أقلام وأراء

حنين زعبي تكتب – المواطنة في ظل الخطاب المتصاعد “إسرائيل مشروع استعماري”

حنين زعبي 9/1/2021

بعد أن سحبت الأمم المتحدة تقرير لجنتها الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (ESCWA)، والذي يصف إسرائيل بالأبرتهايد الاستيطاني، أقرت لجنة أخرى في الأمم المتحدة قبل عدة أيام، وهي لجنة مناهضة كافة أشكال التمييز العنصري، أمرًا مماثلا، وهو أن إسرائيل تمارس سياسات عنصرية ضد الشعب الفلسطيني، مشيرة إلى ممارسات على جانبي الخط الأخضر، وفاتحة سؤال الأبرتهايد ليس على ممارسات سياسية بعينها، بل على النظام الإسرائيلي ككل، وذلك عبر تطرقها لـ”قانون القومية” الذي يلخص جوهر الدولة ووظيفتها.

والسؤال الذي يُسأل في أعقاب هذا التطور التاريخي، والذي يفتح أبوابًا قد لا نكون مستعدين لها سياسيًا، هو: ماذا يفعل الخطاب والأداء الفلسطيني الرسمي إزاء هذا الخطاب، الذي تستمر شرعيته في التنامي خارج المجال السياسي الرسمي، وهو السؤال الموجع، وقد بدأته في مقال سابق، وهنا أكمل بشكل عيني حول المواطنة في ظل الأبرتهايد.

ما مدى استعداد السياسة الفلسطينية في الداخل للتعاطي مع سؤال مواجهة إسرائيل كمشروع استعماري، حتى ولو بشكل تفكيكي وتحليلي، آخذين بعين الاعتبار “المحاذير القانونية”؟

لقد صرح أحد المخرجين بأن “الجواب على السؤال ’ماذا أفعل؟’، يأتي بعد الإجابة على سؤال ’في أي قصة أجد نفسي’”. ففي أي قصة يجد الفلسطيني في الداخل نفسه عندما يتعاطى مع إسرائيل؟ في قصة مواطنة طبيعية كمواطن يواجه دولة، أم في قصة مواطنة استعمارية وشعب يواجه مشروعًا استعماريًا من خلال سياق المواطنة؟

لحظة دخول الفلسطينيين في السياسة الإسرائيلية

لم يحمل الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده موقفًا واحدًا من إسرائيل، وقد “طوّر” كل سياق فلسطيني موقفه الخاص، وتذرع “الاستثناء” الفلسطيني في الداخل بـ”الخصوصية” (خصوصية عن شعبنا وليس عن إسرائيل) أو بـ”سياق المواطنة”، ما عنى أن موقع “المواطنة” غلب على موقعنا كجزء من شعبنا، بمعنى أن علاقتنا مع إسرائيل حددت سؤال علاقتنا مع شعبنا وليس العكس. أكثر من ذلك، نحن في الداخل نحمل إرث نشاط سياسي بدأ بما يمثل نقيض هذا البرادايم (النموذج أو البراديغما)، وقد مثّل الحزب الشيوعي التمثيل “الفلسطيني” الأول في الكنيست، كلحظة دخولنا للسياسة عبر برادايم التعامل مع المشروع الصهيوني كمشروع شرعي بل وأخلاقي، معتبرًا السلوك الفلسطيني الرافض لإسرائيل كمشروع استعماري، تخلفًا ورجعية سياسية. وقد تطورنا من ذلك الإرث، وكل ما جرى حتى الآن، هو صراع لمحاولة التخلص من تقاليده ومفاهيمه ونفسيته، وبناء تصور بديل له.

لم يدخل الفلسطينيون في إسرائيل الحقل السياسي الرسمي أو التمثيلي إذًا لمواجهة إسرائيل كمشروع أبرتهايد، أي لمواجهتها كشعب مقابل مشروع، ولم يُنتخب السياسي للكنيست (الهيئة الوحيدة المنتخبة) بناءً على مشروع تحرير فلسطين أو تفكيك النظام العنصري، بل إن السياسة الفلسطينية في الداخل نشأت من خلال بتر ولائها السياسي مع الشعب الفلسطيني.

ولم يكن وجود هذا الإرث هو الصعوبة الوحيدة في تطوير مواطنة مواجهة للطابع الصهيوني للدولة، بل هناك الحقيقة الثقيلة في أن “المواطنة” هي في طبيعتها حالة مناقضة للصراع، وهي حالة تطور من خلال سياقاتها، “علاقات طبيعية”، حتى لو حملت مواقف صدامية ومواجهة ومتحدية. وكلما زاد التشابك مع المؤسسة ومؤسساتها وشخوصها، زاد نطاق “الطبيعية”. إن إغراء تذويت المواطنة كحالة “طبيعية” تقع خارج مفاهيم الصراع، هو إغراء أكثر من قوي، وعلى خلاف القيادات السياسية التي تكون عادة أكثر راديكالية من شعوبها، لكي تقوده إلى التعبئة والحشد وفرض شروطه ومطالبه في خطاب مواجه، طورت الكنيست نمطًا سياسيا “حميميا”، بمعنى أنها طورت نمطًا من العلاقات التفصيلية والمفاهيم الأقرب إلى “التأثير الإداري”، المناقضة لعلاقة الصراع ولمفاهيم التغيير السياسي العميق.

وما نشهده اليوم من خطاب مُركبات القائمة المشتركة باستثناء التجمع، من إعادة إنتاج لمعنى “تأثير سياسي”، يشير بوضوح إلى أننا لا نتحدث عن إحداث تغييرات جوهرية في مكانة الفلسطينيين في الداخل، بل عن عملية ترجيح لشكل دونية ما دون أخرى.

إن الواقع الموضوعي لحياة الفلسطينيين في الداخل، والإطار المكون لحياتهم ونموذج القيادة السياسية الأول الذي مثلهم أمام إسرائيل، كان مُنتجًا لتجربة طاردة ومعادية لكل أبعاد الهوية المتصارعة مع إسرائيل، أي أنه كان منتجًا لكل ما يبعدنا عن شعبنا وعن قضيته، فيما كانت الهوية الفلسطينية حينها، تتشكل في أغلبها كهوية معادية للكيان الصهيوني. وفي اللحظة التي ظهر فيها أن عنصر الصراع بدأ يخرج من الصورة الفلسطينية العامة دون تحقيق العدالة – اتفاقية أوسلو-، ظهر مشروع سياسي لدى  فلسطينيي الداخل أعاد مفهوم الصراع في علاقتنا مع الدولة، ليس فقط كمشروع يوضح طبيعة إسرائيل وينقذنا من أسرلة مستمرة، بل كمشروع يعيد التأكيد على أن صراعنا مع إسرائيل هو جزءٌ من صراع تاريخي لشعب، وليس صراعًا مشتقًا من المواطنة، أو يستطيع أن يبقى داخل سياقها.

لقد فعل التجمع الوطني الديمقراطي ذلك من خلال مفهوم المواطنة نفسه، ما مكنه من الدخول كجزء من الخطاب السياسي الفلسطيني التمثيلي، مستبقًا بذلك ما يتشكل اليوم خارج المجال السياسي التمثيلي – الرسمي، ممثلا في ما نشهده من مؤتمرات ومن اجتهادات قانونية فلسطينية، تأثرت بهذا الخطاب في نفسيتها ووجدانها ومفاهيمها، وأخذت دعمًا وشرعية منه، لكنها نقلته لرحاب أوسع من دون الحاجة للتقيد بخطاب المواطنة في مواجهة إسرائيل كمشروع استعماري.

التجمع الوطني الديمقراطي والمهمة الصعبة  

لقد عكس المشروع السياسي للتجمع الحاجة إلى تفكيك البنية الوظيفية (وبالتالي القانونية والسياسية)  للدولة الصهيونية، وإن كان من مدخل ملائم لسياق المواطنة، هو مدخل التناقض الصارخ بين يهوديتها وديمقراطيتها.

ويُظهر مشروع التجمع، العلاقة بين المشروع الصهيوني وبين الدولة؛ الدولة هي أداة المشروع الصهيوني، ونضالنا الفلسطيني للحرية والعدالة يستند إلى هزيمة الصهيونية كمشروع عبر إعادة تعريف وظيفة الدولة وطبيعتها. وقد تقدم التجمع خطوة إلى الأمام مقارنة بخطاب الأبرتهايد، طارحًا الحل: إعادة بناء الكيان السياسي ككيان قائم على المساواة التامة، لاغيا بذلك وظيفة الكيان السياسي الاستعمارية، ومؤكدًا أن دون ذلك لا يمكن ضمان العدالة والحرية للشعب الفلسطيني.

وفي الوقت الذي بدأ فيه التأكيد على ملامح هويتنا القومية قبل أوسلو يزداد، في علاقة طردية مع فك الارتباط معنا الذي قادته منظمة التحرير – وربما بسبب ذلك-، إلا أن ملامح هويتنا القومية تلك، كانت تجري بانفصال تام وبانقطاع تام عن المصير السياسي لشعبنا الفلسطيني، وعكس مصطلح “أقلية قومية” الذي بدأ يأخذ مكانته في الخطاب السائد حينها (ثم خف استعماله مؤخرًا)، البعد الانفصالي عن شعبنا كـ”أقلية” مقابل أغلبية يهودية، وبذلك تُغلق الدائرة، رغم البعد القومي الوطني الذي يحمله.

أما انطلاق التجمع من “خصوصية” المواطنة، فلم تمنعه من أن يضع سؤال الهوية وليس فقط سؤال الحقوق كبوصلة لهذه المواطنة. ولم تمنعه “خصوصية” المواطنة من الاستئناف على مضامينها الصهيونية، وتفكيكها تمامًا، حتى العودة إلى المربع الأول المواجه مباشرة للمشروع الصهيوني، الأمر الذي يعيد سؤال علاقة هذا المشروع مع الشعب الفلسطيني برمته. فـ”دولة المواطنين”، هي ليست مطالبة بأن تشمل الصهيونية الفلسطينيين، كما كانت بدايات المطالبة الشيوعية. “دولة المواطنين” تطالب بالمساواة كفلسطينيين، وهذا فرق شاسع، وهو فرق “مكاننا في القصة”. فنحن نطلب المساواة من الدولة العينية التي أمامنا بحكم موقع المواطنة، لكن تعريفنا للمساواة ومضامينها يأتي بحكم كوننا فلسطينيين أصحاب هذا الوطن. نخاطب الدولة التي دمرتنا ودمرت شعبنا وباسم الغبن التاريخي الذي ألحقته بنا. إن الغبن التاريخي هو “موقعنا في القصة”، وليس “المواطنة”، و”جزء من شعب” وأحيانًا “باسم شعبنا كله” هو موقعنا في القصة وليس “أقلية”.

إن مفهوم “دولة المواطنين” هو مفهوم دحر الصهيونية، وهو أساس تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، وهذا لا يخص الفلسطينيين في الداخل فقط، بل هو الجامع الفلسطيني العام، إذ يفتح هذا الطرح تعاطيًا مختلفًا مع حق العودة ومع مفهوم حق تقرير المصير للفلسطينيين، وهو المدخل لبناء أي مشروع فلسطيني وطني جامع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى