حسن عصفور: معركة غزة رأس حربة لمشهد إقليمي جديد
حسن عصفور 13-10-2023: معركة غزة رأس حربة لمشهد إقليمي جديد
منذ أن أطلقت الرصاصة الأولى يوم 7 أكتوبر 2023، أظهرت ملامح تطورها السريع أنها ليست “معركة تقليدية”، ولن تكون كما سبق منذ 2007 وحتى 2023، بل تتجاوز في بعض ملامحها ما كان من حرب تدميرية قامت بها قوات العدو بين 2000 – 2004 لتدمير مقومات السلطة الوطنية، واغتيال قائدها ومؤسسها الخالد ياسر عرفات، وإحداث تغيير جوهري في البنية السياسية الفلسطينية، قيادة ومؤسسات الى أن فازت حماس بانتخابات تم هندستها بدقة يناير 2006.
ملامح الاختلاف في معركة أكتوبر بدأت مع أطلاق نتنياهو صفة “حرب” عليها، وهي ليس كذلك حتى ساعته، لأسباب سياسية أولا وداخلية ثانيا، وللقيام بترتيبات خاصة، وظهر أن أمريكا ليست بعيدة عن مسار الأحداث، فبدأت “شريكة” بالحدث الكبير – الجديد، وفقا لسلوكها السريع جدا، والمخالف لسوابق في معارك قبلها، حيث قامت بتقديم 8 مليار دولار دون إذن خاص من أي مؤسسة أمريكية، ومعها ارسال حاملتي طائرات “إيزنهاور وجيرالد فورد” الى شواطئ إسرائيل مع حزمة من الأسلحة العسكرية المتطورة.
وبدأ الرئيس الأمريكي في موقع الناطق الرسمي بتطور المعركة وأحداثها، وفقا لما يرده من مكتب رئيس التحالف الفاشي نتنياهو، دون أن يكلف مكتبه عناء التدقيق فيما يصله قبل الحديث عنه علانية، ما اعتبر في بعضها “فضيحة سياسية”، عندما أشار الى قضايا “قطع رؤوس واغتصاب”، الى جانب قيادته المعسكر الغربي الاستعماري كحلف سياسي إعلامي لصالح دولة الكيان.
توقيت رصاص أكتوبر الأولى 2023، وما تلاها من معارك، لا يجب عزله عن تطورات سياسية جذرية حدثت في المحيط الإقليمي، والتي ارتبطت بمسار حرب فبراير 2022، او ما يعرف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ما أدى الى بداية إنهاء عصر “القطبية الأمريكية” احادي الجانب نحو خلق عالم متعدد الأقطاب ضمن معايير جديدة، قد تضع نهاية تاريخية للجوهر الاستغلالي – الاستعبادي، الذي فرضته الإمبريالية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وقوتها الأساس الاتحاد السوفيتي.
الدخول الأمريكي في معركة غزة، والعدوان الإسرائيلي ومحاولة منحه ملمح حرب، ربما هو التطور الأبرز في مسار الأحداث، فمنطقيا، ما حدث من قيام مجموعات مسلحة باقتحام السياج الفاصل والدخول الى بلدات إسرائيلية، في ظل غياب كامل للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، جيشا وأمنا وأجهزة رقابة لما يزيد على 24 ساعة، كان يمكن القيام بحصره ضمن حدود “محلية”، وتقف أمريكا جدارا كما في سابق معارك حدثت مع قطاع غزة.
الموقف الأمريكي بكل مكوناته، ربما يكون هو حجر الأساس لقراءة تطور العملية العسكرية الإسرائيلية، ومراميها السياسية التي ستقفز عن منطقتها الراهنة لوضع “قواعد حضور” جديدة، ربما تبدأ بإنشاء قاعدة بحرية أمريكية، أو حضور عسكري دائم في منطقة المتوسط قبالة ساحل فلسطين التاريخية، ضمن ترتيبات لما سيكون ما بعد أن تهدأ “قرقعة السلاح”، لتبدأ بمحاولة فرض واقع سياسي فلسطيني جديد، يغلق مرحلة تاريخية طال أمدها من يناير 1965، حتى 7 أكتوبر 2023.
ربما، يكون من المبكر قراءة المشهد العام بكامل أركانه، لكن هناك مؤشرات تشير الى أن “معركة 7 أكتوبر 2023” لم تكن حدثا عابرا وفرديا ورد فعل على فعل محدود، بل هي جزء من آلية تتسع كثيرا بحدودها السياسية – الأمنية، لإعادة “الهيبة الأمريكية”، التي انكسرت شوكتها عبر أكثر من محطة خلال السنوات الأخيرة، بعدما اعتقدت أن سيطرتها الإقليمية باتت مطلقة.
ومن أبزر ملامح “التمرد الإقليمي” على التبعية التاريخية لأمريكا، بدأ مع ذهاب “العربية السعودية والإمارات للدخول في منظومة “بريكس” بقيادة روسيا والصين كتكتل اقتصادي مواز، بل ومتفوق على التحالف الغربي، وزيادة حركة الانفتاح الاستثماري مع الصين لكسر باب الاحتكار التقليدي، ولعل ضربة “أوبك +” بالتنسيق مع روسيا، والاستخفاف السعودي بالطلب الأمريكي كان علامة بارزة لمجرى التطور الجديد، وسبقها الاتفاق التاريخي المفاجئ بين الرياض وطهران برعاية صينية، وخروج الولايات المتحدة كليا من الصورة.
تفاصيل “ملامح التمرد الإقليمي” على الهيمنة الأمريكية تتسع يوما بعد آخر، ويمكنها أن تذهب الى مراحل أكثر افتراقا، بل قد تذهب الى ما هو أكثر خطورة على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، بالشراكة الأعمق مع “تحالف بريكس” واتساع مضمون علاقاتها مع الصين وروسيا، خاصة وأن بلدان أفريقية خرجت عن مسار الاستعمار التقليدي.
ورغم محاول أمريكا الاستباقية بفتح مسار التطبيع السعودي الإسرائيلي، ومناقش مقوماته، دون أن يكون شرطها دولة فلسطينية، لكن المكون الحكومي الإسرائيلي بطبيعته الفاشية العنصرية رفض الاستجابة لطلب يبدو أنه “سيادي” بالمعنى العام، حول حق المملكة بامتلاك مفاعل نووي مدني، ما كشف “فقر دم” التأثير الأمريكي على النظام القائم في إسرائيل، بعدما رأت فيها خطوة حصار للسلوك السعودي “المتمرد”.
وبالتأكيد، أن تحالف نتنياهو الحكومي الفاشي، وما يشكله من خطر على دولة الكيان، بل ويهود العالم، وعلى مستقبل المشهد الفلسطيني، حيث الضم والتهويد الواسع ونكران حق الفلسطيني في حياة سياسية ممكنة، عنصرا من عناصر الاندفاعة الأمريكية بعد 7 أكتوبر لتغيير لا بد منه في التشكيل الحاكم، كشرط الضرورة للمشهد الإقليمي المراد تكوينه.
ربما مفارقة غريبة توقيتا، أن يزور أبرز شخصيات المعارضة والمتصدر الأول لكل الاستطلاعات في إسرائيل بيني غانتس واشنطن أيام قبل الحدث العسكري الكبير، ويكون هو أول أطراف المعارضة، للدخول في حكومة طوارئ لقيادة المعركة القادمة.
تدقيقا، في مسار الأحداث ما قبل 7 أكتوبر 2023، وما بعدها خلال 5 أيام فقط، يمكن الإمساك بجوهر المسألة والأهداف الرئيسية منها..بما يتجاوز كثيرا حدود فلسطين، فمعركة غزة ليست سوى رأس حربة لمشهد إقليمي جديد.
ويبقى السؤال، هل تدرك بعض الأطراف العربية خاصة المركزية منها، أن ما يحدث الآن فوق أرض غزة من “عدوان تدميري” هو النفق الذي يتجه لحصارهم..ما يتطلب عدم منح دولة الكيان فرصة لتحقيق ما يراد منها أمريكيا…وللعرب الكثير لكسر مؤامرة لم تعد بعيدة التحقيق.