شوؤن دولية

دراسة حول الشرق الأدنى: التداعيات على الأمن القومي للولايات المتحدة

محاضرة ديفيد كاتلر، معهد واشنطن ١٣-٣-٢٠١٨م
في 13 آذار/مارس، استضاف معهد واشنطن منتدى سياسي مع ديفيد كاتلر كجزء من سلسلة محاضرات برنامج “ستاين” لمكافحة الإرهاب التي يقدمها المعهد. ويشغل كاتلر منصب “مدير الاستخبارات القومية للشرق الأدنى في مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية”. وفيما يلي ملاحظاته المعدة مسبقاً”.
أود أن أقدم لمحة عامة عن أهم التطورات السياسية والأمنية والإنسانية في الشرق الأدنى.
دعونا نبدأ بما يسمى بتنظيم “الدولة الإسلامية”. بفضل الجهود العظيمة والتضحيات التي قدمها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، خسر تنظيم “داعش” أكثر من 98 في المائة من الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقاً في العراق وسوريا. كما خسر الآلاف من مقاتليه وتقلّص حجم قواته بشكل جذري، وانكشفت أسطورة “الخلافة” التي كان يدعي بها. إلا أنّ “المعركة لم تنته بعد”، كما أكد ذلك وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس. وتستمر القوات التي تدعمها الولايات المتحدة في تطهير الجيوب المتبقية التي يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية”. لكن فيما يتعلق بالعراق وسوريا على الأقل، يتجه مسار التنظيم نحو خط النهاية.
وبالنظر إلى ذلك، هل يمكننا أن نتوقع “فوائد من السلام”؟ وما هي تداعيات الهزيمة الاستراتيجية لتنظيم “داعش” كقوة شبه تقليدية؟
في حين أن هذا الخبر مرحب به، يجب علينا مقاومة تقييم النتائج في فراغ. وعلينا أن نأخذ دائماً التأثيرات من الدرجة الثانية والثالثة في عين الاعتبار.
فعلى سبيل المثال، بالرغم من القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا، ما زال صدى أيديولوجيته يتردد في جميع أنحاء العالم، الأمر الذي له تداعيات خطيرة على الأمن القومي للولايات المتحدة. وفي حين أثبت السفر أنه أمراً صعباً، سيحاول عدد كبير من مقاتلي “داعش” على الأرجح العودة إلى بلدانهم الأصلية، التي تشمل أوروبا والولايات المتحدة لشن هجمات، أو التوجه إلى بلدان جديدة مثل الفلبين. وتواصل الجهات التابعة للتنظيم خارج دول المشرق التخطيط للهجمات وتنفيذها. ومن المرجح أن يضاعف تنظيم “الدولة الإسلامية” جهوده لإلهام مؤيديه بشنّ الهجمات أينما كانوا، حتى لو لم ينضموا أبداً إلى القتال في الخارج.
ويشكل التحول في الدعاية لتنظيم “داعش” عبر الإنترنت أحد الاتجاهات الملحوظة التي شهدناها [مؤخراً]، بعد أن خسر التنظيم الكثير من الأراضي. فسابقاً، شددت رواية تنظيم “الدولة الإسلامية” على بناء الخلافة، وتضمنت مواضيع حول الحوكمة والمغامرة والنصر. أمّا الفيديو الأخير للتنظيم الذي يحمل عنوان “لبّوا النداء” فيركّز على الانتقام والقتل العشوائي، وهو أمر مروّع بشكل خاص حتى بالنسبة لـ”داعش”.
والمغزى؟ تنظيم “الدولة الإسلامية” يتطوّر ويتكيّف مع الوضع الجديد.
ففي العراق، بدأ تنظيم “داعش” يغير تكتيكاته ويعود إلى طبيعته القديمة، أي إلى تمرد سري – مثلما فعل سلفه تنظيم “القاعدة في العراق” سابقاً. وفي حين لم يتردد تنظيم “الدولة الإسلامية” قط في منع المدنيين غير المقاتلين من الفرار من مناطق القتال واستخدامهم كدروع بشرية، إلّا أنّ مقاربته الجديدة تشير إلى أنه سيسعى على الأرجح إلى التغلغل بين المدنيين إلى حد أكبر.
ومن المرجح أن يؤدي هذا بدوره إلى إجبار الجيش العراقي الكفوء بل المُتعَب في الوقت نفسه على تطوير نهج جديد تماماً لمكافحة التمرد. ورغم اختلاف الطبيعة والنطاق، سوف يستمر القتال بين الجيش العراقي والمتمردين.
وإلى جانب المسألة الأمنية، يواجه العراق أيضاً تحديات هائلة في مجالَي إعادة الإعمار والحوكمة. فمعظم العراقيين الذين تشرّدوا ونزحوا من ديارهم والبالغ عددهم 2.6 مليون نسمة هم في محافظة نينوى ومن الطائفة السنية. ومع اقتراب موعد الانتخابات القادمة المقرر إجراؤها في أيار/مايو، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان هؤلاء الأشخاص المشردون داخلياً سيتمكنون من التصويت في مدنهم، وهي مسألةٌ شدد عليها القادة السنّة مراراً وتكراراً خشية تعرضهم إلى المزيد من التهميش السياسي. وفيما يخص إعادة الإعمار، مرت ثمانية أشهر على تحرير الموصل عاصمة نينوى، ولا تزال المدينة القديمة دون كهرباء أو مياه جارية، وستتطلب إعادة بنائها مليارات الدولارات.
ولا يزال الكثير من العراقيين السنّة يخشون من نوايا الميليشيات والحكومة الوطنية ذات الأكثرية الشيعية التي تزعم أنّ السنّة كانوا يدعمون “داعش”. فلنتذكّر أنه في أول ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية”، استغلت هذه الجماعة مخاوف السنّة من الهيمنة الشيعية. وحتى لو كانت هذه المخاوف لا تؤدي إلى عودة ظهور تنظيم “داعش”، فإن المخاوف من الانتقام والمظالم السنية الناجمة عن التهميش السياسي والتمييز والتأخير في إعادة الإعمار قد تعرقل المصالحة اللازمة لتحقيق السلام المستدام، الذي هو أحد الأهداف الرئيسية للولايات المتحدة.
ولا أقصد التقليل من النجاح المثبت للحملة العسكرية. ولكن يجب أن يُسفر الانتصار النهائي على تنظيم “الدولة الإسلامية” عن فائدة إلى الولايات المتحدة وحلفائها.
إلا أنّ الحرب ضد “داعش” ليست نزاعاً تقليدياً ثنائياً. إذ يقوم كل من “حزب الله” والولايات المتحدة وإيران وروسيا بمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”. فنحن نحارب العدو نفسه، مثلنا مثل خصومنا. وبالتالي، من المرجح أن يجنوا هم أيضاً “فوائد من السلام.”
فلنأخذ على سبيل المثال المقاتلين الشيعة المدعومين من إيران، الذين كانوا حتى الآونة الأخيرة يصبون تركيزهم أولاً على تنظيم “الدولة الإسلامية”. لقد أصبحت هذه الجماعات تتمتع حالياً بكامل الحرية لتوسيع نفوذها وتعزيز مكاسبها السياسية والمساحات التي تسيطر عليها، الأمر الذي يمكن أن يزيد من تأجيج التوترات مع المجتمعات السنية.
ومن المحتمل أن تكون إيران وعميلها اللبناني “حزب الله” من المستفيدين أيضاً، إذ سيتمكنان من توجيه الموارد والاهتمام نحو أماكن أخرى. وكما ورد في “تقييم التهديد العالمي” Worldwide Threat Assessment الذي أصدرناه الشهر الماضي، تبقى إيران أبرز الدول الراعية للإرهاب وتسعى لتوسيع نفوذها في جميع أنحاء المنطقة.
ويتفق ذلك مع تصريحات الرئيس الأمريكي في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، عندما أعلن عن الاستراتيجية الإيرانية حيث قال: “يبقى النظام [الإيراني] الدولة الراعية للإرهاب الأولى في العالم، ويقدم المساعدة لتنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” و”حزب الله” وحركة “حماس” وشبكات إرهابية أخرى. ويعمل على تطوير ونشر وانتشار الصواريخ التي تهدد القوات الأمريكية وحلفائنا. كما يضايق السفن الأمريكية ويهدد حرية الملاحة في الخليج العربي وفي البحر الأحمر. ويسجن الأمريكيين بتهم باطلة ويطلق هجمات إلكترونية ضد بنيتنا التحتية الحيوية والنظام المالي والجيش”.
لقد أرسلت إيران المئات من المسؤولين في “حرس الثورة الإسلامية” إلى العراق للمساعدة في توجيه عشرات الآلاف من أعضاء الميليشيات الشيعية، وستسعى على الأرجح إلى التلاعب بالشؤون العراقية من خلال الاستفادة من هذا النفوذ. ومن خلال حملتهم في سوريا والعراق، اكتسب العسكريون الإيرانيون ومقاتلو “حزب الله” خبرةً في ميدان المعركة، وأتيحت لهم الفرصة لاختبار التكتيكات والإجراءات العسكرية الميدانية. ومع مشارفة المعركة ضد تنظيم “داعش” على نهايتها، تظهر أمامهم الآن فرصةً لإعادة توجيه جهودهم.
وبالنسبة إلى “حزب الله”، يعني ذلك إعادة التركيز على لبنان، وإنفاق المزيد من الموارد وتصويب التركيز ضد إسرائيل – بمساعدة إيران، إما بشكل مباشر وإما من خلال دعم الجماعات المسلحة في الأراضي الفلسطينية. والنتيجة؟ تفاقم حالة عدم الاستقرار في لبنان وحرب محتملة مع إسرائيل.
أما بالنسبة إلى إيران، فيعني ذلك تعزيز مكاسبها وإنشاء ما يسمى بـ “الهلال الشيعي” الذي سيربط شبكتها المؤلفة من الوكلاء والحلفاء في جميع أرجاء الشرق الأدنى، والذي يمكن أن يهدد مجموعةً من المصالح الأمريكية.
ولننظر إلى اليمن، حيث دعمت إيران قوات الحوثيين المتورطة في نزاع عسكري مع التحالف الذي تقوده السعودية، والذي تقوم القوات الأمريكية بمساعدته وتقديم المشورة له. فقد عرضت الحكومة الأمريكية مؤخراً أجزاءً من صواريخ بالستية إيرانية المصدر، مما يدل على دعم إيران للحوثيين في انتهاكٍ للعقوبات الدولية المفروضة عليها.
وحتى الآن، هدد الحوثيون مطاراً مدنياً في السعودية، وأطلقوا صواريخ على الناقلات الإماراتية في مضيق باب المندب، وهددوا بقطع الشحن البحري في البحر الأحمر، مما قد يؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة في جميع أنحاء العالم.
ليس هناك حل عسكري للنزاع في اليمن. فأي دعم عسكري إيراني متزايد أو أي مساعدة تقدمها إيران للحوثيين لن يؤديا سوى إلى التقليل من احتمالات التوصل إلى حل سياسي تسعى إليه بنشاط الولايات المتحدة وشركائها في المجتمع الدولي.
وفي غضون ذلك، يستمر الشعب اليمني في معاناته. ووفقاً للتقديرات الأخيرة، يحتاج نحو 21 مليون شخص في اليمن إلى نوع من الدعم الإنساني أو الحماية، بينهم نحو 10 ملايين شخص بحاجة ماسة جداً للمساعدة. وقد تجاوز العدد التقديري لحالات الإصابة بالكوليرا المليون حالة، ومن المتوقع أن تشهد هذه الأعداد ارتفاعاً بسبب موسم الأمطار القادم. ويفتقر ما يقدر بنحو 17 مليون شخص – أي 60 في المائة من مجموع السكان – إلى الأمن الغذائي، في حين أن هناك سبعة ملايين شخص معرّضين لخطر المجاعة.
وبالطبع، ليست اليمن سوى واحدة من عدد من الأزمات الإنسانية التي تواجه الشرق الأدنى. وللأسف، هناك مستفيد محتمل آخر من “فوائد السلام” بعد فترة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهو النظام السوري الذي قتل المدنيين من دون تمييز- بدعم من روسيا، مستخدماً الأسلحة الكيميائية أيضاً. وقد أدّت الحملة الحالية التي يقوم بها النظام في ضاحية الغوطة الشرقية في دمشق إلى محاصرة 400,000 شخص وتركهم مع قليل من الطعام أو الدواء، أو من دونهما، كما أسفرت عن مقتل أكثر من ألف مدني.
وعلى نطاق أوسع، أدى الصراع السوري إلى أسوأ أزمة إنسانية ألمّت بعصرنا. فقد لقي أكثر من 11 مليون شخص حتفهم أو اضطروا إلى مغادرة منازلهم. ووفقاً للأمم المتحدة، هناك حالياً 13.1 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة في سوريا، و6.1 مليون شخص مشرد داخلياً، و2.98 مليون شخص في مناطق محاصرة يصعب الوصول إليها.
واسمحوا لي أن أشدد على نقطة واحدة هنا. عندما يفكر الناس في مجتمع الاستخبارات، فإن الصورة التي تتبادر إلى الأذهن عادةً هي أنشطتنا الاستخبارية الحساسة أو الدعم الذي نقدمه للجهود السياسية أو العسكرية لبلادنا. وغالباً ما يغيب عن البال التركيز الذي نضعه على القضايا الإنسانية وقضايا حقوق الإنسان.
إن تسليط الضوء على هذه الوحشية لا يصب فقط في مصلحتنا الاستراتيجية ، بل هو أيضاً واجبنا الأخلاقي. وهناك ميل إلى أن يصبح الفرد فاقداً للحس، نظراً للعديد من المآسي التي تتجلّى في جميع أنحاء المنطقة. ومن المهم أن نتذكر أن كل واحد من هذه الإحصائيات يمثّل نفساً فارقت الحياة أو تعيش المعاناة. وببساطة، يستحق سكان هذه المنطقة، الذين شهدوا ويلات الحروب لفترة طويلة، مستقبلاً أفضل، وحاضراً أفضل.
وللأسف، يشمل ذلك ملايين اللاجئين السوريين، بمن فيهم أولئك الذين فروا إلى الأردن ولبنان وتركيا. وقد أظهرت هذه البلدان سخاءً هائلاً من خلال إيوائها السوريين، لكن ذلك أدى إلى تكبد ثمن اقتصادي باهظ وتزايد التوترات الاجتماعية، خاصة في الأماكن التي تندر فيها الموارد العامة والوظائف.
وفيما يتعلق بفوائد السلام، تشكّل هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا عاملاً أساسياً لحل معضلة الحرب الأهلية في تلك البلاد. وفي حين لا يُظهِر ذلك أية مؤشرات عن نهاية قريبة، إلّا أن وقف الأعمال العدائية وعودة اللاجئين من شأنهما أن يخففا من الضغط على البلدان الثلاثة.
لكن ذلك ليس التحدي الوحيد الذي تواجهه هذه البلدان. فبالإضافة إلى انعدام الاستقرار الاقتصادي، تواجه المملكة الهاشمية مستوىً غير مسبوق من الغضب العام والشكاوى حول الإصلاح السياسي والفساد والبطالة.
وفي مواجهة أمتداد العنف من قبل الإرهابيين المتمركزين في سوريا، يتخبّط لبنان أيضاً في صراع مع تزايد النفوذ الإيراني من خلال “حزب الله”، الأمر الذي زاد من تفاقم التوترات الطائفية.
وبالاستناد إلى الروابط التي تجمع الأكراد السوريين التابعين لـ”وحدات حماية الشعب” بـ “حزب العمال الكردستاني”، بدأت تركيا حملةً ضدهم في عفرين، وبدورهم قاموا بسحب عدد كبير من المقاتلين الذين يحاربون تنظيم “داعش” في وادي نهر الفرات الأوسط. وعلى خلاف الحملة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” التي نتشاركها مع خصومنا، يُعد هذا مثالاً على محاربة اثنين من حلفاء الولايات المتحدة بعضهما البعض.
سأترككم مع ثلاث أفكار أساسية. أولاً، قد تكون هذه المنطقة الأكثر ديناميكيةً في العالم. وفي هذا الصدد، يكرس مجتمع الاستخبارات الأمريكي قدراً هائلاً من الموارد والطاقة لتقييم النوايا والتداعيات المحتملة، ولكن طبيعة المنطقة بحد ذاتها تجعل هذه المهمة صعبةً للغاية. وكما سبق وذكرتُ، تتوافق المصالح الأمريكية في الشرق الأدنى مع خصومنا وحلفائنا على حد سواء.
ثانياً، لا تزال العوامل ذاتها التي أدت إلى بروز كل من الانتفاضات العربية وتنظيم “الدولة الإسلامية” قائمة. وتشمل هذه عدم الاستقرار السياسي والاقتصاديات الضعيفة والفساد والطائفية. وإلى أن تتم معالجة هذه العوامل الأساسية، سنواجه على الأرجح نفس المشكلات أو قضايا مماثلة في المستقبل.
وأخيراً، إنّ قضايا الشرق الأدنى مهمة وذات صلة مباشرة بمجموعة من أولويات الولايات المتحدة، من بينها (1) مكافحة الإرهاب وحماية الوطن و(2) الحفاظ على مصالحنا الاقتصادية والأمنية الأوسع ومصالح حلفائنا و(3) حماية حقوق الإنسان ومعالجة الأزمات الإنسانية. وفي حين أن تحديد كيفية معالجة هذه التحديات أو حلها هو من وظائف صنّاع السياسات في نهاية المطاف، فإن النجاح يتطلب إجراء تقييمات دقيقة في الوقت المناسب وتكون ذات صلة بالديناميات الاقتصادية والسياسية والأمنية في المنطقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى