حملة عمود السحاب في غزة وإعادة مصداقية الردع الإسرائيلي الوسيلة: القبة الفولاذية
مركز الناطور للدراسات والابحاث
يتفنن دهاقنة الفكر العدواني الإسرائيلي ومنذ أقحم هذا الكيان على منطقتنا العربية عام 1948 في ابتكار وصياغة المصطلحات التي يطلقها على حملاته العسكرية في العدوان على غزة في ديسمبر 2008 أطلق عليها اسم “الرصاص المسكوب” وعلى الحملة الجديدة “عمود السحاب” ومن قبل في لبنان “عناقيد الغضب” و”السور الواقي” وفي الحملة العدوانية على مصر عام 1956 “حملة كاديش”، كل هذه الاصطلاحات مقتبسة عن التلموذ.
بعد هذا التعريف نجد لزاما أن نشير إلى أن الذريعة والمبرر للحملة الجديدة التي سوقها العدو هنا استرداد مصداقية الردع التي تآكلت أو تضاءلت خلال حملتين عسكريتين شنهما العدو خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الأولى في لبنان عام 2006 ضد حركة المقاومة الإسلامية والثانية في قطاع غزة في ديسمبر 2008.
في هاتين الحالتين أخفق العدو في تحقيق حسم للمواجهة ضد المقاومة اللبنانية والفلسطينية، والاعترافات بهذا الإخفاق جاءت صريحة ومدوية عبر مجموعة من المشاهد:
إقصاء وتنحية قيادات عسكرية وزير الدفاع عمير بيريتس ورئيس الأركان الجنرال دان حلوتس وقائد المنطقة الشمالية أوري آدم هذا بالنسبة للفشل في لبنان.
إقصاء أو إقالة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت على خلفية الفشل في غزة عام 2003.
كيف تآكلت مصداقية الردع الإسرائيلي؟
هناك وباعتراف قيادات عسكرية إسرائيلية وخبراء إستراتيجيين في إسرائيل وما أكثرهم عدة عوامل كان لها أبلغ الأثر في تآكل مصداقية الردع:
1-الحرب غير المتناظرة التي وجد الجيش الإسرائيلي مضطرا لخوضها أي حرب غير نظامية حرب عصابات أو حرب غوريلا.
الجيش الإسرائيلي بني وتشكل وصيغت عقيدته لخوض حروب ضد جيوش كما حدث عام 1948 وفي 1956 و1967 و1973.
2-أن الجديد في التحدي الإستراتيجي الإسرائيلي لم يكن مقصورا على نمط جديد من الحرب وغير مسبوق وإنما في استخدام أسلحة جديدة من قبل تحركات المقاومة في لبنان وفلسطين.
هذا السلاح هو الصواريخ التي شكلت وما برحت تشكل عامل حاسم في تآكل مصداقية الردع، فلقد أوجدت هذا الحيازة معادلة جديدة إلغاء التفوق لصالح ولادة معادلة توازن الردع.
قبل أن يتعاظم شأن هذا العامل دقت أجراس الإنذار في إسرائيل، قادة المؤسسة العسكرية والمجمع الصناعي العسكري راحوا يقدحون الزناد ليبتكروا أو يخترعوا وسائل مضادة لتصادر هذا السلاح وتحييده وتسلبه لكي يعود التفوق الإسرائيلي النوعي والكمي ليتبوأ الصدارة.
رئيس الأركان العامة الإسرائيلي الأسبق موشي يعلون الذي يتولى الآن منصب وزير الشؤون الإستراتيجية في حكومة نتنياهو قال في عام 1991 بعد حرب الخليج وتعرض إسرائيل ولأول مرة لقصف صاروخي طال حيفا: “إننا أمام تحدي جديد يشكل إنذارا حقيقيا لأخطار ترتسم في الأفق القريب، وعلينا أن نحث الخطى من أجل إيجاد حل ناجع في مواجهة هذا التحدي وهو تحدي الصواريخ”.
وبالفعل حشدت المؤسسة العسكرية جيشا من العلماء والمهندسين والفنيين في إطار مشروع ضخم لإنتاج وسائل مضادة.
وفي ظل هذا الجو المحموم من الخوف من هذا العنصر الجديد تم تبني مشروع إنتاج منظومة حيتس لاعتراض الصواريخ الباليستية 1و2و3 لاعتراض الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدىـ، وواكب عملية تطوير المزيد من المنظومات منها مقلاع داوود ثم أخيرا وليس آخرا منظومة القبة الفولاذية.
يقول المثل الحاجة أم الاختراع والحاجة هنا اقتضتها وفرضتها دروس حرب إسرائيل في عام 2006 ضد المقاومة اللبنانية ثم المقاومة الفلسطينية ضمن مواجهة العدوان الإسرائيلي عام 2008.
وأعطي مشروع تطوير منظومة القبة الفولاذية أهمية كبيرة وجهود وإمكانيات تقنية ومالية كبيرة وفرتها الولايات المتحدة للعدو الإسرائيلي في نطاق الالتزام الأمريكي بضمان التفوق الإسرائيلي الكاسح على العرب.
كان عمير بيريتس وزير الدفاع الذي أقيل بسبب الفشل في حرب لبنان الثانية عام 2006 هو من تبنى المشروع، وجاء بعده إيهود باراك وزير الدفاع الجديد ليواصل رعايته لهذا المشروع إلى أن نجحت في إنتاج تطوير عددا من البطاريات تتباين التقديرات بشأن هذا العدد، مصادر تذكر بأن عددها يبلغ أربع بطاريات وأخرى تذكر بأن عددها يصل إلى ثماني بطاريات.
بالأمس أي يوم السبت 17 نوفمبر أعلن عن نشر بطارية لحماية مدينة تل أبيب بعد تعرضها لقصف بأكثر من صاروخ هذا على الرغم من الاعترافات الإسرائيلية الواضحة والجلية بأن المنظومة فشلت في الجنوب.
الحرب في غزة عمود السحاب وتآكل الرهان عليها في تحييد خطر الصواريخ.
للحصول على أبلغ شهادة وأكثرها دلالة على انهيار الرهان على منظومة القبة الفولاذية في مواجهة الصواريخ سواء مدى المقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة الفلسطينية في غزة لا بد من استحضار ما أعلنه البريجادير دورون جافيش قائد منظومة الدفاع الجوي السابق قبل ثلاثة أيام فقط من شن العدوان على قطاع غزة.
البريجادير جافيش وفي كتاب استقالته حذر من أن الجبهة الداخلية مازالت مكشوفة وبدون حماية ناجعة وأن التهديد الصاروخي مازال خطيرا ويطاول كل المناطق الإسرائيلية.
لم يكن جافيش المسؤول عن منظومة الدفاع الجوي أي منظومة اعتراض الصواريخ وليس الطائرات فقط وحده الذي شكك في فاعلية ونجاعة وقدرة منظومة القبة الفولاذية في تحييد ناجع لخطر الصواريخ فلقد سبقه آخرون حتى علماء شاركوا في تطوير منظومة حيتس ومنظومات أخرى.
وجاءت الحرب الحالية التي يشنها العدو على قطاع غزة بمثابة اختبار ليس فقط لفاعلية ونجاعة هذه المنظومة بل أيضا لمصداقية وصدقية ما تراكم من تصريحات وتقييمات وتحليلات لقيادات عسكرية ولوجيستية وأكاديمية لتقول أن إسرائيل أوجدت علاجا سحريا لتهديد الصواريخ.
كل هذه التراكمات أجمعت على أن هذه المنظومة بإمكانها أن تعترض وتسقط 85% من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى في المرحلة الأولى، أما في المرحلة الثانية من التطوير فإنها لن تسمح لأي صارخ أن يخترق المجال الجوي الإسرائيلي.
في اليومين الأولين من الحرب تحدثت التقارير عن أن نسبة الاعتراض والإسقاط بلغت 20% لكن بعد ذلك وفي اليوم الرابع والخامس من الحرب تراجعت نسبة الاعتراض والإسقاط وتدنت هذه النسبة، مما دفع بوسائل الإعلام الإسرائيلي إلى إطلاق تسمية جديدة على القبة الفولاذية وهي القبة الورقية.
إسرائيل إذن حشدت الرهان على إعادة مصداقية الردع عن طريق انتزاع عامل الردع من أيدي المقاومة وهو القدرة الصاروخية، وتحاول إسرائيل وعلى ضوء هذا الفشل الرهان مرة أخرى على عوامل أخرى هي:
*القوة الجوية.
*الهجوم البري واجتياح قطاع غزة.
القبة الفولاذية المكون التقني والقدرة العملياتية
بقراءة فيها الكثير من التأمل والتعمق لخلفية قرار تطوير هذه المنظومة ثم المعطيات حول فاعليتها والواردة في تصريحات القادة الإسرائيليين والأدبيات العسكرية الإسرائيلية نخلص إلى الآتي:
– الحرب التي شنها العدو على لبنان عام 2006 ثم الهجمات الصاروخية التي ظلّت مدينة سديروت تتعرض لها وعلى الأخص صواريخ القسّام كانت دافعا ومحفزا لوزير الدفاع الإسرائيلي السابق (عمير بيريتس) (وهو يقطن بمدينة سديروت) لاتخاذ قرار بتطوير منظومة القبة الحديدية للتعامل مع القذائف الصاروخية والصواريخ القصيرة المدى.
– تتولى تطوير هذه المنظومة منذ ذلك التاريخ مؤسسة رفائيل (هيئة تطوير وسائل القتال) التي تقوم بدور محوري في تطوير منظومات الصواريخ الإسرائيلية .
– المعطيات التي توردها المصادر الإسرائيلية تتحدث عن أنّ هذه المنظومة ستكون فعالة بنسبة تتراوح ما بين 90 إلى 95% بالنسبة لاعتراض القذائف الصاروخية وصواريخ الكاتيوشا والقسّام وصاروخ فجر بحوزة حزب الله.
هذه المعطيات وردت أيضا على لسان مسؤول مشروع الدفاع الجوي في مؤسسة رفائيل (رافي أورون) وكذلك (داني جولد) رئيس شعبة البحث والتطوير في وزارة الدفاع الإسرائيلية.
– الولايات المتحدة تدعم هذا المشروع أي تطوير منظومة القبة الحديدية عن طريق إمداد إسرائيل بتقنيات ومعظم مكونات هذه المنظومة. إضافة إلى ذلك الولايات المتحدة تساهم بنسبة 50% من تكلفة تطويرها والتي ستبلغ حوالي سبعة مليارات دولار.
– عمليات التطوير ستستمر حتى نهاية عام 2012 لأنّ إنتاج منظومة واحدة أو منظومتين لنشرها قبالة قطاع غزة لا يوفر الحماية للجبهة الداخلية بل ستظل هناك ثغرات في مواجهة حزب الله الذي يمتلك ترسانة ضخمة من الصواريخ.
– إضافة إلى ذلك، هذه المنظومة تتألف من مكون هو عبارة عن جهاز إطلاق ثم صواريخ اعتراضية، وكذلك فهي مزودة أبيضا بمنظومة رادار. مهمة هذه المنظومة هي تقديم إنذار عن إطلاق صواريخ من قطاع غزة وتحديد مسار هذه الانطلاق صوب المدن والمستوطنات الإسرائيلية.
شكوك حول معطيات فاعلية هذه المنظومة.
على الرغم من المعطيات الصادرة عن الجهات المشرفة على تطوير منظومة القبة الحديدة مثل قسم الأبحاث والتطوير (مبات) في وزارة الدفاع ومديرية المشروع في مؤسسة رفائيل وحتى منظومة الدفاع الجوي عن فاعلية هذه المنظومة وقدرتها على تدمير ما نسبته 80-85% من الصواريخ التي تعترضها على جبهة قطاع غزة والجبهة اللبنانية، فثمّة خبراء في المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية يشكلون في صحة ودقة هذه التقييمات.
الجنرال (جيورا إيلان) رئيس مجلس الأمن القومي السابق وفي لعبة الأدوار أو لعبة الحرب التي قام بها مركز أبحاث الأمن القومي لدراسة نتائج المواجهة العسكرية مع إيران عن طريق محاكاة اندلاعها وآليات خوضها وتداعياتها شكك في قدرة أية منظومة حاليا على الأقل في تحييد خطر الصواريخ والقذائف الصاروخية وإغلاق محكم لنفاذها إلى داخل إسرائيل، وخلص إلى أنّ إيران تعوّل إلى حدّ كبير على الترسانة الصاروخية لدى حزب الله في إدارة معركتها الدفاعية والهجومية ضد إسرائيل.
الباحث في الشؤون الأمنية الإسرائيلية الدكتور محمد هيبي يعزو التصريحات والبيانات الإسرائيلية حول فاعلية منظومة البنية الحديدية في تحييد خطر القذائف الصاروخية والصواريخ القصيرة المدى إلى ثلاثة أسباب:
السبب الأول: طمأنة سكان المنطقة الجنوبية والشمالية بأنّ خطر الصواريخ قد تضاءل إلى حدّ كبير وأنّ بوسعهم ممارسة حياتهم الاعتيادية بعيدا عن الخوف والهواجس، وأنّ الجبهة الداخلية أصبحت في أمان ولن تستطيع أية قوة المساس بها
الثاني: إطلاق رسالة تتضمن عناصر من الحرب النفسية موجهة إلى حركات المقاومة في قطاع غزة وفي لبنان بأنّ الصواريخ التي بحوزتها فقدت فاعليتها وتأثيرها ولم تعد تشكل عاملا حاسما في إدارة الصراع مع إسرائيل وإدارة الحرب.
الثالث: بث رسائل بتشجيع للأنظمة العربية التي تحولت إلى شريك أمني واستراتيجي لإسرائيل بأن تطمئن إلى نتائج المواجهات العسكرية التي ستستخدمها إسرائيل ضد حركة حماس في غزة وضد حزب الله في لبنان وأن نثبت على مواقفها ومقارباتها.
لكن رغم ذلك يبقى الحذر والتنبه والاستعداد مطلوب وأكثر من أي وقت مضى .
من إعداد: المهندس محمد حسين