أقلام وأراء

خالد عكاشة: المصير الغائم لمعادلة الأمن الإقليمي (3)

خالد عكاشة 22-12-2024: المصير الغائم لمعادلة الأمن الإقليمي (3)

خالد عكاشة: المصير الغائم لمعادلة الأمن الإقليمي (2)

من جديد جرى إعادة الحياة لمهام “جير بيدرسون” المبعوث الأممي الخاص بسوريا، وكان لافتا بالتأكيد ظهوره في دمشق بهذا التبكير الزمني المقصود، فهناك رغبة متوافق عليها إلى حد كبير من أطراف عدة، أن السبيل لمحاصرة تداعيات المشهد الراهن ممكن باستخدام الإطار الأممي. الولايات المتحدة بالتأكيد كانت وراء تحريك هذا المسار لتحقيق عدة أهداف، تمكنها من وجهة نظرها استعادة الإمساك بما تبقى من معادلة التوازن الإقليمي، عبر ضبط إيقاع تلك التوازنات على صعيد الدولة السورية التي لم تستقر منذ عقد ويزيد.

الثابت أن الأهداف الأمريكية السابقة على ما جرى من تغيير، عبر اسقاط النظام السوري، أنها تتوافق وتدعم التوجه الإسرائيلي بتحطيم التمدد الإيراني وقد مثلت دمشق الأسد أحد أبرز هذه الساحات، المطلوب العمل عليها بما يمكن أن يقتلع التواجد الإيراني منها. في تصريح حديث من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ تعليقا على ما جرى في سوريا، تحدث بأن روسيا تمكنت من إجلاء (4000 مقاتل) إيراني من “قاعدة حميم” وإعادتهم إلى طهران، بعدما تأكد لموسكو أن المشهد الميداني قد حسم بالفعل. هذه القوات كانت مكلفة بحماية العاصمة دمشق ومحيطها، وهناك بعض من المجموعات المسلحة تقارب هذا العدد أو تزيد قليلا، كانت تتمركز في شمال حمص جرى افساح الطريق أمامها من أجل الفرار عبر الحدود العراقية، وقد استخدمت القوات الأمريكية المتواجدة بالشمال السوري الغربي لتنفيذ ذلك، قوات حماية الشعب الكردية لإتمام عملية الازاحة، عبر الاخطار وافساح المجال وتدخلت بنفسها في بعض مشاهد هذا الرحيل بالقصف الجوي للمنطقة الحدودية، عندما وقعت بعض المشاغبات على جانبي الحدود السورية العراقية.  

لن يتكشف قريبا، مدى السماح الذي أعطته واشنطن لتركيا من أجل تنفيذ عملية الإطاحة بنظام بشار الأسد، لكنه يكفي أنه بات اليوم مؤكدا، ليس لاستخدام القوات الموالية لأنقرة في تنفيذ هذا التحرك فحسب، بل لتزامنه مع جاهزية قوات الجيش الإسرائيلي في تنفيذ عملية عسكرية واسعة بدأت في الجولان ومحيطها، وتمددت بدقة لتحتل مساحات محددة من الأراضي السورية. لكن الأخطر بالتأكيد والأهم هو تحطيم قدرات الجيش السوري التسليحية بالكامل، وهذا نوع من الأهداف الكبرى التي لا يتصور أنه جرى تنفيذه عشوائيا أو على عجل كردة فعل للمتغيرات، كما حاولت إسرائيل أن تدعي إعلاميا خشيتها من سقوط هذا السلاح في أيادي التنظيمات التي سيطرت على دمشق. هذه معادلة توازن بالضرورة يجري التوافق المسبق بشأنها، ولا يسمح للأخطاء أن تجد طريقا لها أو أن يقع ارتباك هنا أو هناك، والقادرة على تحقيق هذا التنسيق الدقيق بين المهام التركية والأخرى الإسرائيلية، هي الولايات المتحدة وحدها لتضمن أن تصل إلى النتائج المرجوة دون خطأ واحد، وصرامة التنفيذ للوصول لهدف اقتلاع النظام السوري وإخراج الجيش السوري من المعادلة تماما، هو ما يؤكد أن هناك مدى ما جرى التوافق بشأنه وإن ظلت مساحته خافية حتى الآن.

في احدى اللحظات الحاسمة؛ ما بين 27 نوفمبر تاريخ انطلاق “هيئة تحرير الشام” في تنفيذها لعملية الاستيلاء على المحافظات السورية الواحدة تلو الأخرى، وبين تاريخ 8 ديسمبر عندما دخلت دمشق، أبلغت تركيا كلا من روسيا وإيران بضرورة تجنب التدخل العسكري لحماية النظام السوري، لأنها ستضطر حينها للتدخل بكامل قواتها في الأراضي السورية. المؤكد أن أنقرة لم يكن لها جندي واحد على الأرض في هذه العملية، لهذا استقبل تحذيرها بالجدية اللازمة من كلاهما، ويبدو أنهما توافقا على الأقل في تقييمهما للوضع الميداني بعد الانسحابات المبرمجة لوحدات الجيش السوري. فلاديمير بوتين كشف أيضا في لهجة لا تخلو من دهشة، أن هناك 30 ألف جندي كانوا مكلفين بحماية حلب لكنهم انسحبوا عندما وصل 350 مسلح، وهذا تكرر في المحافظات السورية تباعا وصولا إلى العاصمة دمشق. إيران بعد التحذير التركي تفرغت لسحب المليشيات التابعة لها بسرعة إلى العراق ولبنان، بل واضطرت إلى طلب المساعدة من روسيا في بعض المواقف المعقدة من هذا الأمر، وقد ساعدت روسيا وفق حساباتها الكلية في تقليل حجم الخسائر التي باتت تتزايد كل ساعة.

لكن موسكو في الوقت ذاته؛ لها تقديراتها ومصالحها الخاصة التي جعلتها تتجاهل التحذير التركي ولكن وفق حساب دقيق، حيث قامت عبر قواتها بقاعدة حميميم بتنفيذ طلعات جوية قصفت خلالها بعض النقاط في حلب وحماة، بغرض اكتساب مزيد من الوقت لاتمام انسحاب منسق، بدا أنه مفهوم ومسموح به من الجانب الأمريكي باعتباره يحقق الأهداف الكلية دون الدخول مع روسيا في تعقيدات إضافية لا محل لها. لكن روسيا بالتأكيد لم تكتب كلمة النهاية لمصالحها، ولا لتواجدها بالملف السوري مستقبلا حتى وإن تقلص هذا التواجد بقدر، ستصارع بشراسة على موائد الدبلوماسية وفي الغرف المغلقة على أن تجعل هذا القدر، يسمح لها بالحضور واستمرار الحفاظ على عوائدها الاستراتيجية التي لن تتخلى عنها بسهولة للطرف التركي. هناك ادراك روسي بالتأكيد أن أبرز تداعيات ما جرى، سيتمثل في انهاء “مسار آستانا” الذي تولى البحث وإدارة المستقبل السوري طوال سنوات مضت، وكان يجري بقيادة روسية على حساب الإطار الأممي وكانت لموسكو فيه الكلمة العليا، بمواجهة كلا من تركيا وإيران. لهذا جاء الدفع الأمريكي من اللحظة الأولى بتقدم المسار الأممي، واستعادة الإمساك بعصا القيادة مع عدد من شركاءها لبداية فصل جديد، تحصد من خلاله عوائد تلك العملية المنسقة رغم ما بدأ يطل برأسه من تحديات واشكاليات، لن تجعل المستقبل بالسهولة التي تتوقعها وإن بدا عليها أنها ليست في عجلة من أمرها. في إحاطة لمجلس الأمن خلال جلسة خاصة بسوريا بعد عودته من دمشق، أقر “جير بيدرسون” بأنه لم تعد هناك إمكانية حقيقية لتطبيق (القرار 2245) بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد. بل وأن هناك “اتفاقا واسع النطاق على أن القرار 2254 لا يمكن تطبيقه في ظل الظروف الجديدة”. موضحا أن القرار حدد طرفين أحدهما أطيح به، ولا يمكنه المشاركة في العملية السياسية، وهذه صيغة تفتح الباب أمام صيغة جديدة تماما في الموضوع والأطراف أيضا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى