دوافع تحول السجون من آلية للضبط الى تجنيد الإرهابيين
بقلم : محمد بسيوني ، مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة ٢-٤-٢٠١٨م
يتكفل خطاب المحنة والمظلومية المؤسس للتنظيمات الإرهابية -في كثيرٍ من الأحيان- بتحويل السجون من مجرد حالة للعزلة والانكسار إلى حيز يمكن توظيفه لخدمة أهداف التنظيم وأفكاره، وفي الوقت ذاته إعطاء خطاب المحنة الزخم اللازم لاستمراريته. وقد خلق هذا الخطاب حالة من التنازع مع السلطة التي أنشأت السجون كآلية للضبط المجتمعي، وتخفيض حدة التهديدات التي يمكن أن تتعرض لها الدولة، وذلك من خلال احتجاز الأشخاص الذين يشكلون مصادر هذه التهديدات.
وبقدر ما كانت تتراجع سيطرة السلطة على السجون وعملية إدارتها، بقدر ما كانت التنظيمات الإرهابية تجد فرصًا مواتية لنشر أفكارها في أروقة السجون بحثًا عن أعضاء جدد يبحثون عن حياة مغايرة. ومن ثم باتت السجون -في أحيان كثيرة- آلية لإنتاج أجيال جديدة من المتطرفين يتولون إعادة تفعيل المنظومة الإرهابية وتجديدها. ولعل هذا ما دفع الخبير في علم الجريمة الأمريكي “هارفي كوشنر” (Harvey Kushner) إلى افتراض تحول السجون الغربية خلال السنوات الماضية إلى إحدى ساحات التجنيد الرئيسية لتنظيم “القاعدة”.
عصابات السجون:
ترتبط الكثير من عمليات التحول الراديكالي داخل السجون بالنموذج الكامن للسجون باعتبارها أماكن للضعف والانكشاف (Place of Vulnerability) تصور بشكل أو بآخر معاناة الأفراد الناجمة عن العزلة المجتمعية والأزمات الشخصية، فالشخص يتم إخراجه من وسطه المجتمعي المعتاد عليه، وسرعان ما يشعر بالخواء، والذي قد ينتقل في مرحلة ما، وفي ظل تجربة السجن الجديدة، إلى قابلية لتبني الأفكار المتطرفة والاستعداد للانخراط في الأنشطة الإرهابية.
وتفترض الأدبيات التي تناولت صناعة التطرف والإرهاب أن السجون تشكل -في بعض الأحيان- نقطة تحول مؤلمة (Traumatic Turning Point) تدفع الأفراد إلى الخروج من مسار حياتهم التقليدي، والبحث عن سياق جديد أكثر راديكالية. وفي هذا السياق قد يكون التماهي مع المنظومة الإرهابية المتطرفة ناتجًا عن رغبة في البحث عن المعنى والهوية التي تعطي لحياة الفرد قيمة مختلفة، من وجهة نظره، لا سيما إذا كانت هذه الهوية تنطوي على اعتراض وتحدٍّ للسلطة والمجتمع، ومنح فرصة للتعبير عن المظالم المتصورة في مخيلة الفرد.
ثمة جانب آخر متصل بالتحول إلى الإرهاب والتطرف داخل السجون، وهو ذلك المتعلق بالحاجة إلى الحماية المادية، ففي بعض الحالات تتسم السجون بدرجة كبيرة من الفوضوية، وهو ما يؤدي إلى نشوء كيانات موازية لتوفير الأمن، وفي هذه الحالة قد يلجأ الفرد الذي لم يكن له تاريخ متطرف معروف إلى بعض الجماعات المتطرفة كي يحصل منها على خدمة الأمن، وقد كان لهذه الفكرة تجلياتها -على سبيل المثال- في حالة السجون الغربية، وظهور ما يُعرف بعصابات السجون المسلمة (Muslim Prison Gangs) التي تقوم على أساس الانتماء الديني، وأحيانًا على أساس عرقي، وتزود الأعضاء بشعور قوي بالهوية والولاء، فضلًا عن حمايتهم من المجموعات الأخرى في السجن.
صحيح أن هذه العصابات نادرًا ما تضم إرهابيين مدانين، ولا يبدو أن أعضاءها يتمتعون بفهم جيد للدين الإسلامي، إلا أنهم قد يشكلون بيئة محتملة لتطوير صيغ فردية أكثر تطرفًا، إذ إن محدودية فهمهم للدين يحتمل أن تعزز من قابلية انكشافهم للأفكار المتطرفة، لا سيما مع الصور البطولية التي تصاغ للكثير من القيادات الإرهابية على الساحة العالمية.
مداخل تفسيرية:
باتت قضية التحول إلى الإرهاب داخل السجون إشكالية للكثير من الحكومات خلال السنوات الأخيرة، حيث كشفت العديد من الهجمات الإرهابية عن الارتباط بين منفذي هذه الهجمات وتاريخهم السابق في السجون. وهنا تشير بعض التقارير الغربية إلى أن “أحمدي كوليبالي” الذي نفذ هجومين في باريس يناير 2015 كان قد تحول للتطرف أثناء قضائه فترة في السجن بتهم متعلقة بالسرقة والتحايل، كما أفادت بعض التقارير بأن “خالد مسعود” منفذ هجوم ويستمنستر في بريطانيا مارس 2017 يُحتمل أن يكون تحول للتطرف أثناء قضاء عقوبة له في السجن، ويستدعي تحليل العلاقة بين الإرهاب والسجون التركيز على عدد من المداخل التفسيرية المتمثلة فيما يلي:
1- التجمعات المتطرفة: حيث إن التداخل بين السجناء المتطرفين فكريًّا وغيرهم من السجناء يعزز من احتمالية استقطاب هؤلاء السجناء إلى المنظومة الإرهابية، وذلك في ظل تراجع الوعي بمخاطر المزج بين السجناء من خلفيات مختلفة، ناهيك عن العقلية البراجماتية الحاكمة للكثير من التنظيمات الإرهابية، وما تقتضيه من توظيف السجون كأداة لاستقطاب عناصر إرهابية جديدة، ونشر أفكار التنظيم على أوسع نطاق ممكن.
وقبل عدة سنوات، وبالتحديد في عام 2014، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالًا بعنوان: “كيف ساعدت الولايات المتحدة داعش” لكلٍّ من: أندرو ثومبسون Andrew Thompson، وجيرمي سوري Jeremi Suri، كشف عن عملية صناعة الإرهاب داخل السجون التي أدارتها الولايات المتحدة داخل العراق عقب الاحتلال. ويفترض المقال أن الوجوه البارزة التي ظهرت في تنظيم “داعش”، على غرار “أبو بكر البغدادي”، كانت قد أمضت سنوات في المعتقلات، لا سيما سجن معسكر “بوكا” الذي أدارته الولايات المتحدة في العراق وهي تقوم بعملية التجنيد لعناصر محتجزة معهم، ونشر الأفكار التي اعتمد عليها “داعش” فيما بعد.
وفي هذا الإطار، اضطلعت الولايات المتحدة، بحسب ثومبسون وسوري، بدور ما في صناعة الإرهاب داخل سجن بوكا حينما لم تتعاطَ بنهج تمييزي يفصل بين السجناء المتطرفين وغيرهم من السجناء الأكثر اعتدالًا أو الذين لم يثبت تورطهم أو اعتناقهم لأفكار متطرفة، لا سيما وأن عمليات الاحتجاز كانت تتم بشكل عشوائي دون تدقيق فعلي.
وقام السجناء بنوع من الفصل على أساس طائفي، وهو ما سمح أيضًا للمتطرفين بنشر رسالتهم واجتذاب عناصر جديدة، وهكذا تحول سجن “بوكا” إلى نموذج لعملية صناعة جيل جديد من الإرهابيين المنتسبين إلى تنظيم “داعش”.
2- طبيعة التنظيمات الراديكالية: إذ تتباين التنظيمات من حيث رؤيتها للعناصر المغايرة داخل السجون، وبالتالي مساحة التفاعل معها والرغبة في استقطابها للتنظيم. فالسجناء التابعون لتنظيم “القاعدة”، على سبيل المثال، يرون أن من واجبهم نشر معتقدهم وأفكارهم، وبالتالي هم يحملون رسالة “متخيلة” لتحويل السجناء الآخرين كي يصبحوا أتباع مخلصين للتنظيم.
وعلى النقيض من ذلك، فإن بعض التنظيمات -على غرار الجيش الجمهوري الأيرلندي- تتبنى نهجًا أكثر نقاء في التعاطي مع السجناء خارج إطار التنظيم، حيث كان ينظر أتباع التنظيم داخل السجن نظرة سلبية للسجناء الآخرين بحسبانهم أشخاصًا غير موثوق فيهم وغير منضبطين، وهو ما يجعلهم عبئًا على التنظيم، وقد يشوهون صورته كحركة تسعى لتحقيق أهداف سياسية، ولهذا تجادل الأدبيات بأن الهدف الرئيسي لسجناء الجيش الجمهوري الأيرلندي كان في المقام الأول مرتبطًا بتعزيز التماسك التنظيمي، والحفاظ على هياكل للقيادة تتمتع بسلطة ما داخل السجن، دون أن تمتد أهداف التنظيم إلى محاولة استقطاب عناصر جديدة.
3- ثنائية الداخل والخارج: يتقاطع في ظاهرة صناعة الإرهاب داخل السجون ثنائية المسارات الداخلية والخارجية الدافعة للتطرف، وتنطوي المسارات الخارجية على عملية تسرب وتدفق مواد متطرفة من قبيل الكتب ومقاطع الفيديو إلى داخل السجن، فضلًا عن الزوار الخارجيين الذين قد يروجون لرسائل متطرفة.
وترتبط المسارات الداخلية للتطرف بالسجناء ذوي التوجهات الإرهابية المتطرفة، والذين لم يتم فصلهم عن باقي السجناء. وتحدث الإشكالية حينما يسعى هؤلاء المتطرفون إلى الاقتراب من السجناء العاديين عبر تقديم خدمات لهم، والتكريس لأدوار قيادية ذات صبغة كاريزمية وروحية داخل السجن.
ويبدو أن هذا النمط كان حاضرًا في حالة “أحمدي كوليبالي” الذي تعرّف أثناء تواجده بسجن “فلوري ميروجيس” الفرنسي على “جمال بغال” الذي كان يقضي عقوبة بتهمة التآمر لتفجير السفارة الأمريكية في باريس، وسرعان ما نشأت رابطة بين كوليبالي وجمال بغال لما يتسم به من صفات قيادية يوظفها في استقطاب الناس للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية، وهكذا أدت هذه الرابطة إلى تحول كوليبالي إلى التطرف.
4- فوضوية السجون: وينصرف هذا المدخل إلى المعضلات التي قد تعاني منها بعض السجون، لا سيما تلك المتعلقة بالنقص في الخبرات والموارد البشرية المتاحة لإدارة السجن، فضلًا عن الازدحام الشديد داخل السجن، باعتباره نمطًا شائعًا في العديد من الدول، والذي يؤدي إلى خلق ضغوط إضافية على السجناء، ويحفز الكثيرين منهم على الاندماج في مجموعات فرعية، بعضها يحمل توجهات متطرفة تحقق لها قدرًا من الأمان داخل السجن أو حتى الوصول إلى بعض الموارد التي بطبيعتها شحيحة.
وتمهد السجون المزدحمة والفوضوية، والتي يكون من الصعب مراقبتها من جانب السلطة، الطريق للزعماء المتطرفين ذوي الكاريزما لخلق نمط من السلطة في مجتمع السجن، وفرض أنظمة معتقدات متطرفة على أتباعهم من السجناء العاديين الذين يجدون في هؤلاء الزعماء نموذجًا لبناء هوية جديدة، وفي الوقت ذاته الحصول على الحماية اللازمة في بيئة السجن الفوضوية.
سياسات المواجهة:
تُضفي عملية صناعة الإرهاب في السجون، كأحد مظاهر التداخل بين الإرهاب والجريمة crime – terrorism nexus، تعقيدات كثيرة على عملية مواجهة التنظيمات الإرهابية لأن العديد من الحكومات باتت غير قادرة على صياغة الحدود الفاصلة بين الجريمة التقليدية والإرهاب في ظل توجه التنظيمات الإرهابية إلى تبني أساليب إجرامية لتحقيق أهدافها، والمثير للانتباه أن هذه الأساليب باتت ترى في المجرمين التقليديين في السجون مخزونًا بشريًّا يمكن الاعتماد عليه في تجديد دماء المنظومة الإرهابية.
وبالرغم من الإشكاليات التي تعترض محاولات تقويض عملية صناعة الإرهاب في السجون، فقد تشكل خلال السنوات الماضية عدد من الاتجاهات الرئيسية لمواجهة الظاهرة، وتتلخص فيما يلي:
1- تعزيز قدرات العناصر البشرية المسئولة عن إدارة السجون، وتطوير مؤشرات للتطرف يمكن الاستدلال من خلالها على التحولات التي تحدث للسجناء، ومن ثم التدخل المبكر لمواجهة الظاهرة. وعادة ما تركز هذه المؤشرات في الخبرة الغربية على التغيرات المفاجئة في السلوك والمعتقدات الدينية، ودلالات التعبير عن دعم القضايا أو القادة المتطرفين، وهو ما يتضمن العثور على مواد متطرفة أو حتى اتصالات مع أشخاص متورطين أو مشتبه في تورطهم في أنشطة متطرفة، بالإضافة إلى أعمال التحدي العلنية للسلطة والتي قد تشمل محاولات تهميش رجال الدين المعينين من السلطة، أو تدمير الممتلكات والهجوم على موظفي السجن.
2- تعزيز الشراكة بين أجهزة الاستخبارات ومؤسسات السجون، خاصة في ظل عدم امتلاك السجون القدرات الكافية لمراقبة الاتصالات التي تتم باللغات الأجنبية، وتقييم محتويات الكتب ومقاطع الفيديو وكذلك أوراق اعتماد الزائرين الخارجيين. وفي هذا السياق، وضعت الولايات المتحدة مبادرة للشراكة بين السجون الفيدرالية ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وتستهدف هذه الشراكة جمع وتبادل المعلومات حول السجناء وأئمة السجون، فضلًا عن توفير مترجمين محترفين للسجون، ومعلومات عن الأدبيات المتطرفة.
3-تكثيف عملية الفصل بين السجناء المتطرفين وغيرهم من السجناء لتقليل فرص التواصل بينهم، وقد ظهر هذا الاتجاه في أكثر من دولة من ضمنها فرنسا التي أعلن رئيس وزرائها “إدوارد فيليب” في شهر فبراير الماضي عن خطة وطنية لمكافحة التطرف تشمل العديد من الإجراءات، من ضمنها: تعزيز إجراءات فصل السجناء المتطرفين عن غيرهم، ومضاعفة عدد الزنازين المخصصة للمتهمين بالتطرف إلى ألف و500 زنزانة، مع البدء بإنشاء 450 منها خلال 2018.
خلاصة القول، يمكن لهذه الإجراءات أن تؤثر في عملية صناعة الإرهاب داخل السجون، ولكن -في الوقت ذاته- ستظل احتمالية إنتاج نماذج متطرفة داخل السجون قائمة في خضم تطور قدرات التنظيمات الإرهابية، أو ما تطلق عليه مارثا كرينشاو ( Martha Crenshaw) الابتكار الإرهابي، ناهيك عن التحولات المفاجئة وغير الظاهرة التي تحدث لبعض الأفراد، ممن لا يمتلكون ماضيًا إرهابيًّا، وهو ما يعني استمرار مأزق السلطة في الاكتشاف المبكر لعملية صناعة الإرهاب في السجون.