شؤون فلسطينية

دراسة ما بعد الحرب على غزة.. الضفة المحتلة بين مطرقة الاستيطان ومفاوضات عبثية مع اليمين

مركز الناطور للدراسات والابحاث

في هذا العدد من نشرتنا “تقدير موقف” سنتوقف مع سؤالين هامين، فرضهما الواقع الجديد الذي نعايشه بعد الحرب الأخيرة على غزة، ورفع مكانة فلسطين في الأمم المتحدة إلى “دولة غير عضو”..

السؤال الأول يتعلق بالكيفية التي يفكر بها اليمين الإسرائيلي، والمسار الذي اتخذه خلال السنوات الماضية في مواجهة البحث الفلسطيني المحموم عن الحرية والاستقلال..

أما السؤال الثاني؛ فيتعلق بكيفية مواجهة الشعب الفلسطيني للحملة الاستيطانية المحمومة التي تستهدف ما تبقى من أرض في الضفة الغربية، وفي القدس على وجه الخصوص..

ما يجمع بين السؤالين هو كونهما مصيريين، وعلى ضوء الإجابة عليهما سيتحدد مصير فلسطين والشعب الفلسطيني لعشرات السنوات القادمة..

في شهر نوفمبر تشرين ثاني المنصرم؛ خرج الاحتلال من جولته العدوانية الأخيرة على غزه وهو يلعق جراحه، ويتجرع مرارة الفشل, وقد ترسّخ في وعيه أنّ من المستحيل عليه هزيمة مقاومة يحتضنها شعبها، وتدعمها أمتها العربية والإسلامية, فبات على قناعةٍ أكبر بالتسليم بأنّ غزة قد باتت عصيةً على الكسر، وبات محتماً عليه قبولها ككيانٍ سياسيٍ وعسكري لا يمكن لإسرائيل أن تجد فيه موطئ قدم من الناحيتين الأمنية أو السياسية, وقد انحصر اهتمامه بغزة في كيفية الوصول إلى تفاهمات تعطى من خلالها غزة الحرية، وتحظى إسرائيل بأمن مستوطنيها؛ في وضعية مقاربة لما حدث مع حزب الله. وربما يتقاطع هذا مع مصلحةٍ ورؤية إسرائيلية تبلورت مؤخراً, تدعو للانفصال عن غزه كلياً؛ بما في ذلك رفع الحصار عنها باستثناء البحري منه، ودفعها باتجاه مصر, في محاولةٍ لشطب القضية الوطنية للشعب الفلسطيني؛ عبر تجزئتها وتقسيمها, وهو ما لاقى حتى الان رفضاً مصرياً وفلسطينيا.

أزمة اليمين الحاكم في “إسرائيل

تتبدّى أزمة اليمين الحاكم في “إسرائيل” من خلال الأيديولوجيا التي يعتنقها، والتي بدأت تحاصره وتشكّلُ قيداً ثقيلاً يمنعه من الحركة والتكيّف مع لحظةٍ تاريخيةٍ غير مواتية، وهنا نرصد عدة أمور في منتهى الأهمية:

*  الأجواء الانتخابية في الساحة الإسرائيلية، والمزايدات السياسية في حين يتأهب الاسرائيليون لانتخابات الكنيست ال 19، دفعت بـ نتنياهو لاتخاذ خطوة اعتُبرت صفعةً في وجه حلفائه في الغرب والولايات المتحدة، والتي تمثّلت ببناء 3500 وحدة استيطانية في الضفة الغربية وشرقي القدس، خطوة نتنياهو هذه في ظاهرها بدت وكأنها عقابٌ للفلسطينيين، لكنها في الوقت ذاته شكّلت صفعةً مدويةً للأوربيين والولايات المتحدة؛ لأنها تنسف فكرة “حلّ الدولتين” التي يتعهّدها الغرب والأمريكيون، وتمنع أيّ تواصل إقليمي لدولة فلسطينية مستقبلية.

*  أنّ وجود “السلطة الفلسطينية” ورغم كلّ هذا الضجيج الهائل من نتنياهو وقادة معسكر اليمين الذي تمليه الاعتبارات الأيديولوجية؛ إلا أنهم ومن الناحية الواقعية والعملية غير قادرين على الاستغناء عنها، فهي تحفظ لهم الاستقرار الأمني؛ خاصة حركة المستوطنين على الطرق الالتفافية، فضلاً عن أنها تُعفي الاحتلال من تحمّل مسؤولياته المدنية تجاه المواطنين الفلسطينيين.

*  اليمين الإسرائيلي محكومٌ بثوابته السياسية التي تجعل هامش المناورة السياسية أمامه شبه معدوم, وقد تعمّق الشعور لدى الرأي العام الرسمي الدولي بعدم جديته في السعي للسلام؛ مما يعزز عزلته ويزيد التعاطف مع الموقف الفلسطيني .

*  الربيع العربي وما حمله من تحديات تواجه اليمين الاسرائيلي، فلا هو قادر على المناورة سياسياً لاحتوائه أو التخفيف من تداعياته، ولا هو قادر على مواجهته؛ بحكم عزلته دولياً ومحدودية قدراته، وفى ظلّ هزائمه العسكرية.

• إسرائيل ومعركتها الحقيقية..

بيد أنّ “تل أبيب” -المسكونة بأيديولوجيا اليمين- لن تغيّر جلدها، ولن تستسلم، ولن تذعن لاستحقاقات حلّ الدولتين، بل ستظلّ -ما استطاعت- ملتصقةً بأيديولوجيتها التوراتية العنصرية والتوسعية.

ومع تسليمها بواقع غزة الجديد؛ فإنّ معركة إسرائيل الحقيقية ستكون على أراضي الضفة والقدس, فالضفة تعيش الآن لحظةً فارقة, توجب التوحّد وصياغة استراتيجيةٍ سياسيةٍ وطنيةٍ كفاحية تزاوج بين السياسي والمقاوم, وتتسع لكل أطياف وفئات الشعب الفلسطيني, من أجل محاصرة الاستيطان وهزيمته، وتعميق عزلة إسرائيل ومحاكمة سياساتها ومجرميها, هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الضفة تعيش لحظة تسريع لوتيرة الاستيطان، وترجمة أيديولوجيا اليمين على الأرض فعليا, وهي الايديولوجيا التي تقوم في جوهرها على رفض حلّ الدولتين، والتمسك بأكبر مساحة ممكنة من الأرض، والنظر للوجود الفلسطيني كخطرٍ أمنيٍ وقنبلة ديمغرافية.

• حدود السياسة وثوابت التوراة..!

هذه الثوابت الإسرائيلية -المبنية على أيديولوجيا توراتية- تعمّقت في السنوات الأخيرة؛ بحكم الضعف الفلسطيني، والغياب العربي، والتحيّز الأمريكي- هذه الثوابت التوراتية هي التي تضبط وتتحكم بالخطوات والمبادرات السياسية لدى كل الأحزاب الصهيونية؛ بما فيها من كان في موقع سمي فيما مضى ب “اليسار” حيث باتت جميع تلك الأحزاب تتنافس على الصوت اليميني, بعد أن شهد المجتمع الإسرائيلي انزياحاً كبيراً تجاه اليمين المتشدّد, مع محافظة يعض تلك الاحزاب على هامش ضئيل من الحرية بغرض المناورة السياسية

فاليمين وفي حمى دفاعه عن قراره الشروع بتنفيذ مخططات البناء في منطقة E1 ادّعى أنه استند إلى مخططات وقرارات اتخذت إبان حكم إسحق رابين وشارون وأولمرت, حيث أقيمت سابقا بنى تحتية للطرق وشيّد مركز شرطي كبير .

• ثبات الجوهر وتغير من أجل الخداع..

إنّ الأيديولوجيا اليمينية الخاصة بالتعاطي مع القضية الفلسطينية شهدت تبديلاً وتغييراً نتج عن تغير الواقع الفلسطيني السياسي والديمغرافي، وكذا نتج عن التغير في المناخ السياسي الدولي, والذي بدا واضحاً أنه يتبنّى مشروع حلّ الدولتين, هذا بالإضافة إلى أن مسيرة أوسلو الطويلة خلقت نوعاً من الاجماع بين الاسرائيليين على ضرورة الانفصال عن الفلسطينيين.

فكان لابد لتيار اليمين المركزي -الذي كان طامحا بالحكم ممثلاً بحزب الليكود- أن يدخل تغييرات على أيديولوجيته السياسية، ابتداءً من “مناحيم بيغن” (الذى لم يكن يستبعد فكرة الضم) إلى “إسحق شامير” الذي وافق مضطراً على الذهاب إلى مدريد للتفاوض مع وفد فلسطيني تحت مظلة أردنية، مروراً بشارون؛ الذي لم يجد بداً من الاعتراف بدولة فلسطينية، ولم يكن أمامة إلا الانشقاق عن الليكود وتشكيل كاديما، وصولاً إلى “نتنياهو” الذي اضطر -كما يقول المقرّبون منه- إلى بلع الضفدع في خطابة في جامعة “بار إيلان” حينما وافق على حلّ الدولتين..

فمعسكر اليمين -بزعامة نتنياهو- حتى وإن وافق على مصطلح حلّ الدولتين -انسجاما مع الرغبة الدولية- إلا أنه في ذات الوقت لا يقصد ذلك فعلاـ وقد عمل سياسيا على تفريغ هذا الحلّ من مضمونه عبر اشتراطاتٍ تجعله مستحيلاً (كشرط الاعتراف بيهودية الدولة، القدس الكبرى عاصمة أبدية، ضمّ أكثر من 70% من أراضي المستوطنات، بقاء الجيش الإسرائيلي غرب نهر الأردن، دولة منزوعة السلاح.. الخ).

اما ميدانياً وعلى الأرض؛ فقد سعى اليمين إلى تسريع وتيرة الاستيطان؛ عبر فرض واقع استيطاني يبتلع أكبر مساحةٍ ممكنة من الأرض المخصصة للدولة الفلسطينية، بل وخنقها، وتقطيع أوصالها، وجعلها بدون تواصل جغرافي, علاوةً على النشاط المتسارع لتهويد القدس وطمس معالمها .

وعمليا؛ فإنّ اليمين الذي حاول تصنّع البراغماتية عبر خطاب بار إيلان لا زال أسير أيديولوجيته التي تتناقض مع حلّ الدولتين، وتتبنّى مشروع جماعة “غوش إيمونيم “الاستيطاني, لكنه يحاول جاهداً تسويق مشروعه للعالم عبر خدعة حلّ الدولتين, في ظل المحافظة على ثوابت أيديولوجية أهمها:

 *دولة يهودية على أكبر مساحة ممكنة من الأرض وبأقلّ عدد من السكان الفلسطينيين, عبر ضمّ 70% من المستوطنات, وتقطيع أوصال الضفة من خلال ألسنة استيطانيه طويلة، مثل ربط “معاليه أدوميم” بالقدس.

* القدس الكبرى بكلّ أحيائها عاصمة موحدة، وتعظيم الطابع الديني والثقافي اليهودي، وطمس وإخفاء المعالم العربية والإسلامية .

* توسيع خاصرة إسرائيل، كترجمة لمفهوم “حدود قابله للدفاع عنها” .

*استمرار بقاء الجيش الإسرائيلي في حزام أمني على طول غرب نهر الأردن.

* كيان فلسطيني منزوع السلاح.

* ترتيبات أمنية بشرية وإلكترونية .

* كيان الدولة الفلسطينية سيقوم على أقل مساحة ممكنة من الأرض، ويحتوى على أكبر عدد ممكن من السكان الفلسطينيين.

*السيطرة على خزانات المياه الجوفية في الأراضي الفلسطينية.

* لا عوده للاجئين الفلسطينيين إلا إلى أراضي الدولة الفلسطينية.

* الاعتراف الفلسطيني بيهودية دولة إسرائيل.

• الصدام قادم..!

التوقعات شبة المؤكدة تشير إلى أن اليمين الإسرائيلي المتطرّف سيشكّل الحكومة القادمة في إسرائيل، وأن الأزمة الدبلوماسية التي شابت العلاقة مع الغرب على إثر قرارات التوسع في المسارات الاستيطانية ستتفاقم، والصدام مع الفلسطينيين أمر وارد إلى حدٍ بعيد، وهنا سنتطرق للسيناريوهات التي يمكن ان تحصل:

• سيناريو ممكن الوقوع..

في حال استمرار الصراع الفلسطيني-الفلسطيني بين فتح وحماس، وغزة ورام الله، فإنّ إمكانية الصدام مع الجانب الاسرائيلي ستكون ضئيلة، وسيقتصر ردّ الفعل الفلسطيني في مواجهة الاستيطان واستفزازات المستوطنين على رفع شكاوى إلى الأمم المتحدة، وستعمل “السلطة الفلسطينية” على محاولة تهدئة غضب الجماهير والشارع الفلسطيني.

أما على صعيد قطاع غزة؛ فقد يدخل في تهدئة طويلة المدى ينشغل خلالها بمعالجة مشاكله الداخلية؛ بعيداً عن المشاركة في مواجهة الاستيطان في الضفة، وسيقتصر دور الفصائل في غزة على التصريحات أو التظاهرات التضامنية الرمزية، مع تحميل رام الله المسئولية، وتحريض الشعب في الضفة على أن يثور على الاحتلال، وربما على السلطة أيضاً .

أما في حالة تحقيق المصالحة وتجاوز محنة الانقسام؛ فإن السلطة الفلسطينية ستكون ملزمة ساعتها بالتوقف عن التنسيق الأمني مع إسرائيل، والتوقف كذلك عن مطاردة أنصار المقاومة في الضفة، في مقابل ذلك؛ ستكون هذه الفصائل ملزمة بالتوافق مع السلطة في الضفة على استخدام وسائل كفاحية سلمية، وهذا يعني أننا ذاهبون –في حال إتمام المصالحة- إلى مرحلة كفاحية تتشابه بشكل كبير مع انتفاضة 1987، وسيتم استبدال شعار ” رفع الحصار عن غزة” بشعار ” انهاء الاحتلال ” ،

على الصعيد السياسي: فان الانتفاضة الجماهيرية ستحرك القضية الفلسطينية  على المستوى الدبلوماسي، وتخلق جبهة سياسية عربية اسلامية وفي نفس الوقت اوروبية لصالح القضية الفلسطينية حيث ستشهد مدن وعواصم العالم مظاهرات التأييد والمؤازرة للشعب الفلسطيني الباحث عن الحرية.  ونذكر هنا من تحذير  الرئيس الفرنسي لنتنياهو عندما قال يوجد عندي اكثر من خمس مليون مسلم فرنسي. وفي هذه المرة ستكون الانتفاضة مؤلمة جدا لإسرائيل، كونها ستكون معززة بدعم عربي وإسلامي كبيرين، ورصيد كبير من الإنجازات العسكرية التي حققتها المقاومة في غزة، كذلك سيكون مؤلما لإسرائيل أن تواجه مثل ذلك الوضع في ظل عزلة دولية متزايدة.

• توصية للقيادات الفلسطينية..

1-   استمرار الانقسام سيخفف الضغط عن نتنياهو، وسيضعف شرعية تمثيل ابو مازن للفلسطينيين أمام المجتمع الدولي، وسيؤدي إلى مزيدٍ من تآكل مصداقية القيادة، وسرعة تبخر الإنجاز في الأمم المتحدة.

2-   اليمين الحاكم في “اسرائيل” ليس لديه ما يقدمه لابي مازن، وعليه فإن على “أبو مازن” ان يواصل التشبّث بربط المفاوضات مع اسرائيل بوقف كامل للاستيطان، ووقف التنسيق الامني، وأن يحمّل الاحتلال كامل المسئولية المترتبة على أفعاله.

3-   القيام بتظاهرات في الضفة وغزة تحت عنوان واحد هو: “مواجهة الاستيطان ووقفه”.

4-   تعزيز اهتمام الفصائل بموضوع القدس بالذات (حماس والجهاد على وجه الخصوص).

ان من الأمور الجديرة بالانتباه أنّ العالم العربي أصبح يتعامل مع غزة وقضيتها وكأنها “قضية فلسطين”، ولم يعد العرب يكترثون بالاستيطان ولا بتهويد القدس، ويتحمل جزء من هذه المسئولية الفصائل الموجودة في غزة، ومن الواضح أنّ العالم العربيّ الرسمي والشعبي تتجه أنظاره إلى تعزيز شرعية حماس والجهاد الإسلامي من خلال الشرعية التي اكتسبوها بالمقاومة.

وهنا نشير إلى أن مواجهة الاستيطان لا تعني الاعتراف بحدود الرابع من حزيران، لأنّ الاستيطان هو قضم لأراضي المواطنين ، وسلب لمقدراتهم الزراعية والمائية… الخ، وواجب هذه الفصائل هو الدفاع عن حقوق المواطنين .

5-   تفعيل دور الجامعة العربية، وملاحقة الاحتلال في المحاكم الدولية في القضايا المتفق عليها فلسطينياً مثل الاستيطان والأسرى… الخ .

6-   على الرئاسة المصرية -التي اكتسبت شرعية اقليمية خصوصا بعد العدوان الإسرائيلي الاخير على غزة- أن تفرض إنهاء الانقسام، وبهذا تخرج من أزمة التعامل مع عدّة أطراف فلسطينية، بما يخدم القضية الفلسطينية.

وعلى مصر أيضا أخذ الحيطة والحذر من شراك الاحتلال الخفية، وأن تلزمه بالقوانين والمواثيق الدولية فما يتعلق بكافة مسؤولياته كقوة محتلة لكافة الأراضي الفلسطينية؛ وفي مقدمتها قطاع غزة.

والله من وراء القصد

  ”  اسرة تحرير “

” تقدير موقف “

مركز اطلس للدراسات الاسرائيلية – 9/12/2012


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى