خط كردي فاصل بين العراق وتركيا
مركز الناطور للدراسات والابحاث
لا تشهد كردستان العراق ازدهاراً غير مسبوق في قطاع البناء فحسب، بل يتحدث الشعب أيضاً عن مفهوم ما كان يتصوره أحد في السابق: هم يتحدثون عن اقتراب اليوم الذي سيتحررون فيه من بقية مناطق العراق.
يسود جو احتفالي مستجد في أربيل والسليمانية ودهوك (أكبر ثلاث مدن في إقليم كردستان العراق)، وهو أمر مبرر، إذ يملك أكراد العراق الذين يقيمون في المنطقة شبه المستقلة التي تديرها حكومة إقليم كردستان سبباً وجيهاً للاحتفال.
هم ينعمون بسلام واستقرار نسبيَّين مقارنةً ببقية مناطق البلد ويعيشون في مجتمع منفتح نسبياً، وقد تلقوا في السنة الماضية جرعة عالية من الثقة باقتصادهم الناشئ من بعض الشركات النفطية البارزة في العالم، منها “إكسون موبيل” (ExxonMobil) و”شيفرون” (Chevron) و”توتال” (Total) و”غازبروم” (Gazprom )، فقد وقعت هذه الأطراف كلها على عقود استكشاف مع حكومة إقليم كردستان. لا تشهد كردستان العراق ازدهاراً غير مسبوق في قطاع البناء فحسب، بل يتحدث الشعب أيضاً عن مفهوم ما كان يتصوره أحد في السابق: هم يتحدثون عن اقتراب اليوم الذي سيتحررون فيه من بقية مناطق العراق.
في ظل التقدم الذي يحرزه الأكراد، بدؤوا يبتعدون عن حكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وقد وصلت العلاقات الشخصية بين المالكي ورئيس إقليم كردستان مسعود برزاني إلى أدنى المستويات على الإطلاق، ما يمنعهما من حل الخلافات الجدية على السلطة والأراضي والموارد. في شهر يونيو الماضي، حاول برزاني وخصوم آخرون للمالكي إقالته عبر سحب الثقة منه. صحيح أنهم فشلوا في مساعيهم، لكن ما زالوا يطمحون إلى تحقيق ذلك.
الأكراد هم ضحايا التاريخ والجغرافيا وطموحاتهم الخاصة في بعض المناسبات، وطوال قرن من الزمن تقريباً، ناضلوا لتحرير أنفسهم من سيطرة الحكومة المركزية لتجاوز موقعهم المحصور. اليوم، يبدو أن تغير ظروف المنطقة بوتيرة سريعة يمنحهم حلفاء إضافيين وفرصاً جديدة. لكن ثمة سبب وجيه للتفكير في أن الأكراد سيضطرون مجدداً إلى تأجيل مساعيهم للحصول على دولتهم الخاصة، وذلك بسبب استبدال قبضة بغداد باتكال أكثر اعتدالاً على تركيا.
صحيح أن أنقرة كانت تدعم دوماً وحدة الأراضي العراقية من أجل التصدي للنفوذ الإيراني وردع التحركات الانفصالية بين السكان الأكراد في تركيا، لكن حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان بدأت حديثاً تغير استراتيجيتها. منذ عام 2008، طورت هذه الحكومة رابطاً اقتصادياً وثيقاً مع حكومة إقليم كردستان من خلال فتح حدودها وتعزيز الاستثمارات التركية في إقليم كردستان. في المقابل، تدهورت علاقاتها مع بغداد بسبب نزعة المالكي الاستبدادية واقتناع أنقرة بأن المالكي أصبح عميلاً لإيران.
تتعلق المسألة الأساسية الآن بمعرفة إلى أي حد سيتمادى القادة الأتراك في هذه المقاربة: هل سيكونون مستعدين للتخلي عن الخطة الأساسية التي تقضي بتقوية العراق الموحد أم أنهم سيلجؤون إلى الخطة الاحتياطية التي تقضي بالتحالف مع أطراف بعيدة عن بغداد مثل الأكراد والمحافظات السنّية بمعظمها في شمال العراق، وحتى المجازفة بتفكيك العراق؟ لقد تغير مسار الخطاب في أنقرة منذ الآن. لم يعد المسؤولون يعتبرون وحدة العراق شرطاً إلزامياً بل أصبح الأمر مجرد “خيار مفضل”.
كذلك، يُقال إن أردوغان وعد برزاني بأن تحمي القوات التركية إقليم كردستان في حال حدوث اعتداء عسكري من بغداد، فحتى لو لم تهدف الزيارة غير المعلنة التي قام بها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو لمدينة كركوك المتنازع عليها في شهر أغسطس إلى تقديم الدعم للأكراد الذين يطالبون ببعض الأراضي العراقية، إلا أن ردة فعل بغداد الغاضبة تشير إلى أن رسالة دعم الأكراد وصلت.
أعلن المالكي خططا لإنشاء مقر عسكري جديد في كركوك، وتبرز مؤشرات مقلقة أخرى بسبب تنامي نزعة التسلح في المدينة. يقدم برزاني من جهته حوافز قوية إلى تركيا لمنعها من دعم بغداد: يتدفق أكثر من مليون برميل نفط يومياً عبر مجموعة من الأنابيب المباشرة التي لا تزال قيد البناء الآن، وتساهم منطقة عازلة سنّية كردية مستقرة تقع على الحدود الجنوبية الشرقية من تركيا وتقف في وجه حكومة المالكي التي يسيطر عليها الشيعة في منع المتمردين الأكراد من التوسع في مناطق سورية الكردية.
لكن بالنسبة إلى تركيا، ستكون مخاطر تقديم الدعم إلى أكراد العراق هائلة. سيؤدي تفكك العراق إلى تعزيز مساعي إيران للهيمنة على المنطقة، وسيساهم إقليم كردستان العراقي المستقل في تقوية الأقلية الكردية في تركيا. يواجه القادة الأتراك معضلة صعبة. هم لا يستطيعون توقع نتائج الأزمة في سورية أو معرفة إلى أي حد سيتنامى نفوذ الأكراد في البلدان الأربعة التي يقيمون فيها، لكن يجب أن تصل تركيا بشكل عاجل إلى موارد الطاقة العراقية. وطالما يستمر تدهور العلاقات مع بغداد، تبدو أنقرة مستعدة لشراء النفط مباشرةً من الأكراد من دون الحصول على موافقة حكومة المالكي.
ستساهم هذه الخطوة في مساعدة إقليم كردستان على توسيع هامش استقلاليته عن بغداد ومنحه ورقة ضغط للتعامل مع أنقرة. لكنها لن تساهم في إنشاء دولة فعلية. في نهاية المطاف، سيبقى الأكراد عالقين في العراق لكن بشروطهم الخاصة، ونظراً إلى تاريخهم المضطرب، يُعتبر الوضع الراهن تقدماً لافتاً في مسارهم وهو يقدم الأساس الذي يمهد لتحسين أحوالهم.
كتب: Joost Hiltermann – Foreign Affairs
قسم الترجمة * الجريدة * 30/10/2012