دمتري شومسكي / من يذبح الغزيين يستدعي الارهاب في الضفة
هآرتس – بقلم دمتري شومسكي – 30/5/2018
احد الادعاءات المنتشرة بخصوص اسباب الاحتجاج الفلسطيني الواسع قرب الجدار في قطاع غزة يربطها بالازمة الاقتصادية الشديدة التي تصل الى حافة الكارثة الانسانية التي تسود في القطاع تحت حكم حماس والحصار الاسرائيلي. ولكن يمكن الافتراض أنه اذا استيقظنا في يوم ما على واقع “غزة اخرى”، قطاع مزدهر بفضل الفهم البراغماتي الذي تبناه القادة الجدد والذي يرضى عنه السادة الاسرائيليون – فانه حتى في ذلك الحين كنا سنكون شهود على محاولات متكررة للغزيين للوصول الى الطرف الآخر من الجدار المسمى من قبل الاسرائيليين “الحدود بين غزة واسرائيل”.
اجل، خلافا للفرضية الخاطئة التي سادت مؤخرا في الخطاب الاسرائيلي، فان سكان القطاع ليسوا “غزيين” بل فلسطينيين، يحملون هوية وطنية فلسطينية. في نظرهم قطاع غزة يشكل جزء صغير من وطنهم الحبيب – فلسطين – التي تشمل بدرجة متساوية القدس ورام الله، الخليل وبيت لحم، يافا وحيفا وعكا والناصرة.
حقا، وضع الوعي هذا ليس أمر غير منقلب. اجل، احيانا ليس لديكم عملية بسيطة اكثر في التاريخ الحديث للقومية من انتاج واقع ووعي قومي جديد من خلال شبكة تقسيمات وعمليات فصل جغرافية، حيث أن القومية الفلسطينية نفسها في بدايتها – كذلك ايضا الكيان المصطنع المسمى “دول عربية” – تمثل مثال واضح على القومية التي نشأت بسبب تدخل خارجي كولونيالي في الفضاء العربي الشرق اوسطي قبل مئة سنة. حيث أن عملية التطور التدريجية والطبيعية للقومية الحديثة في هذا الفضاء كان من شأنها أن تؤدي الى ظهور الدولة القومية العربية الواسعة. وهكذا يمكن بالتأكيد تخيل السيناريو الذي يقول إنه بعد فترة جيل آخر من السجن خلف الجدار، فان القطاع سينبت امام انظارنا الوعي الوطني الغزي، الذي يميز نفسه اكثر فأكثر عن الهوية الجماعية لباقي الفلسطينيين.
هذا هو الأمل الكبير لاسرائيل، بأن التحطيم العنيف للأمة الفلسطينية وطردها هو أمر مشروع لسياستها تجاه الشعب المجاور. ولكن رغم روح المحتل الاسرائيلي، فان هذه السياسة تجد صعوبة الآن في تحقيق نتائج حقيقية على مستوى الوعي. خلاف هذا الامر: التقسيم المتواصل للجسم الوطني الفلسطيني بواسطة جدران وأسوار ومستوطنات يزيد ويعمق التوق الطبيعي لتحرير وطنه القومي – وأن التعبير الشجاع والبطولي وجده هذا التطلع في الاحتجاج الغزي الاخير ضد نقل السفارة الامريكية الى القدس.
من الواضح أن الطموح العنيد للاقسام الاكثر راديكالية من القومية الفلسطينية لتحرير الوطن، بما في ذلك تحقيق حق العودة، يثير لدى الاسرائيليين الرعب والخوف. حيث أن التحرير الوطني لفلسطين يعني انشاء فلسطين الكاملة بدلا من اسرائيل، وهي عملية عنيفة وقاسية، التي معناها في نظر الاسرائيليين هو سرقة وطنهم الغالي والحبيب. ولكن يطرح السؤال هل التهديد الرمزي هذا والمغلف بصورة نظرية بـ “مسيرة العودة” لفلسطينيين غير مسلحين تجاه جدار غزة، يكفي لتبرير اطلاق النار الحية على المتظاهرين؟.
في نظر عدد كبير من الاسرائيليين – كما يبدو في نظر معظمهم – فانه من المفهوم ضمنا أن الاجابة على هذا السؤال هي بالايجاب. دان مرغليت في المقال الذي نشره هنا في 17/5 كان معبرا عنه عندما ادعى بأن “في المعركة على الجدار الذي يفصل بين اسرائيل وغزة لم يكن امام الجيش الاسرائيلي أي خيار”، سوى اطلاق النار على المتظاهرين من اجل القتل.
ولكن اذا كان تهديد رمزي – خيالي لسلب الوطن وسحب السيادة من الاسرائيليين، لا يترك للجيش الاسرائيلي خيار سوى قتل الفلسطينيين غير المسلحين – ماذا بشأن الخيار الماثل امام الفلسطينيين في الضفة الغربية، في الوقت الذي فيه سرقة الوطن ومصادرة السيادة ليست من ناحيتهم هي مجرد كابوس غير متحقق، بل جزء اساسي وملموس من واقع حياتهم اليومية؟ اذا قمنا بتبني المنطق المشوه لتبرير اطلاق النار على المتظاهرين الغزيين امام الجدار فان الاجابة على السؤال ستكون صعبة على الهضم، لكنها مفهومة ضمنا، الخيار الفلسطيني في الضفة هو بين المقاومة المسلحة ضد جنود الجيش الاسرائيلي وبين الارهاب تجاه المستوطنين أو كلاهما معا. اجل، هذان العاملان، الجيش والمستوطنين، يجسدان بالنسبة للفلسطينيين في شخوصهم واعمالهم – تحقيق ذاك الكابوس الذي بالنسبة للاسرائيليين يكفي فقط تخيله من اجل قنص مئات الاشخاص من دون تمييز.
من الافضل اذا أن الاسرائيليين الذين يبررون دون أن يرف لهم جفن ذبح الفلسطينيين الغزيين بسبب تهديدهم بتحقيق حلم العودة وتخريب اسرائيل، لم يتداعوا ازاء الاصوات التي ترى في الارهاب القاتل الفلسطيني وسيلة نضال شرعية ضد نفس اولئك الاسرائيليين، الذين يجسدون في كل يوم حلم عودتهم بصورة فعلية – ويخربون بذلك فلسطين.