حسام ميرو: أزمة النظام الدولي والحروب المتنقلة
حسام ميرو 12-6-2023: أزمة النظام الدولي والحروب المتنقلة
في مشهد لم يألفه السويديون، أبناء بلد لم ينخرط في أي حرب منذ عام 1814، تعبر ناقلات عسكرية على الطرقات السريعة، مع تحذيرات من الحكومة بعدم نشر الأخبار أو التصوير، وفي ألمانيا، يشهد شهر يونيو/حزيران الحالي حالة رفع الجهوزية في الاستجابة للإنذارات على مدار أسبوعين، وهي حالة غير اعتيادية في بلد كان منذ هزيمته في الحرب العالمية الثانية ملتزماً بعقيدة قتالية دفاعية تامة، واعتبار هذه العقيدة خياراً نهائياً، لكن هذا الخيار وضع محلياً أمام حالة إعادة نظر، خصوصاً بعد إقرار الحكومة الحالية زيادة الإنفاق على الجيش، والقيام بتطويره لمواكبة التحديات الجديدة.
الصورتان السابقتان (السويدية والألمانية)، تكمن أهميتهما في السياق العام للنظام الدولي، وانعكاس أزماته في كل مكان في العالم، بما في ذلك، ضمن دول كانت قد تموضعت خارج إطار الانخراط في الحروب، وعرفت مناخاً سياسياً لا وجود فاعلاً فيه للأحزاب اليمينية الشعبوية، لكن هذا المناخ يميل الآن إلى التغير، وهو ما يدلل عليه صعود هذا اليمين إلى الحكم في السويد، واستطلاعات الرأي في ألمانيا، التي منحت «حزب البديل» اليميني تأييد حوالي 18% من المواطنين له، وهي أعلى نسبة تأييد في استطلاع عام للرأي يحصل عليها منذ تأسيسه في عام 2013.
في أوروبا الشرقية، عادت الاضطرابات مؤخراً بين كوسوفو وصربيا، لتنذر باشتعال المواجهات بين الجانبين، حيث تصاعدت حدة الإجراءات المتخذة من قبل كل منهما ضد الآخر، وهما بالأصل وليدين لنهاية حقبة الحرب الباردة، ولم يعرفا منذ قيامهما استقلالاً فعلياً عن التجاذبات السياسية بين روسيا والغرب، ففي الوقت الذي توالي فيه كوسوفو واشنطن، تؤيد صربيا موسكو، ما يجعل حالة السلام بينهما في وضع هشّ، فاقمت منه الحرب الروسية الأوكرانية.
عادت الحرب من جديد لتدخل في القاموس الأوروبي اليومي، بعد أن غابت لعقود، ليس فقط لأنها صارت واقعاً عسكرياً؛ بل لأن تأثيراتها الاقتصادية والمعيشية أصبحت ملموسة، واستنفرت معها خطابات سياسية قومية، كانت قد أصبحت ضعيفة وغير مؤثرة بشكل فاعل، لكن علينا ألاّ ننسى أن الاستقرار الأوروبي منذ خمسينات القرن الماضي هو نتيجة توازنات القوى في النظام الدولي الناشئ بعد الحرب العالمية الثانية، والذي بدأ بالتداعي البطيء منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991.
نهاية موازين القوى القديمة، أفضت إلى صراعات جديدة، خصوصاً مع تنامي المكانة الاقتصادية للصين، وصعودها على مسرح العلاقات الدولية، وطرح مشروع «الحزام والطريق» الذي يعده الغرب مشروعاً التفافياً على طرق التجارة القائمة، وتهديداً لمصالحه، وتثبيتاً لجملة من التحالفات السياسية المعادية له، لكن هذه الصراعات الجديدة من أجل تحديد المكانة على خارطة المسرح الدولي، من شأنها أن تنتقل من ساحة المواجهات الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية إلى ساحة المواجهات العسكرية.
سيكون من الطبيعي في هذه الحال، إشعال حروب متنقلة واضطرابات، لتحقيق عدد من الأهداف في الوقت نفسه، فإذا كان متعذّراً الدخول في حروب مباشرة، فإن استنزاف الخصوم سيكون هو الاستراتيجية المتبعة، وتحقيق إعاقة طويلة الأمد لاقتصاداتهم وأدوارهم السياسية في الساحة الدولية، واستغلال التناقضات الموجودة في الساحات الإقليمية، وفي هذا الإطار، تبدو الحرب الروسية الأوكرانية نموذجاً أساسياً للعمل وفقه، وهو ما بدأت الصين تحذّر من حصوله في محيطها الجيوسياسي، فقد صدرت عنها تصريحات رسمية عديدة، عبّرت فيها عن مخاوف اندلاع حروب في آسيا.
تاريخياً، شكّلت آسيا مسرحاً لحروب عديدة وطويلة زمنياً، وتعد شرق آسيا منطقة توتر سياسي مستمر، ولم تكن الصين وحدها من عرفت تطورات مذهلة في اقتصادها؛ بل سبقتها اليابان، وإلى جوارها كوريا الجنوبية، وهي من أهم الاقتصادات العالمية، كما دخلت الهند بقوة في ساحة المنافسة، بعد أن وصل حجم ناتجها القومي السنوي إلى أكثر من 10.5 تريليون دولار، وكل هذه القوى في حالة من التوتر السياسي مع الصين، يضاف إلى ذلك مسألة استقلال تايون، الموالية كلياً للغرب وواشنطن.
النظام الدولي هو التعبير السياسي الأبرز عن النظام الاقتصادي العالمي، ولشكله القائم، أي الرأسمالية، والتي تحتاج في أزماتها إلى قنوات تصريف، وقد شكّلت الحربان العالميتان في القرن الماضي الساحتان الأبرز لتصريف أزماتها، وتظهير مكانة الدول الصاعدة في المسرح الدولي، ولن يكون بالإمكان تجاوز أزمة النظام العولمي الراهن، وتعبيراته السياسية، من دون إشعال المزيد من الحروب، بانتظار إعادة تشكيل موازين قوى جديدة، يكون من الممكن البناء عليها في إعادة تشكيل النظام الدولي.