أقلام وأراء

خيرالله خيرالله يكتب – اليمن من الوحدة… إلى المجهول

خيرالله خيرالله – 22/5/2020

أيّ  يمن بعد الوحدة، أي بعد تشظّي البلد؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال في غياب صيغة جديدة لليمن الذي دخل نفقا طويلا. الأكيد أنّه لن يخرج من هذا النفق في شكل دولتين مستقلتين كما كانت الحال قبل الوحدة.

قبل ثلاثين عاما، في الثاني والعشرين من أيّار – مايو 1990 وقّع علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية العربية اليمنية، وعلي سالم البيض الأمين العام للحزب الاشتراكي في اليمن الجنوبي اتفاق الوحدة اليمنية. كان توقيع الاتفاق في عدن في مبنى جديد أقيم في المكان الذي كان فيه مقرّ الحزب الاشتراكي في حيّ التواهي. إنّه المكان الذي انطلقت منه أحداث 13 كانون الثاني – يناير 1986 التي كانت بمثابة بداية النهاية للنظام القائم في الجنوب. في مبنى اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي، نُفّذت يومذاك عملية تصفية لعدد من أعضاء المكتب السياسي للحزب الاشتراكي من خصوم علي ناصر محمّد الذي كان يجمع في مطلع 1986 بين مَوْقعيْ رئيس الدولة والأمين العام للحزب الحاكم.

بعد حرب أهلية بين “الرفاق” الماركسيين، الذين عاد كلّ منهم إلى قبيلته وعشيرته ومنطقته، خرج علي ناصر من السلطة وانتقل إلى صنعاء ودمشق. خرج معه منها ممثلو محافظة أبين لمصلحة تحالف جديد عماده قسم كبير من الحضارمة وأهل الضالع ولحج وبعض العدنيين.

كان الحضارمة يمثلون الجناح السياسي في التركيبة الجديدة للنظام. وكان أهل الضالع ولحج في أساس الجناح العسكري والأمني في التركيبة التي لم تستطع إيجاد مستقبل لها، فهربت إلى الوحدة في أواخر 1989 بدفع من الحضرمي علي سالم البيض.

ليس معروفا إلى الآن، لماذا قبل البيض بوحدة اندماجية محت الكيان الجنوبي الذي كان قائما كدولة مستقلّة لمصلحة كيان واحد هو الجمهورية اليمنية. يصعب إيجاد تفسير لذلك باستثناء العودة إلى شخصية الأمين العام للحزب الاشتراكي وقتذاك… أو إلى شعوره بعمق الأزمة التي يمر فيها النظام في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

بعد ما سمّي “أحداث 13 يناير”، انكشف النظام في الجنوب، خصوصا في ضوء بداية الانهيار للاتحاد السوفياتي الذي لم يستطع ضبط الوضع في عدن والحؤول دون حصول الانفجار الكبير فيها. كانت “أحداث 13 يناير”، التي سبقت كارثة المفاعل النووي في تشرنوبيل، الدليل الأول على أن الاتحاد السوفياتي دخل مرحلة التفكّك، وأنّه ليس أكثر من “نمر من ورق” عاجز عن إدارة البلدان التي وضعها تحت نوع من الوصاية، مثل اليمن الجنوبي أو إثيوبيا أو دول أوروبا الشرقية. ليس صدفة أن جدار برلين انهار في وقت كان فيه علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض يتوصّلان في عدن إلى اتفاق أوّلي في شأن الوحدة الاندماجية.

مع رفع “العَليّين” (علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض) علم الوحدة في عدن في مشهد تاريخي كان عليه شاهد عربي وحيد هو ياسر عرفات، دخل اليمن مرحلة جديدة. فجأة تحرّر الجنوب من نظام حكم الحزب الواحد الذي حقّق إنجازات معقولة على صعيد التعليم وفرض الأمن، لكنّه نشر الفقر والبؤس وألغى أي نشاط اقتصادي مثمر وأيّ دور لعدن التي كانت في مرحلة معيّنة مدينة تُصنع فيها الثروات.

أما الشمال، فصار مختلفا إلى حدّ ما، خصوصا في ظلّ التعددية الحزبية وصدور عشرات الصحف وبعض الانفتاح على الصعيد الاجتماعي. مارس علي عبدالله صالح طوال تلك الفترة هوايته المفضّلة في السياسة. مارس دور الحَكَم بين الحزب الاشتراكي من جهة، وحزب التجمّع اليمني للإصلاح الذي سيطر عليه الإخوان المسلمون شيئا فشيئا بعدما كان نوعا من التحالف القبلي مع الإسلاميين قبل وفاة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر.

أفقد سقوط الحزب الاشتراكي، بعد حرب الانفصال صيف 1994، الرئيس اليمني القدرة على لعب الدور الذي اعتاد لعبه، أي دور نقطة التوازن في البلد. بعد انتصاره في حرب 1994 بمساعدة ميليشيات التجمّع اليمني للإصلاح، تغيّر الرجل كثيرا وفرض على اليمن النظام الذي كان قائما في الشمال قبل العام 1990.

في الواقع، انتهت الأيام الحلوة في اليمن في خريف 1994، عندما بدأ النظام اليمني الجديد يتكوّن إثر الانتقال إلى نظام الرئيس ونائب الرئيس، بدل نظام مجلس الرئاسة المكوّن من خمسة أعضاء. أصبح الجنوبي (من محافظة أبين) عبدربّه منصور هادي، وهو ضابط أقلّ من عادي من جماعة علي ناصر محمّد (الزمرة)، نائبا للرئيس.

لدى تعيينه عبدربّه في موقعه الجديد، سألتُ علي عبدالله صالح، الذي عانى الكثير من علي سالم البيض عندما كان نائبا لرئيس المجلس الرئاسي، كيف يمكن أن تضع شخصا من هذا المستوى نائبا لك؟ أجاب بالحرف الواحد: “أنت شخص ذكي، لم أتوقع منك سؤالا من هذا النوع. هذا لا يعمل لي مشاكل”. تبيّن مع الوقت أن لدى نائب الرئيس سابقا، والرئيس الموقت منذ العام 2012، حسابات كثيرة يريد تصفيتها مع علي عبدالله صالح. خرجت أحقاد دفينة لا وجود لمبرّر لها في وقت يسير فيه اليمن من الوحدة إلى المجهول.

كانت الوحدة في مرحلة معيّنة ضرورة. لولا الوحدة لما استطاع اليمن رسم حدوده لا مع سلطنة عُمان، ولا مع المملكة العربية السعودية لاحقا. كانت المزايدات بين الشمال والجنوب تحولُ دون الإقدام على أي خطوة في هذا الاتجاه. أكثر من ذلك، لعبت الوحدة دورها في الاستقرار الإقليمي.

لا شكّ أنّ علي عبدالله صالح ارتكب أخطاء كثيرة، لكنّ الخطأ الأكبر كان في انقلاب الإخوان المسلمين عليه في العام 2011 مستغلّين “الربيع العربي”. لم يدرك الإخوان الذين أحكموا سيطرتهم على التجمّع اليمني للإصلاح أنّهم قدموا أكبر خدمة للحوثيين وإيران التي تقف خلفهم.

هناك معطيات جديدة مختلفة في اليمن. قتل الحوثيون علي عبدالله صالح. لم يعد لهم شريك في الشمال، فيما هناك حركة انفصالية في الجنوب في إطار مساحة جغرافية معيّنة انطلاقا من عدن. هناك حلف إخواني – حوثي من تحت الطاولة وفوقها يتعزّز يوما. هناك غياب تام لـ“الشرعية” التي تحوّلت إلى أداة في خدمة الإخوان ومن يقف خلفهم. وهذا ما يفسّر التدخل التركي المتزايد في غير منطقة يمنية، خصوصا في محافظة شبوة.

تظلّ تجربة الوحدة اليمنية تجربة غنيّة. كانت حلما استمرّ أربع سنوات للبعض، و21 سنة للبعض الآخر، أي إنّه انتهى مع محاولة الاغتيال التي تعرّض لها علي عبدالله صالح في الثالث من حزيران – يونيو 2011 في مسجد النهدين داخل حرم دار الرئاسة. أيّ يمن بعد الوحدة، أي بعد تشظّي البلد؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال في غياب صيغة جديدة لليمن الذي دخل نفقا طويلا. الأكيد أنّه لن يخرج من هذا النفق في شكل دولتين مستقلتين كما كانت الحال قبل الوحدة. الأكيد أيضا أن تغييرات كبيرة طرأت على المجتمع في كلّ أنحاء اليمن… بما في ذلك تفكّك المجتمع القبلي في الشمال!

*خيرالله خيرالله  – إعلامي لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى