ترجمات أجنبية

جيوبوليتيكال فيوتشرز- جورج فريدمان- الصين ، الكفاءة الفائقة ، وفيروس كورونا

جيوبوليتيكال فيوتشرز  –  جورج فريدمان* –  11/2/2020

جلبت الثورة الشيوعية إلى السلطة ماو تسي تونغ. وخلقت دولة قائمة على الأيديولوجية، واعتقاد بأن ما سينبثق عن الثورة الطويلة سيكون أمة قائمة على الشيوعية، وبذلك ستشهد الصين ازدهاراً ومجتمعاً لم تشهد لهما مثيلا أبداً من قبل. لكن الثمن الذي توجب دفعه للوصول إلى تحقيق هذا الهدف كان القمع والمعاناة القاسيين. وقد تم تصميم هذا الواقع لخدمة بناء الشيوعية واستئصال العادات المعادية للشيوعية التي كانت مترسخة في الشعب الصيني. وكان ماو نبي هذا التحول في الحالة الإنسانية، وسوف يكون الحزب الشيوعي أداته. ولكن، بما أن العادات السيئة كانت موجودة في الحزب الشيوعي نفسه كما هو حالها بين العمال والفلاحين، فقد توجب أن يتم تطهير الحزب نفسه أيضاً بشكل دوري وبلا رحمة.

وهكذا، شهدت الصين حملات متعددة للتطهير، كل منها أكثر كثافة من سابقاتها، واستمرت هذه الحملات حتى بعد رحيل ماو نفسه. وقد تحملها الشعب الصيني لسببين. أولاً، أنهم سيدخلون، هم أو أولادهم على الأقل، العالم الجديد. ثانياً، أن المؤسسة الشيوعية الصينية والقوى التي عبأتها كانت قوية وبلا شفقة، بحيث لا تمكن هزيمتها.

بعد وفاة ماو نشب صراع سياسي، وظهر دنغ شياو بينغ. كان بينغ عدواً للماوية عندما ذهبت الماوية، وتبنى مقاربة مختلفة لمستقبل الصين. سوف يظل يحكمها الحزب الشيوعي، لكن غاياتها لن تكون التحويل الجذري والأساسي للمجتمع. كان هدف بينغ ببساطة هو جلب الرخاء الذي يتحقق من خلال تمكين رواد الأعمال ليصبحوا أغنياء. وسوف يصبحون أغنياء لأنهم سيكونون أحراراً في توظيف كفاءاتهم، وسوف تتدفق فوائد كفاءاتهم على الشعب الصيني. ولم يقتصر عمله على إعطاء الشعب الصيني الأمل في مستقبل حقيقي فحسب، وإنما منحهم أيضاً فرصة لاستغلال مواهبهم. كان الحزب الشيوعي ما يزال هناك، ضامناً الاستقرار وممارساً فسادا نظاميا استفاد فيه الحزب وكبار أعضائه بشكل غير متناسب، لكن ذلك كان ثمناً بسيطاً لدفعه مقابل نظام يتسم بالكفاءة.

أثارت الأزمة المالية العالمية في العام 2008 مسألة كفاءة الحزب. فقد بنت الصين ثروتها على الصادرات، وفي العام 2008 تقلصت الشهية للبضائع الصينية في جميع أنحاء العالم. وكان بوسع الاقتصاد الصيني أن يتحمل هذا، لكن استقرار النظام المالي تزعزع. كان الاقتصاد الصيني قائماً على الديون المصرفية، ولذلك وضع فشل الصادرات ضغوطاً هائلة على البنوك. لم تعد كفاءة الدولة مؤكدة ومضمونة بعد الآن.

لكن الحل ظهر على مدى العقد الماضي لصين قوية تبحث عن التوازن الاقتصادي. وكان الحل هو زيادة سلطات الدولة، واستئصال الفساد (أو على الأقل ذلك النوع غير المرخص به من الفساد)، وإنتاج دكتاتور يستمد شرعيته من معرفته بكيف يكون مؤهلاً وكفؤاً في الحكم والاقتصاد والسياسة الخارجية. كان الجمهور الصيني بشكل عام مهتماً بالازدهار أكثر من اهتمامه بالحرية المجردة، ووصل شي جين بينغ إلى السلطة واعداً بأن تكون قوة الدولة مصحوبة بالرغبة في تحقيق النمو الاقتصادي وزيادة القوة الصينية.

واجه شي أوقاتاً عصيبة. فقد فشل في إضفاء الاستقرار على النظام المصرفي بما فيه الكفاية؛ وفشل في إدارة أكبر زبون للصين، الولايات المتحدة، كما فعل أسلافه؛ وكلفت أعماله في شينجيانغ الصين خسران بعض الاحترام الدولي الذي كانت تحرص عليه؛ وانتفضت هونغ كونغ ضد إرادته. كانت الكفاءة أيديولوجية صعبة. وكانت نجاحاتها وإخفاقاتها أكثر وضوحا بكثير من الإيديولوجيات الأخرى. يجب على القائد الكفؤ إثبات كفاءته في كل شيء، لأنه إذا لم يكن مؤهلاً حقاً ولم تكن لديه رؤى عن الخلاص المستقبلي لجميع الأشياء، فإنه يكون مجرد شخص آخر متكيف مع الظروف ولا يفعل أكثر من إلقاء الخطب فحسب.

المشكلة في الحكومات القائمة على الكفاءة هي أن الجمهور يتوقع دائماً من الكفاءة أن تنتج المعجزات. وعندما يشعر بخيبة أمل، فإن الجمهور يمكن أن يصبح شريراً. وتشكل حالة فيروس الكورونا مثالاً على ذلك. الآن، يعرف شي وموظفوه قدراً قليلاً عن علم الأوبئة لا يزيد عما أعرفه أنا -بل وحتى علماء الأوبئة أنفسهم تأخذهم الأمراض الجديدة على حين غرة. وعندما تكون الأمراض جديدة، فإن سلوكها لا يمكن التنبؤ به. قد يكون الفيروس الجديد قاتلاً بمثل فتك البرد الشائع، أو أنه قد يتطابق مع فتك “الموت الأسود”، الطاعون. وتخلق جدة هذا المرض في حد ذاتها واحدة من استجابتين: الأولى هي الذعر؛ والثانية هي الإقالة.

بالنسبة للسياسي الكفؤ، هناك ثلاثة مخاطر. أولاً، أن يفشل في ملاحظة وجود مرض جديد في الوقت المناسب وسط العمل اليومي. ثانياً، أن يأمر بتطبيق إجراءات تغضب الجمهور، ربما بلا داع. وثالثاً، أن يفشل في إصدار الأمر باتخاذ تدابير للحد من مرض يتبين أنه خطير للغاية. ولنبدأ من نقطة الجهل؛ بعد سماع العديد من ادعاءات الخبراء حول العديد من المواضيع، كان الاتجاه هو تجنب المبالغة في رد الفعل، والذي نادراً ما يُشكر عليه الزعيم، لكنه سيهاجَم ويتعرض للسخرية علناً إذا قام باتخاذ الخطوة الخاطئة.

إن شي بينغ رئيس لأنه سوق نفسه على أنه رجل يتمتع بدرجة عالية من الكفاءة. وتستطيع الأحداث مثل تفشي فيروس كورونا أن تأكل الكفاءة الفائقة حية. وبينما يُظهر هذا المرض البسيط أنه أكثر فتكاً، وأن الاستهتار في البداية كان في غير محله، فإن الهدف الأساسي لسياسي فائق الكفاءة سيكون الحفاظ على سمعته. الخطوة الأولى هي تجاهل الحدث. والخطوة الثانية هي قول إنه تحت السيطرة. والخطوة الثالثة هي إسكات أولئك الذين يقولون إنه ليس تحت السيطرة. وليست لدى القائد فائق الكفاءة خطوة رابعة. سوف يأخذ المرض مساره الخاص، ممارساً طريقته الخاصة في إظهار الكفاءة.

توفي الطبيب الصيني الذي كان من بين أوائل الذين دقوا ناقوس الخطر حول الفيروس. وهي نتيجة غير معقولة عندما يفكر المرء فيها، لكن هناك نظرية تظهر لتقول إن شي قام بإسكاته (الخطوة الثالثة) من أجل إخفاء الحقيقة. وإذا كان قد تم إسكاته بأي شيء آخر غير المرض، فإن ذلك لم ينجح على أي حال. يجب إلقاء اللوم عن الخشية من أن يصيبنا المرض على أحد ما. وما كان أحد ليجرؤ على إلقاء اللوم على شخص مثل ماو، الذي كان سيجيب بأن المرض يقدم درساً مفيداً على الطريق إلى الشيوعية. لكن السياسي فائق الكفاءة ليس لديه هذا “المخرج”.

يجب أن نتذكر أن شي خلق انطباعاً قوياً بامتلاكه كلاً من المعرفة والكفاءة. وكان أداؤه أقل إثارة للإعجاب بما لا يقاس. فبالنظر إلى حالة الاقتصاد قبل فيروس كورونا، وعلاقته مع أكبر زبون للصين، فإنه كان يواجه المشاكل. لكنه كان يستطيع تغطية الإخفاقات بالكلام المنمق والوهم. والمرض لا يتيح مثل ذلك. إن مهمة شي هي إدارة الصين بكفاءة، ولا شك في أن إدارة مرض جديد هي شأن صعب. ما يزال من غير الواضح -بالنسبة لي على الأقل- أي نوع من المرض هو هذا على مقياس البرد العادي أو “الموت الأسود”، لكن الجهل خلق نوعا من الحجر الصحي العالمي على الصين، على الرغم من أن بواخر الشحن ما تزال تبحر.

وهكذا، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كان بإمكان شي أن يحتفظ بسمعته كزعيم فائق الكفاءة بعد الحروب التجارية مع الولايات المتحدة، ومعسكرات اليوغور في شينشيانغ، وأعمال الشغب في هونغ كونغ، والآن فيروس كورونا، وماذا سيحدث في الصين إذا لم يتمكن من ذلك. وليس الأمر أن هذا المرض يبدو مميتاً مثل الطريقة التي تم التعامل معه بها. ولعل من المفارقات أن عجز شي عن التعامل مع شيء لا يمكن التعامل معه بطبيعته، بينما يفشل في السيطرة على الأشياء التي يمكن التعامل معها، إنما يشكل خطراً كبيراً عليه. إن السياسة في الصين شريرة مثل السياسة في أي مكان. إنها تتطلب المزيد من الحذر فحسب. لكن الجمهور يحتاج إلى شخص يلقي اللوم عليه في هذه الأزمة، وسوف يشكل زعيم يعيش على ادعاء امتلاك الكفاءة الفائقة هدفاً محتملاً.

*استشاري واستراتيجي جيو-سياسي معروف عالمياً في الشؤون الدولية، ومؤسس ورئيس “جيوبوليتيكال فيوتشرز”. وهو مؤلف الكتاب الأكثر مبيعاً حسب تصنيف صحيفة نيويورك تايمز، وأكثر كتبه شهرة “المائة عام التالية”، والذي يظل حياً بفضل دقة تنبؤاته. وتشمل كتبه الأخرى الأكثر مبيعا “نقاط الوميض: الأزمة الصاعدة في أوروبا”، “العقد القادم”، “حرب أميركا السرية”، “مستقبل الحرب وقوة الاستخبارات”، وقد ترجمت كتبه إلى أكثر من 20 لغة.

*نشر هذا المقال تحت عنوان :

China, Ultra-Competence and Coronavirus

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى