أقلام وأراء

خالد الحروب : الدين والحداثة السياسية صهيونيا وفلسطينياً

خالد الحروب –  كاتب وأكاديمي فلسطيني – 3/7/2018

ثمة تباين كبير في موقع الدين والحداثة السياسية في سيرورة وتكوين وتحفيز الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينة، رغم ما قد يتبدى من تشابه ظاهري بين الحالتين، وهو تباين ظل مستمراً رغم انه شهد تحولات مختلفة. واساس هذا التباين كما تقدمه هذه السطور هو التالي: ادعت الحركة الصهيونية الإنتساب إلى الحداثة السياسية والافكار القومية الحديثة والعلمانية بما فيها الليبرالية والديموقراطية، لكنها في الجوهر اعتمدت الدين والاساطير الدينية كمحرك اساسي لها، واستندت إليه كمسوغ مركزي في إدعاء حق إقامة دولة على ارض فلسطين، وكأداة تعبئة لإقناع يهود العالم بالهجرة إليها.

اما الوطنية الفلسطينية ورغم نشوئها في سياق تقليدي محافظ واميل إلى التدين الاجتماعي فقد اعتمدت على الحداثة السياسية في تشكلها ومأسستها ونزوعها نحو تأكيد هوية قائمة على الرابطة الوطنية، هدفها بناء كيانية فلسطينية، وفي خضم هذا الجهد اختلف استخدامها للدين عن استخدامه من قبل الصهيونية في مستويين: مستوى مركزية الدين في المشروع الوطني ومستوى الوظيفة المُناطة به (اي بالدين).

وفي الوقت الذي احتلت فيه الإدعاءات الدينية مركز المشروع الصهيوني خاصة في مسألة إدعاء ملكية فلسطين، فإن الدين والادعاءات الدينية لم تحتل في الوطنية الفلسطينية نفس تلك المركزية في إثبات ملكية فلسطين.

أُعتبرت تلك الملكية، من وجهة نظر فلسطينية، تحصيل حاصل ولم يكن ثمة حاجة للذهاب إلى الماضي السحيق او استخدام الدين لإثباتها.

اما على مستوى الوظيفة، فقد اشتغل الدين في الحركة الصهيونية بشكل مركزي لإثبات الاحقية التاريخية بالارض وتخليق قومية حديثة ومن ثم اقامة الدولة.

أما في الوطنية الفلسطينية فقد تمحورت وظيفة الدين حول استخدامه في الحشد والتعبئة والمقاومة بشكل أساسي.

وفي العقود السبعة التي تلت قيام “إسرائيل” تضخمت مركزية الدين في المشروع الصهيوني وفي الدولة العبرية نفسها، ودخلت الصهيونية السياسية في مسار تدين متصاعد خاصة بعد حرب 1967 وبقي هذا المسار متواصلا إلى يومنا هذا، وتم ابتلاعها بشكل شبه كامل من قبل الصهيونية الدينية.

في المقابل، ترسخ في الحركة الفلسطينية مفهوم الوطنية بكونها البوتقة القومية المُشكلة للهوية، وضمن ذلك الترسخ شهدنا تحول التيارات الدينية السياسية الفلسطينية التدريجي نحو تبني الوطنية الفلسطينية وطموحها بإقامة دولة فلسطينية، مع الإبقاء على الوظيفة المقاومية للدين.

والتحول التدريجي الذي شهده اكبر تيار سياسي فلسطيني ديني متمثل في حماس يقدم الشاهد الأبرز على هذه السيرورة.

وهكذا، فإن الصهيونية ودولتها سارت في اتجاه متسارع نحو اصولية دينية بعيدة عن الحداثة السياسية، بينما اتجهت الوطنية الفلسطينية نحو مسار قومي وطني اقرب إلى الحداثة السياسية.

ابتداءً من المهم الإشارة إلى أن هذه المقاربة لا تتبنى اية معيارية مُستبطنة تعتبر ان الحداثة عموما او الحداثة السياسة على وجه التحديد (سواء أكانتا مشروعات مركبة وثابتة، أم سيرورات متغيرة) تمثلان النظام القيمي الأرقى مرتبة بين النظم السياسية والاجتماعية المختلفة التي ينبني عليها قياس وتقييم النظم القيمية الاخرى.

وعليه فإن المقارنة بين افضلية الحداثة ام الدين في السياسة ليس هدف هذا النقاش. لكن المهم هنا هو محاكمة المشروع الصهيوني ومؤيديه الاوروبيين والامريكيين عبر استخدام المعيارية الحداثية المُتبناة من قبل هذه الاطراف جميعا والتي تزعم الصهيونية ومؤيدوها في الغرب امتلاكها والتصرف وفقا لها.

فإبان ظهور بدايات الصهيونية في اواخر القرن التاسع عشر، اعتبرت اوروبا ان تبني الحداثة عموما والحداثة السياسية خصوصا من قبل الحركات او المجتمعات يمثل امتداداً للمشروع الغربي وبالتالي يستدعي الدعم والتأييد الفوري.

وفي المقابل فإن النظرة الاوروبية ذاتها اعتبرت الحركات والشعوب والافراد الذين لا يتبنون الحداثة او “لا زالوا” خارج نظامها بعيدين من القيم الاوروبية والحضارية، وبالتالي لا يستحقون ذات الدعم والتأييد الذي استحقه الاولون. على ذلك اعتبرت النظرة الاروبية في عمومها الصهيونية حركة حداثية تقوم على المبادىء الحديثة للقومية والعلم والتقدم، بينما نُظر للعرب عموما والفلسطينين منهم بكونهم جزءاً من الشعوب المتخلفة الغارقة في الأنظمة الماضوية والتقليد والدين.

وقد انعكست تلك النظرة الاوروبية العنصرية خلال النصف الاول من القرن العشرين في سياسات الدول الكبرى تجاه فلسطين (والعرب على والعالم غير الغربي اجمالاً)، وتجسدت في السياسة الخارجية البريطانية والفرنسية والروسية والالمانية.

وفيما تباينت هذه السياسات فيما بينها حول المصالح والاهداف والحصص في فلسطين وحولها، فإنها انطلقت جميعا من قاعدة عنصرية مشتركة كانت تحتقر عرب فلسطين وتراهم اقل مرتبة واهلية من اليهود الاوروبيين في فلسطين، ولا تلقي لهم بالا.

تمثل ذلك بوضوح في اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916، ووعد بلفور بعدها بعام، وخلال مراسلات حسين مكماهون في نفس الفترة ايضا.

اللورد بلفور لم يخف نظرته العنصرية والدينية (المناقضة لإدعاءات الحداثة السياسية التي يزعم تمثيلها) عندما تحدث عن اهل البلاد الاصليين في فلسطين، فقال مبررا دعم المشروع الصهيوني في فلسطين: “في فلسطين لا نقترح حتى الاهتمام برغبات قاطني البلاد الحاليين. القوى الاربعة العظمى مُلتزمة بالصهيونية. (و) الصهيونية، سواء أكانت مصيبة ام خاطئة، جيدة ام سيئة، متجذرة في الإرث القديم للماضي الطويل، ومتجذرة في ضرورات الحاضر، ومتجذرة في آمال المستقبل، وهو ما يفوق بأهميته رغبات وتوقعات السبعمائة الف عربي الذين يقطنون تلك الارض القديمة”.

ولم تكن رؤية بلفور خاصة به شكلت قناعة النخبة السياسية البريطانية إزاء فسطين والصهيونية قبل وخلال حقبة الانتداب البريطاني، سواء من اليمين او اليسار.

وربما يمكن القول ان احد ذرى تلك الرؤية العنصرية الحداثوية تمثلت في تصريح ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني سنة 1937 الذي يشرعن فيه ممارسات الاستعمار في إبادة وطرد السكان الاصليين، حيث يقول: “انا لا أقر ان الكلب الذي يقيم في بيته (بيت الكلب) له الحق النهائي في ذلك البيت، حتى لو كان يعيش فيه لزمن طويل. انا لا أقر، على سبيل المثال، بأنه خطأً كبيراً قد وقع على الهنود الحمر في امريكا، او على الشعب الاسود في استراليا. لا اعتقد انه كان للهنود الحمر للقول بأن “القارة الامريكية تعود لنا وأننا لن نقبل بقدوم المستعمرين الاوروبيين”. لم يملكوا ذلك الحق ولا القوة. لا أقر بأي خطأ وقع في حق هذه الشعوب بسبب حقيقة ان جنسا أقوى، وان جنساً ارقى منهم، او على أي تقدير ان جنساً اكثر حكمة في معرفة العالم … جاء واخذ مكانهم.”

في هذا النص الكاشف عن تجذر العقلية العنصرية الاوروبية ضد “الآخر” هناك افتراض بدهي يعتبر اليهود القادمين من اوروبا جزءاً من مشروعها “الحداثي” وبكونهم ينتمون إلى “جنس أرقى” و”أكثر حكمة”.

بدورها، تمثلت الصهيونية فكرة تمثيل “الحضارة الغربية” في الشرق المُتخلف واستبطنتها، وقدمت ذاتها بكونها تجسيدا للمشروع الحداثوي الغربي. لكن على الضد من هذه الحداثوية الإدعائية، فإن الصهيونية استندت في الجوهر إلى أركان ودعاوى رجعية دينية وغير حداثية بهدف “إثبات” حق اليهود في إقامة دولة في فلسطين.

ولم تستطع ترجمة “القومية الحديثة” كما تفترضها الحداثة السياسية الغربية التي زعمت الإنتماء إليها، وهي الفكرة التي تفترض ان الدولة القومية تقوم على ركائز متوراثة ثلاث: الارض المشتركة، والشعب المُتجانس، واللغة المشتركة. لم يمتلك يهود القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين اياً من هذه الركائز الثلاث، وكان على الصهيونية ان تشتغل على تخليقها ولو قسراً.

فمن ناحية الارض المشتركة لم يعش اليهود على ارض واحدة متوارثة كما هو معروف، كما ان اللغة كانت التجمعات اليهودية في البلدان الاوروبية تتحدث لغات تلك البلدان، وبعضها يتحدث اليديشية القديمة او العبرية، ومن ناحية التجانس القومي كان هناك انتفاء كامل لهذه السمة بسبب قرون من العيش في مجتمعات مختلفة كما هو حال اتباع اي دين يعيشون في بلاد متباينة من العالم.

وبسبب هذا التشتت “الحداثوي” في بناء “قومية حديثة” على الطراز الاوروبي عمدت الصهيونية إلى اعادة تعريف اليهود والدين اليهودي على أنهم “شعب” وليسوا فقط اتباع دين، وهو التعريف الذي صارت اوروبا “الحديثة والإستنارية” تتبناه وعلى اساسه تدعم المشروع الصهيوني. ثم أُستتبع ذلك بفكرة هجرة اليهود إلى “الأرض الموعودة” وهي فكرة خليط بين الاساطير الدينية والبراغماتية السياسية التي تهدف إلى التعبئة والحشد.

بيد ان استخدام الصهيونية للدين وبشكل جوهري لم يتوقف عند مسألة تحويره إلى قومية مُختلقة ومتخيلة ليهود العالم مُضافاً إليها الإدعاء التوراتي بأحقية إمتلاك فلسطين، بل تعداه إلى مسائل اخرى لا تقل اهمية.

اولها توفير التبرير المُقدس لإبادة اهل الارض الاصليين وطردهم عبر توظيف مقولات دينية دائماً. وهنا اشتغلت الفكرة اليهودية الدينية بفعالية إقصائية قصوى لتنفي وجود شعب “آخر” في فلسطين، وفي حال وجود أي “اغيار” فإن إخراجهم منها يصبح فريضة دينية، لأنها ارض منحت من الرب ل “نسل إبراهيم” الذين تم حصرهم في سلالة اسحق.

لكن وإزاء الحقيقة الواقعية الكبرى بوجود شعب كامل ومتواصل الحياة في فلسطين على مدار قرون مديدة، نشأت تفسيرات عديدة بعضها وصل في غرابته إلى حد إعتبار الفلاحيين الفلسطينين هم احفاد العبرانيين الذين بقوا في فلسطين لكنهم أسلموا مع الفتح الاسلامي، وهو ما اعتقده ديفيد بن غوريون وتبعه آخرون.

ولم تلق فكرة الإبادة والطرد للفلسطينين من وطنهم معارضة اوروبية ذلك انها تماشت عمليا مع النهج الاستعماري الابيض إزاء شعوب البلدان المُستعمرة سواء أكانت مسوغاته “حداثية” أم “دينية”.

والنقطة المهمة في هذا النقاش اياً كانت اتجاهاته هي الإرتكاز إلى مقولات دينية صرفة في تسويغ إمتلاك الارض وطرد من عليها وإقامة دولة يهودية خالصة، ولا لعلاقة لمثل هذه السيرورة بأي سيرورات حداثية قومية كتلك التي تطورت في اوروبا.

والسيرورة اليهودية الدينية التي مثلت العمود الفقري للصهيونية تقف عمليا على النقيض من الحداثة السياسية المُعلمنة افتراضاً والتي تحييد الدين أو على الاقصى تمنحه مرتبة ثانوية في التكوين القومي للأمم والمجتمعات.

لم تكن السياسة البريطانية الاستعمارية والاحتقارية لأهل فلسطين سوى جزء من كلٍ أعرض وهو المشروع الكولونيالي الكوني الذي انطلق من أوروبا لاحتلال مناطق وشعوب العالم المختلفة، تحت مُسوغات متناقضة من الحق الديني أو حق التنوير الحداثي أو مسوغ التفوق العرقي، وهي نفس المسوغات المُتناقضة التي استخدمتها الصهيونية أيضاً تجاه فلسطين وأهلها. فرغم الادعاء بأن الاستعمار إن هو إلا مهمة «إنسانية» يتصدى لها «الرجل الأبيض» لإنقاذ «الشعوب المتخلفة» من تخلفها، إلا أن حقيقة وجوهر الكولونيالية الغربية وأختها الصهيونية كانا مختلفين تماماً ولا علاقة لهما بذلك الادعاء.

لكن الكولونيالية الأوروبية سوقت دعمها للصهيونية باعتبار هذه الأخيرة حاملة لمشروع «التنوير الغربي» في منطقة «مُتخلفة» ما زالت أسيرة حقب «ما قبل الحداثة».

وقد احتضن هيرتزل، وغيره من القادة الصهيونيين، ومنذ البدايات الأولى للصهيونية هذه الفكرة واعتقد انها بالغة الفعالية في حشد التأييد الاوروبي لحركته، اي باعتبارها امتداداً للحداثة والتقدم الاوروبيين. لكن في الجوهر كان الدين والادعاءات الدينية هي الحامل الرئيسي للمشروع الصهيوني برمته.

اشتغل عليها الدين في قلب السيرورة الصهيونية وفي تناقض مباشر مع أية حداثة سياسية، ومن تجلياته الأساسية الإيمان بتفوق اليهود كجنس مميز وبكونهم في مرتبة عرقية اعلى من الاجناس الاخرى، وأن بقية الأجناس (الأغيار) إنما خلقوا لخدمة اليهود. تباينت تمثلاث هذه الفكرة على ارض الواقع وأخذت اشكالاً خفية بسبب عنصريتها الواضحة.

لكن رغم ذلك كان ذلك الجوهر العرقي والاحتقاري لبقية البشر سبباً رئيساً من الأسباب التي ادت بالجمعية العامة للأمم المتحدة لاستصدار قرار بغالبية كبيرة اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية. وثمة لائحة طويلة من السياسات والتصريحات والسلوكيات التي عبر عنها قادة صهاينة تجاه الفلسطينيين تعكس تلك العنصرية، منها اعتبار الفلسطينيين حيوانات وصراصير وأفاعي وغير ذلك، بل تحفل المناهج الإسرائيلية بأوصاف احتقارية وعنصرية ضد الفلسطينيين.

وتعدت التصريحات العنصرية ضد الآخرين الفلسطينيين، فحديثاً وصف الحاخام الإسرائيلي الأكبر يتسحق يوسف السود الامريكان بأنهم قرود، كما ان المهاجرين السود في “إسرائيل” وصفوا على الدوام بأكثر الأوصاف عنصرية.

اشتغل الدين أيضاً في خلفية النقاش حول مسألة «المواطنة في دولة (إسرائيل)». وهنا وبحسب الادعاء الصهيوني المتكرر بأن «إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط» فمن المُفترض «ديموقراطياً وحداثياً» ان تكون “إسرائيل” دولة كل مواطنيها. لكن هذا وكما هو معروف غير مُتحقق عملياً على الإطلاق، بل مرفوض من ناحية نظرية ايضاً. فـ «الدولة الإسرائيلية» تنطوي على نوعين من المواطنة: مواطنة الدرجة الأولى وهي الخاصة باليهود، ومواطنة الدرجة الثانية والتي يندرج تحتها غير اليهود.

والتجسيد لهذه العنصرية في المواطنة، وكما هو ماثل في سياسات وممارسات لا تُحصى تجاه فلسطيني الداخل، لا يحتاج إلى كثير نقاش وإثبات نظراً لاتساعه وحضوره البارز على ارض الواقع. لكن الجانب النظري الوقح لهذه العنصرية وسياساتها التميزية صار يتبلور في خطاب رسمي لا يتردد في الإعلان عن قولبة تلك العنصرية في إطار «نموذج» نظري خاص ب”إسرائيل”.

وفي سياق هذه القولبة نفهم تصريح وزيرة العدل الإسرائيلية ايليت شيكد بأن «الصهيونية يجب ان لا تواصل، واقول انها لن تواصل، قبول نظام الحقوق الفردية كما هو مُعبر عنه بالمفهوم الكوني».

وقبلها كان أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق وأحد أعلام اليمين الإسرائيلي قد تحدث بازدراء عن الديموقراطية في مقابلة مع صحيفة يديعوت قائلاً: «إن تعبيرات مثل «الديموقراطية» و»ديموقراطي» غائبة تماماً من إعلان الاستقلال (لإسرائيل)، وهذا ليس بصدفة. وليس هناك حاجة للقول إن الغاية من الصهيونية لم تكن جلب الديموقراطية. بل كانت وبشكل حصري مدفوعة بإقامة دولة يهودية في “أرض” “إسرائيل”، تنتمي إلى كل “الشعب” اليهودي، و”للشعب” اليهودي فقط».

تشير هذه الأمثلة من التصريحات إلى رؤية راسخة ترى في الليبرالية والديموقراطية خطراً على الصهيونية ونقاء الدولة، كما تُعبر عن بنية عقلية ما قبل حداثية قروسطية مُتجذرة عملياً في الفكرة الصهيونية منذ التأسيس.

فما عبرت عنه الوزيرة المُناط بها تحقيق العدالة وما عبر عنه رئيس وزراء سابق له جذوره القديمة في قلب تيار الصهيونية التنقيحية التي كان زئييف جابوتنسكي من اهم رموزها، والتي لم تؤمن إلا بالقوة وجبروت النخبة.

وتكفي الإشارة هنا إلى آبا أحيمئير، اليهودي الصهيوني الروسي الذي ولد في روسيا القيصرية عام 1896 وتوفي عام 1962 في تل ابيب، وكان مُقرباً من جابوتنسكي ويعتبر أحد المؤثرين الكبار في أفكار هذا التيار. وكان أحيمئير قد تأثر بأفكار نيتشه التي تقدس العظمة والقوة ولا تأبه للجماهير، وهاجم «التربية الليبرالية التي تقود بحسب رأيه إلى الانتحار ودعا إلى استبدال هذه التربية بأخرى استبدادية … ورفض الديموقراطية والليبرالية بإعتبارهما قوى آفلة، وهاجم المطالبة بحقوق زائدة للفرد».

ولم تكن افكار أحيمئير، الذي كان يكتب مقالات في عشرينات القرن الماضي تحت عنوان «يوميات فاشي»، هامشية بل اثرت كثيراً في مناحم بيغن واسحق شامير اللذين أصبحا في اوقات لاحقة رؤساء وزراء.

وتأكيداً لمركزيته و»تقديرا» لتاريخه وافكاره فقد جرى تكريمه عبر إطلاق اسمه على شوارع وساحات في 13 مدينة إسرائيلية، وأقيم متحف يحمل اسمه، كما نُظمت فعاليات في الذكرى الخمسين لوفاته شارك فيها بنيامين نتنياهو ورئيس الكنيست رؤوبين ريفلين (بحسب توم بيسح في مجلة «قضايا إسرائيلية»، عدد ربيع 2018).

وربما من أهم الوثائق الأولية التي التقطت الجوهر الرجعي والمعادي للحداثة السياسية في الصهيونية المذكرة التي قدمها إدوين صامويل مونتاغ، الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية والمسؤول عن شؤون الهند بين سنوات 1917 و1922، رافضاً تصريح بلفور وفكرة مساعدة اليهود في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. في خضم مناقشة تصريح بلفور في اروقة الحكومة البريطانية قدم مونتاغ مذكرة شهيرة للحكومة ورد فيها ما يلي: «… لا أعرف ماذا يتضمن هذا (الوطن القومي لليهود في فلسطين)، لكني افترض انه يتطلب من المحمديين (المسلمين) والمسيحيين التنحي جانباً وافساح المجال لليهود الذي سوف يخلفونهم في كل المواقع ويتميزون بعلاقتهم في فلسطين كما يتميز الانكليز في علاقتهم مع انكترا، أو الفرنسيين مع فرنسا، ويُعامل الاتراك والمحمديين الآخرين كأجانب في فلسطين بنفس الطريقة التي يعامل فيها اليهود في كل البلدان الاخرى ما عدا فلسطين. وربما سوف تُمنح المواطنة تبعاً لإعتبارات دينية. وانني اشدد هنا على اربعة مبادئ:

– أؤكد انه ليس هناك شعب يهودي Jewish nation. لا يمكن القول إن اليهودي الانجليزي واليهودي الموريسيكي (الاسباني) ينتميان إلى نفس الشعب، إلا اذا قلنا ان المسيحي الانجليزي والمسيحي الفرنسي ينتميان إلى نفس الشعب.

– عندما يُقال لليهود ان فلسطين هي وطنهم القومي فإن كل بلد (في العالم) سوف يرغب على الفور في التخلص من مواطنيه اليهود، وسوف تجد في فلسطين مجموعة سكانية تطرد السكان الحاليين وتأخذ افضل ما في البلد (فلسطين)

– إنني أنفي فكرة ان فلسطين مرتبطة اليوم باليهود أو اعتبارها المكان الملائم لهم للعيش فيها. صحيح ان الوصايا العشر تنزلت على اليهود في سيناء، وان فلسطين تلعب دوراً كبيرا في التاريخ اليهودي لكنها تلعب ذات الدور في التاريخ الحديث للمحمديين (يقصد المسلمين)، وبعد زمن اليهود في فلسطين فإنها تلعب دوراً في التاريخ المسيحي كما لا يلعبه اي بلد من البلدان.

– (يتحدث مونتاغ عن النجاح النسبي والتدريجي في اندماج اليهود في اوروبا كمواطنين في دولها ثم يتابع قائلاً) … لكن عندما يمتلك اليهودي وطن قومي فإن ما يترتب على ذلك هو مبررات حرماننا (كيهود) من حقوق المواطنة البريطانية سوف تزيد، ففلسطين ستصبح الغيتو العالمي (لليهود). لماذا (مثلاً) يمنح الروسي اليهودي حقوقاً كاملة، ووطنه القومي هو فلسطين؟

ثم يختم مونتاغ مذكرته بمناشدة الحكومة البريطانية عدم الخضوع لضغوط الحركة الصهيونية، ويقول: «انني أشعر بأن الحكومة يُطلب منها ان تكون أداة لتنفيذ رغبات حركة صهيونية تدار بشكل عام، وبحسب معلوماتي، عبر رجال من أصول او أماكن ميلاد معادية، وهذا يعني توجيه ضربة قوية إلى الحريات، والموقع، وفرص الخدمة لليهود الآخرين المواطنين في بلدانهم.

إنني اقول للورد روتشيلد إن الحكومة مستعدة للقيام بكل ما في طاقتها من اجل تأمين الحرية الكاملة لليهود للاستيطان والحياة في فلسطين على قدم المساواة مع سكان ذلك البلد الذي يتبعون أدياناً أخرى. ولكني أطلب من الحكومة ان لا تقوم بما هو ابعد من ذلك.»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى