ترجمات أجنبية

جيمس جيفري: هل يقتنص ترمب فرصته في شرق أوسط جديد؟ احتواء إيران وبناء تحالف إقليمي مستقر

جيمس جيفري 16-11-2024: هل يقتنص ترمب فرصته في شرق أوسط جديد؟ احتواء إيران وبناء تحالف إقليمي مستقر

سيواجه الرئيس المنتخب دونالد ترمب شرقا أوسط مختلفا عن ذلك الذي تعامل معه خلال فترة رئاسته بين عامي 2017 و2021، إذ تشهد المنطقة حاليا حربا مستعرة وتثار تساؤلات خطيرة حول مستقبلها. ورغم ذلك، تتاح له فرصة مهمة لاستكمال سياساته السابقة التي تهدف إلى احتواء إيران وبناء تحالف إقليمي مستقر يتطلب تدخلا أميركيا أقل. واستنادا إلى هذه الفرصة، ينبغي عليه إنهاء النزاع الحالي بشروط سلام تضمن عدم تكرار تهديدات مشابهة للهجوم الذي وقع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والبناء على “اتفاقات أبراهام”.

ولتحقيق ذلك، سيتطلب الأمر اتخاذ قرارات صعبة وتحمل بعض المخاطر، فقد لا تكون إيران ووكلاؤها جاهزين بعد لنمط السلام الذي تحتاجه المنطقة. كما أن تعزيز “اتفاقات أبراهام” قد يستدعي تغييرات في المواقف تجاه الفلسطينيين، سواء من قبل إدارة ترمب أو الحكومة الإسرائيلية الحالية، لكن يبقى تحقيق ذلك أمرا ممكنا.

قد يبدو هذا التفاؤل في غير محله، ليس فقط للمراقبين بل أيضا لشعوب إسرائيل وغزة ولبنان، الذين عانوا كثيرا في ما وصفته مجلة “ذي إيكونوميست” في أكتوبر/تشرين الأول بأنه “عام زلزل الشرق الأوسط”. ومما لا شك فيه أن “ذي إيكونوميست” محقة، لكن لفهم المنطقة وإدراك الفرصة المتاحة أمام دونالد ترمب، من الضروري استيعاب طبيعة هذا “الزلزال” الذي لم يبدأ في السابع من أكتوبر 2023، بل قبل ذلك بعشرين عاما. فالمنطقة تعاني من مشاكل متعددة، بدءا من التوترات الدينية والعرقية بين اليهود والفلسطينيين، والشيعة والسنة، والأكراد مع الأتراك والعرب، والهندوس والمسلمين، وصولا إلى الإرهاب وتدخل روسيا والصين. إلا أن إيران تبقى اليوم المشكلة الأكثر أهمية في الشرق الأوسط، وللتعرف على كيفية تحولها إلى هذا التهديد، وكيفية مواجهته، علينا أن نعود إلى عام 2003.

صعود إيران… وسقوطها

في عام 2003، كانت إيران في وضع ضعيف، حيث لا تزال تتعافى من هزائمها السابقة، أولا في العراق ثم في حرب الناقلات. كان قادتها يميلون حينها نحو الاعتدال، وباستثناء عدد من الهجمات الإرهابية، مثل تلك التي وقعت في الأرجنتين وأبراج الخبر، لم تكن إيران قد مارست نفوذا يُذكر خلال العقد الماضي. كان لديها وكيل إقليمي وحيد، هو “حزب الله” اللبناني، وحليف واحد، هو نظام الأسد في سوريا، والذي كانت إيران المعزولة تعتمد عليه بشكل كبير. ومع ذلك، لم تتخلَّ إيران عن أهدافها في الهيمنة على المنطقة، والمتمثلة في تدمير إسرائيل، وطرد الولايات المتحدة، وتطوير برنامج نووي سري. لكنها، في ذلك الوقت، كانت تبدو في حالة احتواء.

بحلول السابع من أكتوبر 2023، أصبحت إيران، في جوانب عدة، القوة الإقليمية الأكثر نفوذا، واقتربت من امتلاك سلاح نووي، كما كانت تمتلك آلاف الصواريخ بعيدة المدى. ومن خلال وكلائها الأقوياء، بسطت سيطرتها على غزة ولبنان واليمن، وازداد نفوذها في العراق وسوريا. ولم يحدث هذا التوسع سرا؛ فقد كان الملك عبدالله في الأردن ونظيره السعودي يحذران الزوار الأميركيين باستمرار منذ عام 2005 من توسع “الهلال الشيعي” في بلاد الشام. لكن التحالف غير الرسمي الأكثر قوة، الذي شكلته أميركا والدول العربية وإسرائيل، وفي بعض الأحيان تركيا، بدا غافلا عن الخطر الإيراني المتنامي.

ولم يكن أحد بريئا من هذا الغفلة، إلا أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق الولايات المتحدة عبر أربع إدارات متعاقبة (باستثناء محدود خلال أواخر إدارة ترمب). فمنذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول، انشغلت واشنطن بمكافحة الإرهاب الإقليمي، وتغيير الأنظمة، ودفع برامج الدمقرطة، مع إيلاء اهتمام متزايد للصين ومن ثم روسيا. وقد انصب التركيز الأميركي على برنامج إيران النووي، فيما سهلت قرارات مثل الإطاحة بصدام حسين وانسحاب إسرائيل من لبنان وغزة التوسع الإقليمي لإيران.

وبينما استجابت واشنطن بقوة لتحديات أخرى، أفسدت مهمة احتواء إيران عبر الاعتماد على نهج تقليدي طيلة هذه الفترة. تركزت العناصر الرئيسة في هذا النهج أولا في الاستجابة لمحاولات إيران ووكلائها، إما بإنكار المشكلة (كما فعل الرئيس أوباما حينما تحدث عن “تقاسم المنطقة مع إيران”)، وإما- في حال الاعتراف بالمشكلة- تجنب استخدام القوة العسكرية (كما في الهجوم على منشآت أرامكو السعودية عام 2019). وفي الحالات التي جرى فيها استخدام القوة، كان تأثيرها محدودا (مثل عملية البحر الأحمر ضد الحوثيين).

لقد اتسمت استراتيجية إيران ووكلائها بالتحرك في خطوات غير متماثلة وحذرة، بحيث لم يشكل أي من هذه التحركات بمفرده تهديدا كبيرا للنظام الإقليمي. وكان استخدام الشركاء للقوة العسكرية ردا على تلك التحركات محبطا، حيث مارست واشنطن، على سبيل المثال، ضغوطا على إسرائيل للتهدئة خمس مرات بين عامي 2006 و2021 تجاه “حزب الله” وسوريا و”حماس”، كما ضغطت على الحكومة العراقية في 2004 و2008 لصالح الميليشيات الموالية لإيران.

ورغم امتثال الشركاء لهذه الضغوط في معظم الأحيان، فإن ضربة إسرائيل للموقع النووي في سوريا عام 2007 شكلت استثناء بارزا. ومن اللافت أن تلك الضربة لم تسفر عن الكارثة الإقليمية التي حذرت منها واشنطن، بل أدت فقط إلى إنهاء مبادرة سورية خطيرة.

في السابع من أكتوبر، تخلت حركة “حماس”، أحد وكلاء إيران، عن الاستراتيجية الحذرة غير المتماثلة وسعت لتحقيق نجاح قد يغير النظام الإقليمي. في تلك اللحظة، أدركت إسرائيل العواقب الحقيقية للاستراتيجية الأميركية، لكن إدارة بايدن لم تدرك ذلك بالقدر نفسه. بالنسبة لإسرائيل، كان وجودها على المحك. وكما أفادت صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن قائد “حماس”، يحيى السنوار، سعى لتجنيد حلفائه الأقوى، كـ”حزب الله” وإيران، في الهجوم ضد إسرائيل. لذلك شنت إسرائيل هجوما مضادا عنيفا.

ورغم قلق الولايات المتحدة من الخسائر بين المدنيين، ظلت متمسكة بـ”نهجها” (الذي أثبت فشله بشكل واضح تجاه هجمات الحوثيين على البحر الأحمر وكذلك تجاه “حزب الله” خلال مفاوضات عاموس هوكشتاين)، لكنها وافقت على مضض على العملية الإسرائيلية. وقد أسفرت هذه العملية خلال العام الماضي عن تغيير جذري في موازين المنطقة.

على الصعيد العسكري، جرى تدمير “حماس” ومعظم قطاع غزة بشكل لا يمكن إصلاحه، وجرى القضاء على أغلب قيادات “حزب الله” ومعظم قوته القتالية، ولو مؤقتا. وأظهرت الأحداث أن إيران مجرد “نمر من ورق”؛ فقد سمحت لفترة طويلة بتدمير وكلائها في غزة ولبنان. وعندما ردت، شنت هجمات صاروخية ضخمة على إسرائيل في أبريل/نيسان ثم في أكتوبر، لكنها كانت غير فعالة، في حين أظهرت الضربة المضادة الإسرائيلية في أكتوبر بشكل دراماتيكي تفوق إسرائيل التصعيدي على إيران.

استقرار المنطقة: على المدى القصير

هذا هو إذن الوضع الجيوسياسي الجديد الذي ستواجهه إدارة ترمب. الأولوية الأولى لترمب، كما أشارت بعض التقارير، وكما هي حاليا بالنسبة لإدارة بايدن، هي إنهاء القتال في غزة ولبنان وسحب القوات الإسرائيلية. لكن هذا لن يتحقق إلا إذا ضمنت إسرائيل أن “حماس” و”حزب الله” لن يتمكنا من إعادة بناء قوتهما بما يشكل تهديدا لها في السنوات المقبلة.

وبحسب ديفيد إغناتيوس، الذي كتب في صحيفة “واشنطن بوست” في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني، فإن بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن يضغطان من أجل نشر قوات دولية لحفظ السلام والاستقرار في غزة، وفقا لمقترح الإمارات العربية المتحدة، مع تضمين دور للسلطة الفلسطينية لتأمين الاستقرار المؤقت وإعادة الإعمار على المدى الطويل. وفي الوقت ذاته، تسعى واشنطن إلى إعادة تفعيل قرار مجلس الأمن رقم 1701 لعام 2006 في لبنان بشكل أكثر صرامة، مما يضمن إبقاء “حزب الله” بعيدا عن الحدود اللبنانية الإسرائيلية وربما يحد من تدفق الأسلحة من سوريا إلى “حزب الله”.

الخطوة التالية على الأجندة هي محاولة تقييد خيارات إيران النووية. وسيتطلب ذلك تأكيد إدارة ترمب على التزام الرئيس بايدن الذي أعلنه في 2021 باستخدام القوة إذا لزم الأمر لمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية. لكن هذا المسار سيتطلب أيضا، عاجلا أم آجلا، الدخول في مفاوضات مع طهران.

… وعلى المدى البعيد

من المؤكد أن الرئيس ترمب سيسعى إلى البناء على إنجازات إدارة بايدن بتوسيع نطاق “اتفاقات أبراهام” التي أُبرمت خلال ولايته السابقة، بهدف تحقيق الإنجاز الأكبر، وهو بناء علاقات دبلوماسية بين السعودية وإسرائيل. ويتطلب ذلك إحراز تقدم نحو سلام حقيقي بين إسرائيل والفلسطينيين. ورغم أن خطة ترمب السابقة للسلام لم تحقق النجاح المرجو، فإنها أظهرت استعداده للتفكير على الأقل في تسوية أشمل.

وبعد استعادة إسرائيل لقدرتها على الردع والقضاء، ربما بشكل دائم، على التهديدات على حدودها، فقد تكون مستعدة، تحت القيادة المناسبة، للمخاطرة من أجل السلام مع الفلسطينيين. وتلعب الدول العربية دورا رئيسا في هذا السياق. فقد ذكّرتها الأحداث الأخيرة بخطر إيران ووكلائها، مع الضغوط الإيرانية على الأردن عبر سوريا والعراق، وإغلاق الحوثيين لطرق النقل البحري في العالم العربي وتأثير ذلك على إيرادات قناة السويس المصرية. ويمكن لهذه الدول العمل على تعميق العلاقات العسكرية والتجارية فيما بينها ومع إسرائيل والولايات المتحدة.

ويجب على إدارة ترمب أن تدرك أن تحقيق هذا السيناريو المتفائل يتطلب إنهاء القتال في غزة ولبنان، وتقديم مسار واضح للمضي قدما في عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وقد أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” في الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني أن الدوائر الحكومية الإيرانية تعيد النظر في خطوات دبلوماسية، ليس فقط مع الدول العربية، استنادا إلى المبادرات الأخيرة التي تشمل الصين، والسعودية، والعراق ودولا أخرى، بل تمتد كذلك إلى الحوار مع الولايات المتحدة. وهناك بالتأكيد إمكانية للعودة إلى العلاقة الهادئة نسبيا التي سادت في التسعينات بين إيران وجيرانها والولايات المتحدة، خاصة بعد الضربات الحاسمة التي دمرت قدرة إيران على القيام بمغامرات عسكرية.

لكن يكمن الخطر في احتمال أن تترك إيران لواجهتها “الرسمية” المتمثلة في الرئيس ووزير الخارجية مهمة متابعة “الدبلوماسية”، بينما تستمر مراكز القوة الحقيقية، مثل المرشد الأعلى و”الحرس الثوري” الإيراني، في تنفيذ أجندتها التوسعية “غير الرسمية” سواء من خلال البرنامج النووي أو عبر وكلائها الإقليميين. وقد فشلت مبادرة الرئيس أوباما مع إيران إلى حد كبير بسبب عدم القدرة على التمييز بين هذين العنصرين في “الدولة” الإيرانية.

ورغم أن احتمال الإطاحة بالنظام الديني من قبل الشعب الإيراني يبدو ضعيفا، وأن أحدا- بما في ذلك إدارة ترمب- لن يسعى إلى الحرب أو تغيير النظام بجدية، فإن التخفيف التدريجي من سياسات إيران الخارجية المهيمنة، بالتوازي مع احتمالات التحرير في حوكمتها الداخلية، هو أمر ممكن وسيكون محل ترحيب كبير. ولضمان أن تكون هذه التحولات حقيقية وليست مجرد دعاية تخفي توسع “الحرس الثوري” الإيراني، يجب أن يضمن التحالف بين الدول العربية وأميركا وإسرائيل تجريد إيران نهائيا من خيارها العسكري البديل.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى