، وزير المصالحة السورية، أن المسألة الآن أصبحت “إنقاذ سورية”، وأن هذا شيء يجب أن “نفعله معا”. وحيدر طبيب في الحقيقة، رجل طويل القامة، ضامر وعريض الوجه يضع نظارات ويبتسم كثيراً. وهو يُسند أهمية كبيرة لحقيقة أنه ينتمي فعلياً إلى “المعارضة”، التي هي في الحقيقة مفهوم نسبي جداً في سورية. ربما كان قد اختلف كثيرا مع الرئيس عند نقطة معينة، لكنه ظل بعيدا بطبيعة الحال عن التشكيك في النظام أو حمل السلاح ضد الأسد.
عندما سألته عما هو مستعد لعرضه على الثوار، ذكر الرجل في الخامسة والخمسين عاماً “صيغة سحرية”. وقال: “ليس لدينا مال، لكننا نستطيع أن نعيد للمقاتلين حياتهم، وعائلاتهم”. وبالنسبة لحيدر، فإن الأمر يتعلق بانتشال “النفوس” مرة أخرى.
في مكتب حيدر في دمشق، وهو مكتب حكومي نمطي، بتلك الكراسي الكبيرة وأوعية الكريستال المليئة بالحلويات ومكتب خشبي كبير، يأتي المفاوضون ويذهبون بلا توقف. وعملهم هو التفاوض على الشروط لعودة القادة العسكريين.
ولكن، ماذا عن الخصوم السياسيين الذين هم الآن في الخارج؟ يتجنب الوزير حيدر هذا السؤال، ويقول إنه لا يريد أن يتحدث عن اللاجئين في أوروبا وفي ألمانيا. ويفضل تركيز انتباهه بدلاً من ذلك على أولئك الموجودين في الدول المجاورة، الأردن وتركيا ولبنان. ويقول إن أكثر من 530.000 طفل سوري هم الآن على قوائم المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة هناك، وأن ملايين الدولارات تُدفع من أجل تعليمهم. ويمكن فعل هذا هناك، بطبيعة الحال، وإنما بكلفة أكبر بكثير، كما يقول.
واحدة من بطاقات المساومة الغربية القليلة
وهكذا، عندما يتعلق الأمر بعودة اللاجئين، سوف تكون هذه دائماً مسألة كم من النقود تلزم لكَم من الناس. كما ستكون أيضاً مسألة مَن هو الذي يدفع ماذا من أجل إعادة الإعمار الممكنة لسورية. ومن الواضح مسبقاً أن إعادة الإعمار هذه ستكون مكلفة للغاية وسوف تتطلب عقوداً من الزمن، إذا تسنَّت من الأساس.
ويمكن أن يكون هذا الشأن أيضا واحدة من بطاقات المساومة القليلة المتاحة للغرب. ويستطيع الغرب أن يضع الشروط لما يمكن أن تبدو عليه سورية في المستقبل، ولكم من الدعم الدولي يمكن تقديمه في مقابل أي مستوى من الانفتاح، وطبيعة دور الأسد المستقبلي. ومن الواضح أن النظام لا يتوقع من حليفيه، روسيا وإيران، أن يكونا داعميَه الماليين في المستقبل.
لكن القتال يجب أن يتوقف قبل أن يستطيع أحد حتى مجرد التفكير بسورية جديدة. أحد الرجال الذين قرروا إلقاء السلاح هو عبد العزيز شوداب، من الكسوة الواقعة على بعد ساعتين من دمشق. عمره 41 عاماً، طوله نحو ستة أقدام وخمس بوصات، له رأس صلعاء ولحية طويلة، ويرتدي بنطال جينز وقميصاً أسود قصير الأكمام. وصل إلى اجتماعنا وهو يقود سيارة “هامر” بنوافذ مظللة. ويبدو أن لديه نقود. وهو في برنامج المصالحة الحكومي منذ عام الآن.
يقول قائد الميليشيا السابق إنه قاد آخر مرة 7.000 رجل من “أحرار الشام”، المجموعة المقاتلة السلفية في منطقة الكسوة. والآن، يجلس شوداب في فندق في وسط دمشق، ويشرب عصير البرتقال. وليس من الممكن التحقق من كل تفاصيل قصة شوداب، وأحياناً يبدو تصويره للأحداث متوقعا كثيرا، كما لو أنه أعطي إيجازا عن المقابلة. والحقيقة هي أن الرجل احتاج إلى موافقة من الأمن العسكري، إحدى وحدات المخابرات السورية.
لكن الحقيقة أيضاً هي أن من الممكن رؤية شوداب في الأفلام الدعائية لأحرار الشام على الإنترنت وهو يستعر غضباً على النظام ويدعو أنصاره إلى قتال الأسد. وقد هاجمت مجموعته نقاط التفتيش وقوات الجيش، كما يقول. لكن المتحول لا يريد أن يدخل في تفاصيل الوقت الذي قضاه مع “أحرار الشام”. واليوم، يعمل شوداب مع الحكومة السورية، ويحاول إقناع أقرانه من الثوار السابقين بتغيير الاصطفافات. ووفقا لشخص سوري مطلع، فإن البرنامج يقوده رسميا وزير المصالحة الوطنية، الوزير حيدر، لكن الذي يديره فعليا هو علي مملوك، رئيس المخابرات السورية. لم تتبق الكثير من الفرص للمتمردين. فقد ذهب العديد من المتشددين إلى إدلب، حيث تجمع نحو 100.000 مقاتل حتى الآن، وفقا لشوداب. وفي أماكن أخرى، استسلم الثوار، أحيانا بعد أشهر من الحصار. وعندما يحدث ذلك، يتم أخذهم إلى أماكن يُتفق عليها بوساطة مفاوضين من كلا الجانبين، ودائما تقريباً يخرجون في الحافلات الخضراء التي تستخدم عادة للنقل العام. وفي المقابل، يسلم المقاتلون المتبقون أسلحتهم، ويقوم النظام بتسجيلهم ويعيدهم إلى بلداتهم وقراهم، شريطة أن يظلوا فيها.
الطريق إلى السلام غير أكيد
يقول روبرت فورد، آخر سفير أميركي إلى دمشق، ملخصاً الوضع: “الحرب تأتي تدريجياً إلى نهايتها. لقد كسب الأسد، وسوف يبقى”. وهو يعمل الآن في معهد الشرق الأوسط في واشنطن.
يدين الأسد ببقائه السياسي للإيرانيين والروس. وكانت القوات الجوية الروسية هي المسؤولة عن تغيير وجهة الأحداث. ومن المرجح أن تؤسس هاتان الدولتان وجوداً عسكرياً دائما لهما في سورية في المستقبل القريب، وربما يكون الرئيس بوتين هو الشخص الذي يملك معظم التأثير في دمشق. ومع ذلك، يختلف حلفاء الأسد حول كيفية المضي قدُماً. ويريد بوتين تسوية سلمية تدعمها المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، والتي قد تشمل أيضاً مشاركة المعارضة في الحكومة. بينما ليست لطهران، من الناحية الأخرى، أي مصلحة في حل يمكن أن يضعف سلطة الأسد. كما أنهم يختلفون أيضاً حول الدور المستقبلي للأكراد في البلد. وفي حين تعتبر روسيا حقهم في الحصول على الإدارة الذاتية مبرراً، فإن إيران لا تراه كذلك.
سوف يمضي وقت طويل قبل أن تنتهي هذه الحرب حقا. وحتى ذلك الحين، سوف تخرج الكثير من الحافلات الخضراء الإضافية الممتلئة بمقاتلي الثوار من مناطق الحرب، وربما تُطلَق عدة آلاف إضافية من قذائف المورتر على البلدة القديمة في باب شرقي.
و، كما هو الحال دائما، عندما تضرب مقذوفة ويتردد صدى الضربة في أنحاء المدينة القديمة، سوف تتصل والدة جيني لطفي بابنتها على هاتفها الخلوي، وتسأل: “جيني، هل أنتِ بخير”؟
*نشر هذا التقرير تحت عنوان:
Assad’s Victory: What Comes after War in Syria?
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 4/2/2018