خالد عكاشة: العقيدة النووية الروسية
كعادة الرئيس الروسى بوتين، خرج الخميس الماضى على التليفزيون الروسى ليلقى بخطاب تحذيرى، كلماته مباشرة ورسائله أكثر وضوحا. حذر فيه الدول التى تزود أوكرانيا بالسلاح، من أن موسكو لا تستبعد ضرب تلك الدول, ذلك بعدما ضربت أوكرانيا العمق الروسى مستخدمة صواريخ أمريكية وبريطانية. كلمات بوتين المباشرة وصفت المشهد الراهن، بأن «الصراع بدأ يأخذ طابعا عالميا»، مما يستتبع من وجهة النظر الروسية أن لديهم الحق فى استخدام سلاحهم ضد المنشآت العسكرية العائدة إلى دول تجيز استخدام أسلحتها ضد منشآتهم، و«فى حال تصاعد الأفعال العدوانية سنرد بقوة موازية». هذه بعض من كلمات بوتين، بألفاظها ومدلولاتها التى لا تخفى على أحد، وهكذا قصد. فى وقت سابق على هذا الخطاب، وكى يجعله رسالة تحذيرية متكاملة، قامت روسيا بشن هجوم نوعى على أوكرانيا، عندما قصفت المجمع الصناعى العسكرى الأوكرانى بمدينة «دينيبرو بيتروفسك» لأول مرة، بصاروخ باليستى عابر للقارات (ICBM) طراز «RS-26 Rubezh» محمل بـ 6 رءوس تقليدية غير نووية، هذه الرءوس ذات قدرة تفجيرية عالية.
أدى الهجوم الصاروخى إلى تدمير المجمع، وتسبب فى انقطاع الكهرباء عن العاصمة كييف وثلاث مدن كبرى فى أوكرانيا التى أقرت بأن المجمع الصناعى قد تم تدميره بشكل كامل. الصاروخ الباليستى «RS-26 Rubezh» يمثل أحد أبرز مكونات الترسانة الصاروخية الروسية الذى يتم استخدامه للمرة الأولى فى الحرب، وهو صاروخ باليستى إستراتيجى قادر على حمل رءوس نووية وتقليدية، يزن نحو 50 طنا وتبلغ سرعته 21 ماخًا، أى ضعف سرعة الصوت 21 مرة تقريبا، فيما يبلغ مداه الفعال من 5000 إلى 6000 كيلومتر، لذلك استغرقت رحلة الصاروخ منذ إطلاقه من شرق روسيا حتى وصوله إلى ضواحى كييف نحو خمس دقائق فقط. ويفترض أن هذا أحد الصواريخ الممنوع استخدامها حسب اتفاقية قد تم توقيعها بين روسيا والولايات المتحدة للحد من انتشار الصواريخ الباليستية، لكن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاقية سنة 2019. أعلنت روسيا أنها سوف توجه تحذيرات مسبقة، فى حال قامت بشن مزيد من الهجمات باستخدام مثل هذه الصواريخ ضد أوكرانيا، كى تتيح للمدنيين الإجلاء إلى أماكن آمنة. خاصة بعد تأكيدها أن أنظمة الدفاع الجوى الأمريكية؛ لن تكون قادرة على اعتراض هذا الجيل من الصواريخ الروسية. وقد أقرت وزارة الدفاع الأوكرانية بأن الدفاعات الجوية لم تستطع إسقاط الصاروخ، بل إنها لم ترصده على راداراتها من الأساس. وألحقت هذا الإقرار بخشيتها ألا يوجد حتى الآن نظام دفاعى، يستطيع رصد هذا النوع من الصواريخ أو اعتراضها، وهو ما يستدعى شعوراً بقلق كبير لجميع أعضاء حلف الناتو. الذى تسبب فى حدوث تلك النقلة التصعيدية الروسية، بشكل مباشر أخيرا هو الهجوم الذى استخدمت أوكرانيا فيه قبل أيام صواريخ «أتاكامز» الأمريكية التى يبلغ مداها 300 كيلومتر، لأول مرة ضد منشأة عسكرية فى منطقة «بريانسك» الروسية بعد حصولها على إذن واشنطن. كما تمكنت أنظمة الدفاع الجوى الروسية،
من إسقاط صاروخين من طراز «ستورم شادو» البريطانية و6 صواريخ أمريكية من طراز «هيمارس»، كانت قد أطلقت مستهدفة العمق الروسى، فضلا عن 67 طائرة مسيرة تحمل علامة مصانع سلاح تخدم الناتو. أعلنت روسيا قبل أيام قليلة من هذا السجال الصاروخى المتقدم، تعزيز عقيدتها النووية الجديدة بشأن استخدام الأسلحة النووية، وهى عقيدة اكتسبت صفة الرسمية الثلاثاء الماضي. وهى تمكن روسيا من استخدامها وتفعيلها فى حال تعرضت لهجوم ضخم وفق تقديرها، من قبل دولة غير نووية ولكن مدعومة بقوة نووية، وهى إشارة واضحة إلى أوكرانيا ومن خلفها الولايات المتحدة ودول حلف الناتو النووية. شبكة أبحاث الجغرافيا السياسية الجديدة الروسية؛ اعتبرت فى تعليقها على ما جرى، أن روسيا باستخدامها هذا الصاروخ لأول مرة فإنها تنقل الحرب لمستوى جديد تماما، وترسل رسالة محملة على صاروخ مصمم لحمل الرءوس النووية لكل قادة أوروبا، مفادها أن روسيا ستستخدم هذه الصواريخ من الآن فصاعدا، وفى كل مكان.
وأن جميع بلدانهم وقارتهم كلها باتت تحت رحمة الصواريخ الإستراتيجية الروسية، سواء تلك المحملة برءوس تقليدية أو نووية. ففى روسيا يسود اليوم اعتقاد واسع بأنه يجب على قادة أوروبا أن يراجعوا حساباتهم جيدا، فإذا تمادت أوكرانيا مجددا وقصفت المدن الروسية بالأسلحة الغربية، فسيتم استبدال رءوس نووية فى أى لحظة بتك الصواريخ مباشرة، حينها الهجوم الروسى سيكون أقوى وأكثر تدميرا، وبشكل شامل لا يتوقعه أحد. بحسب هذا المشهد وتداعياته؛ يمكن القول إن الحرب الروسية الأوكرانية قد دخلت فعليا مرحلة بالغة الخطورة من التصعيد، فما حصلت عليه أوكرانيا من سلاح أمريكى وبريطانى وفرنسى جرى استخدامه فى العمق الروسى، استتبع تعديلا فوريا للعقيدة النووية الروسية بما يسمح لها باستخدام ترسانتها النووية ردا على أى هجوم كبير بأسلحة تقليدية. أحد الخبراء العسكريين الأمريكيين فى مؤسسة «أولويات الدفاع» أبدى دهشة بالغة، عندما ذكر أنه من غير الواضح السبب الذى دفع الرئيس جو بايدن فى هذه المرحلة المتأخرة من الحرب، وفى اللحظات الأخيرة من رئاسته، للقيام بإجراء يحمل فى طياته مخاطر تصعيد الحرب بشكل كبير. فمن الواضح من وجهة نظر الخبير الأمريكى أن هذا القرار يمثل خطرا كبيرا وغير ضرورى على الولايات المتحدة، فى حين يزيد احتمالات هزيمة أوكرانيا، وليس العكس. وهو فى هذا التحذير يشير بشكل واضح لمفهوم التوازن، ويعرب عن خشيته من خروج الفعل الروسى عن المربع التقليدى إلى فضاءات واسعة تمتلك فيها موسكو ما يدعو إلى انزعاج الغرب وقلقه الشديد بالمناسبة.