دمتري شومسكي يكتب – الشمس تشرق من الغرب
هآرتس – مقال – 21/11/2018
بقلم: دمتري شومسكي
مور التشولر خرجت في الاسبوع الماضي بدعوة مؤثرة ليهود الغرب الليبراليين – لا سيما يهود الولايات المتحدة وبريطانيا – من اجل التنازل عن الهدف المثالي عديم الجدوى حسب رأيها، لأن تصلح بروح الحرية والعدالة المجتمعات غير اليهودية التي يعيشون فيها. وبدلا من ذلك أوصتهم بأن يفحصوا بشكل جدي خيار الهجرة الى اسرائيل (هآرتس، 13/11). أنا أوافق على دعوتها: اجل، يجب على يهود العالم الغربي التفكير بجدية بالهجرة الى اسرائيل، لكن ليس بسبب التخلي عن “اصلاح العالم”، حسب القيم الانسانية وتقبل الآخر، بل بالعكس، من اجل الاسهام في تجسيد هذا الهدف في دولة اسرائيل – من خلال تغيير صورتها المأمولة من دولة عرقية – قومية متطرفة وعنصرية على شاكلة دول شرق اوروبا الآن وبين الحربين العالميتين الى مجتمع مثالي ومتساوي وديمقراطي وليبرالي ومنفتح، بروح حلم آباء الصهيونية.
عندما تعمل بكل ما أوتيت من قوة من اجل اقناع المثقفين اليهود الليبراليين في الغرب على التخلي عن الايمان الساذج والمتعصب، حسب رأيها، بالمباديء العالمية والانسانية، فيبدو أنها تعتقد أن هذه القيم كانت من النصيب الحصري لليهود الكوسموبوليتانيين العالميين المندمجين، مثل اليهود البلشفيين الذين يكرهون جدا اسرائيل – في حين أن الصهيونية، هكذا يظهر في اقوالها، طلقت تلك القيم طلاقا لا رجعة عنه لصالح خصوصية قومية يهودية بحد ذاتها. ولكن هذه رؤيا خاطئة من الاساس وهي تعكس الصورة المشوهة للفكرة الصهيونية، التي شكلوها لتصبح متناسبة مع القيم القومية المتطرفة والقومية المركزية التي تميز المجتمع الاسرائيلي الحالي. هذه الرؤيا بعيدة جدا عن الصورة التاريخية للصهيونية السياسية.
كل من يقرأ النصوص الثلاثة الاساسية لثيودور هرتسل – “الغيتو الجديد” و”دولة اليهود” و”ارض قديمة – جديدة” – يدرك أن هرتسل لم يتنازل عن الافكار المتنورة والعالمية في طريقه الى الصهيونية، بل على العكس – هرتسل اعتبر الصهيونية الطريق السليمة للشعب اليهودي من اجل تطبيق هذه الافكار، نظريا وعمليا، على اعتبار أنها الجوهر الخاص لمعنى الوجود القومي اليهودي في العالم. لذلك قام هرتسل من جديد بتبني الصيغة الوطنية، الصفات العميقة لفكرة الهوية اليهودية – الاصلاحية. اذا كان الاصلاحيون اعتقدوا أنه من اجل القيام بدورهم في العالم كـ “النور للاغيار”، فيجب على اليهود مواصلة العيش في الملاجيء. صهيونية هرتسل حددت بأن مهمتهم الاخلاقية الجماعية الخاصة سيحققها اليهود كقومية حرة ذات سيادة، تعرف كيف تجسد بصورة مثالية في حياتها السياسية قيم التسامح والليبرالية والعدالة التي لم تنجح الشعوب الاوروبية في تطبيقها بسبب القومية المتطرفة واللاسامية.
صحيح أن مؤسس الصهيونية الثقافية، احاد هعام، تحفظ مما رآه لدى هرتسل كاخضاع روح اليهودية للقيم والافكار الاوروبية، ولكن ايضا هو خشي من احتمال أن الدولة اليهودية العتيدة ستتصرف بروح القومية المتطرفة وكراهية الآخر – كما خبرها بنفسه على جلده اثناء المذابح في اوديسا في العام 1905.
اسرائيل الحالية تجسد في هيئتها وسلوكها نفس القسمات العرقية – الوطنية المتطرفة التي اشمأزت منها الصهيونية الحديثة في بداية طريقها. اسرائيل نتنياهو هي وبحق “نور للاغيار” – هي نور للظلاميين والعنصريين والقوميين المتطرفين، من حكام شرق اوروبا وشرق آسيا وشمال امريكا وجنوبها – جميعهم معجبون جدا برئيس الحكومة، وهو معجب بهم بصورة لا تقل عن ذلك. في مقابلهم، يهود الغرب ولا سيما يهود بريطانيا ويهود امريكا يشكلون الآن في جزء غير قليل منهم، أحد المعاقل الاخيرة لمباديء الديمقراطية الليبرالية الغربية. الكثيرون منهم يمثلون، لا سيما يهود امريكا، طبقة المثقفين الليبرالية في مواقفهم. هذه هي الطبقة التي وصفها غادي تاوب بصورة نمطية – اللاسامية في اساسها – بـ “الطبقة المتحركة”، وهي تظهر موقفا شجاعا ومثابرا ضد القومية المتطرفة والشعبوية الجديدة لدونالد ترامب.
في اعماق قلوبنا، هؤلاء اليهود هم الذين يواصلون طريق المخلصين لصهيونية هرتسل المتنورة. اذا استجابوا فقط بشكل ايجابي لدعوة التشولر وهاجروا الى البلاد، وبعد ذلك تدفقوا الى صناديق الاقتراع، فسيستطيعون تقديم مساعدة اساسية وحاسمة على اسقاط حكم اليمين في اسرائيل، والتطهير الداخلي لوعي الاسرائيليين من الخلطة الملوثة والمضيعة للسيادة والمسيحانية، وازالة مرض الاحتلال والاستيطان من جسد اسرائيل القومي، وأخيرا اكمال المشروع الوطني الليبرالي لآباء الصهيونية السياسية. بذلك هم سيصلحون ايضا الاضرار الكبيرة التي اصابت المجتمع الاسرائيلي في مجال الاخلاق والسياسة في اعقاب الهجرة الكبيرة الاخيرة – من الاتحاد السوفييتي السابق – غير الليبرالية والقومية المتطرفة في اساسها، والتي ما زالت تشكل حتى الآن أحد الاركان الاساسية لليمين العنصري في اسرائيل.
رغم تعزز اللاسامية في العالم الغربي فان الهجرة الجماعية ليهود الغرب، كما تريد التشولر تشجيعها، ما زالت تبدو خيالية وضعيفة جدا. ولكن اذا كان يمكننا تعلم شيء ما من التاريخ فان ما يبدو كأمر مستحيل الآن يمكن أن يعتبر في الغد أمر طبيعي ومفهوم من تلقاء ذاته. أخيرا، ايضا فكرة دولة اليهود اعتبرت في حينه وهم خيالي مرفوض.