خالد عكاشة: أسباب عديدة للقلق فى مخيم جنين

قبل ثلاثة أسابيع؛ أطلقت السلطة الفلسطينية عملية أمنية سمتها «حماية الوطن» بحق مخيم جنين بشمال الضفة الغربية، أسفرت فى مشاهدها الأولى عن مقتل «يزيد جعايصة» القيادى فى كتيبة جنين التابعة لـ «سرايا القدس» الجناح العسكرى لحركة الجهاد الإسلامي. لكن العملية بالتعقيدات الكبيرة لمستهدفاتها، سرعان ما خلفت نحو 8 قتلى أربعة من صفوف قوات الأمن الفلسطيني، ومثلهم من عناصر كتيبة جنين أو من أهالى المخيم أو كليهما معا بحسب عدم القدرة على التأكد بالطبع.
منطق السلطة الفلسطينية فى هذه العملية الأمنية، عبرت عنه من خلال الناطق باسم الأجهزة الأمنية للسلطة العميد أنور رجب، أنها تعمل على إنهاء ما سمته حالة «الفوضى والفلتان الأمني» فى مخيم جنين. فى مقابل تقدير مخالف لكل من حركة حماس والجهاد الإسلامى والجبهة الشعبية، الذين يرون أن أجهزة الأمن الفلسطينية تقوم بملاحقة المقاومين فى مدينة جنين ومخيمها، وتفرض حصارا غير مبرر على المخيم بالخصوص من جميع الاتجاهات، وتستخدم القوة العدوانية بشكل مفرط لحد اللجوء لأسلحة جديدة مثل قذائف (الآر بى جي) فى استهداف المنازل عشوائيا. وبالتأكيد لم يخل تصريح واحد لقادة هذه الفصائل الفلسطينية؛ من الإعلان عن الصمود على الأرض وعدم الانحراف عن خيار مقاومة المحتل الإسرائيلي، وأضافت «كتيبة جنين» بعد أسابيع من المطاردات والقتال أنها لن تسمح لأى جهة بانتزاع سلاحها، مهما قدمت من تضحيات بدأت تسقط بالفعل على ذات الأرض. عدد كبير من الوسطاء المحليين تقدموا خلال الأسابيع الماضية، لمحاولة نزع فتيل الأزمة وتهدئة الصدام غير المبرر من حيث التوقيت من وجهة نظرهم، أبرزهم شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية التى تضم 135 منظمة غير حكومية بالضفة وغزة، حيث دعت إلى اعتماد الحوار طريقا لمعالجة أزمة جنين، مؤكدة استعدادها للعب دور فى نزع فتيل التوتر. خاصة بعد تنامى حالة التوتر فى مدينة جنين ومخيمها، حيث يعيش سكان هذه المنطقة الذين يعانون بالأساس تضييق الاحتلال الإسرائيلي.
يمكن رصد بداية أحداث مخيم جنين، حين قامت أجهزة السلطة بإلقاء القبض على القياديين إبراهيم طوباسى وعماد أبو الهيجا فى أوائل الشهر الحالي، مما أثار غضب «كتيبة جنين» التى احتجزت فى المقابل سيارات تابعة للسلطة كرهينة للمطالبة بالإفراج عنهما. قوى الأمن الفلسطينى من جانبها نفت عن نفسها تهمة تعمد ضرب إمكانات الفصيل الفلسطينى المقاوم وحده، فضلا عن الاستهداف المكانى الذى أثار جدلا كبيرا، باعتبار مخيم جنين يتعرض لمداهمات واعتقالات من قوى الاحتلال الإسرائيلى المختلفة على مدى 4 سنوات مضت، لم تتوقف أو تهدأ وتيرته حتى فى العام الحالى ذروة الحرب المفتوحة على قطاع غزة. فالأمن الفلسطينى يرى أن دوره بالغ الأهمية فى تلك المرحلة الدقيقة؛ خاصة أنه يواجه «خارجين عن القانون» من مجموعات ثبت بحقها، انتهاك للنظام العام الفلسطينى وللإجماع الوطنى الذى يحرم رفع السلاح بين الفلسطينيين، واستخدام الرصاص كلغة للتفاهم بين الأطياف والتيارات الفلسطينية المختلفة. فهذه القوى الأمنية لديها وقائع ثابتة فى ملفاتها تحمل ممارسة المجموعات الموجودة فى مخيم جنين، لعدد من وقائع التعدى على المواطنين الفلسطينيين والمؤسسات العامة، حتى بلغ الأمر مرات بقيامها بسرقة سيارات تتبع مؤسسات حكومية فلسطينية. والثابت أيضا أن تلك المجموعات روعت الآمنين فى هذه المنطقة وتطلق النار داخل التجمعات السكانية، إضافة لمهاجمتها المواقع الأمنية الفلسطينية، باستهداف المؤسسات والمركبات الأمنية، فضلا عن هجمات جرت بحق مبنى المقاطعة المقر الرئيسى للمؤسسة الأمنية.
منطق السلطة الفلسطينية مفهوم ومقدر بالتأكيد، لكن مكمن الخطورة التى تلف مجمل المشهد المعبر عن أزمة حقيقية مركبة، أن نفاد صبر الأجهزة الأمنية فى تلك المرحلة الدقيقة وتخليها عن آلية الحوار والاحتضان، والانتقال لمنطق الصدام، سيولد إشكالية كبيرة لا يحمد عقباها ولا يمكن توقع نتائجها. فهناك حديث داخلى فلسطينى لم يبدأ جراء تلك الجولة من الخلافات الداخلية العنيفة، إنما هو معبر بشكل واضح عن فجوة عميقة بين تيارين فلسطينيين لم يصنع بينهما جسر بعد. هناك طرف يرى أنهم ينفذون باستخدام السلاح عمليات بطولية ضد الاحتلال، فى مقابل طرف آخر لا يرى تأثيرا لهم فى مواجهة الاحتلال، أو التخفيف من آثاره، مقابل الأثمان التى تدفع فلسطينيا عبر الشعب الفلسطينى وحده كالحصار والتضييق الاقتصادى والإجراءات الإسرائيلية وغيرها. الطرف الأول الفصائلى يرفض بالضرورة اعتبار السلاح الفلسطينى الموجه للاحتلال خارجا عن القانون، لأن الشعب الفلسطينى مازال فى مرحلة التحرر الوطني، ويرى أن اطلاق صفة «الخروج عن القانون» هى الذريعة التى تسهل ملاحقته، وممارسة تضيق إضافى على نشاطه وتحركاته التى لا يؤمن بغيرها. فى حين يظل الطرف الثاني؛ أمام اختبار ممتد لقدرته على ضبط الأوضاع الأمنية لدى مجتمع الشعب الفلسطينى فى المدن والمخيمات، فضلا عن تعاطيه المحدود «مساحات حركة ضيقة وخانقة للغاية» مع محيطه الإقليمى والدولي. فالسلطة أمام تلك الأطراف التى تراها من وجهة نظرها بالغة الأهمية، لصناعة وتدعيم «مشهد فلسطيني» لديه الحد الأدنى من التماسك أمام تغول الاحتلال الإسرائيلي. هذه الفجوة بين الطرفين لم تحل منذ عقود، ويبدو أنها بعد كل ما جرى فى قطاع غزة مازالت قائمة، ولم يتمكن العقل الجمعى الفلسطينى من إيجاد المخارج الملائمة لها رغم خطورة القادم بالنسبة لتلك الفجوة، التى ستواجه بأسئلة مصيرية دون شك.
السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية، باتت أقرب فى المخطط الإسرائيلى العام من كونها شبحا ظل يطارد السلطة الفلسطينية بين الحين والآخر سابقا. والبيئة الإقليمية لم تشهد تهديدا بحجم ما تشهده اليوم، مما يدفع إلى إجراء قياسات فلسطينية دقيقة من كل الأطراف وليست السلطة وحدها، وإن ظل هذا العبء الوطنى الفادح ملقى على عاتقها، لحين إشعار آخر.
العقل الجمعى الفلسطينى اليوم مطالب بأقصى درجات القدرة على التبصر واختيار مواضع قدميه وتحركاتها، فالمعادلات والتفسيرات بحاجة لاتزان كبير ومراهنة على أداء يتجاوب مع زلزال التبدلات التى لم تترك شيئا لحاله.