خطاب الرئيس بين الحائط التاريخي والشعر الابيض! كما يكتب بكر ابو بكر
بكر أبوبكر
لمن استمع لخطاب الرئيس أبومازن في المجلس المركزي الفلسطيني يجد فيه الكثير مما يمكن الحديث بشأنه بالموضوع السياسي، سواء بالاتفاق معه أو بنقضه.
وإن كان في الكثير مما قاله لم يأتي بجديد، إذ أكد على المسار السياسي والمقاومة السلمية معا، وهما حقيقة الخط السياسي الذي يسير عليه الرئيس أبومازن وحركة فتح منذ العام 2006
في ظل قدرة الرئيس المشهودة على التكتيك والمناورة أشار لماكان يسمى بالمفاوضات مع الاسرائيليين والأمريكان، وقلل من أهميتها
أوضح الخطاب في 14/1/2018 تحلي الجانب الفلسطيني بالمصداقية والحقائق والرسوخ، في مقابل التفلت والتهرب الاسرائيلي والتغطية الامريكية للأفعال الاسرائيلية الى درجة السيرالامريكي أمام الاسرائيليين أنفسهم، كما أشار للسفير الامريكي في تل أبيب وممثلتهم بالامم المتحدة وتصريحاتهم المنفرة والمغالطة، وحيث وجد الأمريكان بتسويغ الأفعال الخداعية والعدوانية الاسرائيلية الملجأ لهم والسياسة المتبعة
لكن المثير حقا في خطاب الرئيس أبومازن هو الإيغال في سرديات التاريخ حين ابتدا بعرض “المسألة اليهودية” التي كانت تؤرق الغرب المسيحي، حينما بدأ الاشارة منذ القرن 17 وليس منذ القرن العشرين كما هو المتبع.
قال الاخ أبومازن حين الاشارة لاعلان بلفور عام 1917 أن “القضية لم تبدأ منذ مئة عام بل بدأت قبل ذلك بكثير في سنة 1653 عندما حكم كرومويل بريطانيا، وهو من عمل انقلاب على الملكية وصار رئيس جمهورية أي قبل 300 سنة من وعد بلفور، وفكر بنقل اليهود من أوروبا إلى الشرق الأوسط إلى هذه المنطقة لانهم يريدون هذه المنطقة لتكون مغفرا أماميا لحماية القوافل والمصالح القادمة من أوروبا إلى الشرق. فطلب من هولنا باعتبارها كانت تملك أكبر أسطول بحري في العالم بنقل اليهود لكن هذا المشروع لم ينجح” ومعددا المشاريع الاوربية والامريكية الاستعمارية اللاحقة
وكان المميز تركيزه على الدور الامريكي المتآمر منذ القدم في توطين اليهود في فلسطين، لأول مرة، ومن الجديد الذي قاله أنه كان هناك: “دعوة غريبة عجيبة سنة 1850 من القنصل الأميركي في القدس “وورد كرايسون”، كان في مجموعة يهود حول الحائط والقدس القديمة، قال لهم شو رأيكم أديكم مستوطنات، ولكنهم رفضوا وقالوا نحن جئنا للتعبد، وعندما رفضوا قررت الحكومة الأميركية أن ترسل مسيحيين إلى فلسطينيين، وفعلا جاؤوا بالأمريكان ورفضوا الحياة في فلسطين، فأصروا على حكومتهم وأخذتهم باخرة من ميناء يافا وأعادتهم إلى أميركا ”
وفي الاشارة لتاريخ “المسألة اليهودية” كما أسمتها أوربا وللحركة الصهيونية يعيد التأكيد على المباديء الحقيقية للصراع مستبعدا كليا الأساس الديني التوراتي الذي ما فتأ نتنياهو واليمين المتطرف يغرف من خرافاته، فأراد الرئيس وضع الحقائق في إطارها الصحيح وهو إطارها الاستعماري الاستغلالي الامبريالي لدماء الشعوب الى ان أصبحت “اسرائيل” واقعا منذ النكبة عام 1948
في هذا التاريخ ما يمكن العودة له عربيا وعالميا للاستناد للمحاججة السياسية والدبلوماسية والقانونية التي تسقط من أمامها الترهات الدينية الصهيونية سواء تلك الاسرائيلية أو المرتبطة بالصهيونية المسيحية
الرئيس بمحاججته التاريخية السياسية يقتل الدعاية الامريكية المتصهينة في ظل الادارة الجديدة التي أشار لعمق تعاونها مع الحركة الصهيونية منذ إعلان بلفور وليس منذ الامس فقط
إن في رسائل خطاب الاخ ابومازن للأمريكان دلالة على ان القيادة الفلسطينية ستختط طريقا بعيدا عن الرعاية الاحادية الامريكية لعملية السلام، وضمن النموذج الغربي في التعامل مع الايراني ضمن هيئة دولية كمثال، وفي ظل أن القيادة الفلسطينية لا ترى غير التسوية والمقاومة السلمية سبيلا وحيدا للحل
من هنا، فالمراهنون على دعم الأمة أوالاقليم المأزوم من أي محور كان خاب رجاؤهم، وسيقفون صامتين عند حدود شعاراتهم.
المعارضون من الخارج تساوقوا مع طروحات الرئيس الى الدرجة التي بدأوا فيها يطالبون المجلس المركزي بمطالب سياسية محددة، بعيدا عن فكرة التخلي عن المنهج السياسي القائم.
ان الرئيس ابومازن بخطابه الثري بالمفردات التاريخية والقانونية وبمعطيات العدالة والحق، التي هي قادرة على جلب أكبر ائتلاف واسع اقليمي وعالمي هي مفردات خطاب استشف حالة الانعدام العربي من التأثير بالمحيط، وعدم قدرة الحائط الذي نستند عليه من الفعل الى الدرجة التي طرح فيها الرئيس بتوصياته ما يستطيع فعله، لا ما يتمنى فعله، كما الحال في شعارات التنظيمات ذات اليمين وذات اليسار.
ان المنهج العقلاني العملاني الفلسطيني الحالي، والذي يراه البعض متهاونا، قد ينسبه البعض لعجز القيادات أو شيخوختها البادية بل والطاغية ما يعني حاجتنا الأكيدة للتغيير بالشخوص وتجديد الدماء والأطر والبرامج والاستراتيجية بل وآليات اتخاذ القرار ليكون ديمقراطيا تشاركيا، لا منزّلا من سماء عليّة.
ان حقيقة السقف الفلسطيني الذي يراه البعض واطئا يأتي بسبب الادراك لحقيقة المتغيرات المزلزلة بالمحيط، ولتفتت المكونات الخارجية الداعمة، من جهة ولضعف الحراك الداخلي الاصلاحي ذاته فلسطينيا الذي لم يستطع الثورة على إنعدام فعالية أطره ومؤسساته، اواستخدامها وتوظيفها فقط، وثالثا لتعملق الانخراط المحوري الاقليمي في جسد التنظيمات التي بدأت تقف مستسلمة عند حدود تحالفاتها الخارجية فلا يقام لها وزنا.
أن الكثير من القوى السياسية بدأت تنظر لحقيقة الصراع من منظور عملاني (براغماتي) مرتبط بالفكرة والحق والعدل من جهة، ومتمسكين بأنفسنا وقوتنا الداخلية، وكما ردد الرئيس أننا المرابطون الصابرون المصابرون، ما يعني أن القيادة الفلسطينية قد خلعت نفسها من السير في مسار الانبطاح العربي الكامل للأمريكان، ولكنها لم تجد الا في تفعيل الصراع الصعب أسلوبا أوحدا.
في ظل الحقائق التي تم طرحها في الخطاب، وفي ظل النغمة المتصاعدة له ضد الحلف الامريكي الاسرائيلي، ومع الوعي الكامل بالتراخي العربي والاقليمي، فإن بصيص الامل الوحيد هوبالاصلاح المؤسسي الداخلي وبوحدة وبتضامن الفلسطينيين ورسوخهم بأرضهم، ما لم يظهر بالاجتماع ال28 للمجلس المركزي نتيجة مقاطعة حماس والجهاد، ونتيجة التراكم والصدأ، ونتيجة البياض الذي غطى على رؤوس معظم الجالسين ساكنين، والذين لا نتمنى أن نراهم يتلقون التعليمات دون رفع الحواجب، أكثر من أن يطرحوا جديد الأفكار التي ليس من المتوقع أن نجد لها وجود أوصدى في الاجتماع.