أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – حكومة بينيت – عباس… ابنة الانتهازية والالتباس

جواد بولس *- 25/6/2021

على الرغم من مرور شهر تقريبا على إعلان يائير لابيد عن نجاحه بتشكيل حكومة إسرائيلية جديدة، وحصولها على الدعم من قبل الحركة الإسلامية الجنوبية، لا نستطيع أن ندّعي بأن مشاعر سخط المواطنين العرب على هذه الحكومة بارزة للعيان، بشكل لا يقبل المناقشة والتأويل؛ ولا أن ندّعي بأن معارضة “الشارع” العربي، داخل إسرائيل، لقرار دعمها من قبل الدكتور منصور عباس وزملائه في القائمة الموحدة، واضح لجميع المراقبين والمتابعين والمحللين.

لقد سمعنا، بالطبع، انتقادات متفرقة لهذه الخطوة؛ وقد تصدّر نواب القائمة المشتركة حملات الانتقاد هذه، والهجوم على زملائهم في القائمة الموحدة، ومثلهم فعل قادة الحركة الإسلامية الشمالية، المحظورة داخل إسرائيل، ومعهم قيادات بعض المؤسسات المدنية والشخصيات النخبوية؛ ولكن إذا أصغينا بجدية لنبض الجماهير، وإذا نظرنا بدقة إلى طبيعة الأجواء السائدة في معظم القرى والمدن العربية، لن نشعر بحالة من الفوران والغضب الشعبيين، بل ربما سنلمس حالة من شيوع الالتباس، التي تجاورها، في بعض الجيوب السكانية الواسعة، مشاعر من الترقب أو التمني بخيرات حكومة التغيير الجديدة، كما سماها مقيموها.

لسنا في معرض تحليل هذا الواقع ولا بمآلات تشكّله التاريخي؛ لكننا نستطيع، بهذه العجالة، أن نعدد بعضاً من الأسباب البارزة التي ساعدت على بلورته، وعلى إفشاء حالتي: الالتباس العام والتخبط الهويّاتي. فهنالك فوضى في سوقي المواطنة والهوية؛ حيث لا يستطيع المواطن العربي العادي أن يقتفي، وأن يتفهم ما هي مواقف معظم الأحزاب والحركات السياسية والدينية الناشطة في مجتمعاتنا، إزاء العلاقة بين شقي معادلة وجودنا بمركبيها: المواطني/ الاسرائيلي والوطني/ الفلسطيني، ولا كيف يشتبكان أو يتعايشان، ليس في النظرية وحسب، إنما في حياة ذلك المواطن اليومية، وأثناء ممارسته للعلاقات الطبيعية مع مؤسسات الدولة وداخل مجتمعه.

وكي لا نذهب بعيداً في التاريخ، ولا نظلم أحداً على حساب أحد، أقول إن الجميع كانوا وما زالوا شركاء في خلق وهندسة هذا الواقع الملتبس؛ فالحركة الإسلامية نفسها كانت سبباً في خلق هذه البلبلة الهوياتيّة، خاصة بين مؤيديها؛ ليس فقط بتقديمها، كما هو متوقع، مركب الإسلام على غيره في هوية الإنسان/المواطن الفلسطيني، بل بخلقها حالة من الصراع الشديد داخل المجتمعات الإسلامية، عندما انقسمت على نفسها، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، واختلف جناحاها حول شرعية المشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلية. لقد نمّى ذلك الانقسام، الذي ما زال قائماً بحدة، مشاعر الضياع في كثير من التجمعات السكانية، وساعد على عزوف الكثيرين عن المشاركة السياسية، ودخولهم إلى حالة من الفردانية، وحتى الاستدفاء في أحضان الدولة، والتماهي مع مؤسساتها. ثم إن استغلال مجلس شورى الحركة لحالة الفوضى السياسية الحزبية القائمة، وللتناقضات في تعريف حدود الممنوع والمسموح، وطنياً ومواطنياً، ساعدهم، إلى حد بعيد، في تسويق قرارهم الأخير؛ خاصة بعد أن أكدوا على الملأ أن اختيارهم لنهج “الدبلوماسية النفعية” لم يولد في زمن الدكتور منصور عباس، بل سبقه إلى ذلك المحامي عبدالمالك دهامشة، الذي مثل الحركة في الكنيست، (منذ عام 1996حتى عام 2006)، ورغم سلوكها المعروف، لم تمتنع مركبات القائمة المشتركة عن اتخاذ الحركة الإسلامية حليفا لها في جولة الانتخابات قبل الأخيرة.

لم يكن حال حزب التجمع الوطني في خلق واقع المواطنين العرب السياسي التعيس أفضل من غيره؛ فعلاوة على التنافر البنيوي القائم بين عقيدة الحزب السياسية وطموحاته في الواقع الإسرائيلي، أدّى ضعف مؤسساته القيادية، وتعلقها لسنوات طويلة بمؤسس الحزب، حتى بعد استقراره في دولة قطر، وتخبطهم في اتخاذ المواقف المفصلية أحياناً، إلى ابتعاد أعداد بارزة من كوادره القيادية، وإلى خلق بلبلة كبيرة في صفوف واسعة من مؤيديه العلمانيين، وإلى تشظيهم بين مجموعات راديكالية ضاجة، ومجموعات تحترف الصمت إحباطاً ويأساً. وللتدليل على حجم دور حزب التجمع في تصنيع وإشاعة حالة الالتباس التي ذكرتها، سوف أستعين بمثالين وقد وفرتهما مؤسساته مؤخرا.

فقرار مؤتمره، قبل جولة الانتخابات الأخيرة، باستبدال رئيس الحزب، بعد مدة قصيرة جداً من انتخاب الرئيس، كان دليلاً على التخبط، وعلى افتقار قيادته لصفة الحسم، تماما كما ظهر في حالة امتناعهم عن تجريد مازن غنايم، الذي كان يعدّ أحد قياديي حزب التجمع البارزين، من عضويته في الحزب، حتى بعد إعلانه الانضمام إلى الحركة الإسلامية وانتخابه نائبا عنها في الكنيست، ناهيك من كون انتقاله هو خطوة انتهازية بامتياز. قد يكون دور الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة في تدهور الحالة السياسية بين المواطنين العرب في إسرائيل، هو الأكبر؛ ببساطة لأن دورها التاريخي في بناء ذلك الواقع كان أيضًا هو الأكبر. وحين أقول ذلك أعرف أن الكثيرين سوف لا يوافقون على هذا التقييم، أو أنهم فرحون لأن منجزات الحزب الشيوعي، ومن ثم منجزات الجبهة الديمقراطية، تآكلت أو أنها دمرت وأمست من دوارس الماضي. إنها مسألة كبيرة لا يمكن تغطيتها في هذا المقال، لكنني سأكتفي بالإشارة إلى عدد من العناوين الرئيسية، التي كانت تميّز مواقف الجبهة وممارساتها في عصر قيادتها الذهبي، آملاً العودة إلى معالجتها كما يجب. لقد اهتم آباء الحزب الشيوعي، وبعدهم قادة الجبهة الديمقراطية، إلى بناء معادلة متوازنة بين حقيقتي كوننا جزءا لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه، مواطنين في دولة إسرائيل؛ وقد ناضلوا، من مواقعنا، منذ البدايات، إلى جانب أبناء شعبهم وخطّوا، في أكثر من حالة تاريخية، شعارات المرحلة الوطنية، واجترحوا، في الوقت ذاته، وسائل الصمود والكفاح الحكيمة والناجعة. لم يغرهم بريق شعارات القوميين من جهة، ولم تردعهم، من جهة ثانية، هرولة بعض “مخاتير” العرب إلى أحضان إسرائيل، ولا زعرنات أذنابها في ذلك الوقت؛ لكنهم أكدوا دوماً على ضرورتين أساسيتين للصمود وهما: تعزيز الوحدة الكفاحية مع القوى المحلية الوطنية، والعمل مع القوى التقدمية اليهودية. لم يكتفوا بردود الفعل على سياسات إسرائيل العنصرية، فبادروا، كما يليق بقيادات مجتمع يكافح من أجل البقاء في الوطن، والعيش بكرامة وبمساواة قومية ومدنية، بوضع سياسات تستشرف المستقبل، وببناء المؤسسات الكفيلة للوصول إلى ذلك المستقبل. لقد استلهموا، في سبيل ذلك، تجارب الشعوب ونضالاتها ضد الفاشية تحديدا، فعرفوا متى وكيف تبنى الجبهات ومعها وحولها عدد من المؤسسات القيادية: النقابية والمدنية والنسائية والطلابية والشبابية والبلدية.

لم تحافظ الجبهة على صدارتها ومواقعها، لأنها لم تستحدث بناها التنظيمية، ولأنها قبلت بترئيس قيادات حزبية ضعيفة، وغير قادرة ولا معنية بمواكبة معظم التغييرات التي حصلت داخل المجتمعين، اليهودي والعربي؛ فتحولت معظم هيئاتها إلى مجرد هياكل باهتة تتحدث، على الأغلب، بأكثر من لغة وبعكس ما يتوقع منها.

لن أجد صعوبة بتقديم عشرات الأمثلة على تلكؤ مؤسسات الجبهة وغيابها عن تأدية دورها الريادي، أو عن قصورها المتكرر في مواجهة وإزالة حالة الالتباس المستشرية بين الناس، وفشلها في بناء جبهة عريضة لمواجهة اليمين والفاشية.

سيكفيني، في هذه الجزئية، أن استحضر كيف هاجم ويهاجم بعض القياديين الشيوعيين والجبهويين جميع الأحزاب والمؤسسات والشخصيات الصهيونية، بدون التمييز بينهم وبين مواقفهم إزاء مسألتي الاحتلال ومطالبنا بالمساواة، وإلزام رفاقهم بهذه المواقف، رغم عدم وجود إجماع حولها؛ كما رأينا في مواقف بعض قيادييهم وآخرهم ما بادرت اليه النائبة عايدة توما.

لا أعرف ما إذا ستهاجم النائبة عايدة توما من قبل بعض رفاقها، بسبب مبادرتها التي دعت فيها، بالشراكة مع زميلها النائب عن حزب “ميريتس” موسي راز، المعدود في قاموس السياسة الإسرائيلية من أحزاب اليسار الصهيوني، إلى عقد مؤتمر تحت عنوان “بين الاحتلال والأبرتهايد”. لقد عقد المؤتمر داخل الكنيست، رغم أنف عدد من النواب الفاشيين اليمينيين، وشاركت فيه، قبل يومين، مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني، العربية واليهودية. لقد أوضحت النائبة توما، على صفحتها على أنه “في السنوات الأخيرة غيّبت الحكومات الإسرائيلية موضوع الاحتلال من خطاب غالبية الخريطة السياسية، ولكنها لم تغيّب من جدول أعمالها هي تعميق الاحتلال، وتوسيع المنظومة الكولونيالية للاستيطان، ونشاطات ترسيخ نظام الأبرتهايد”؛ وهذا ما دعاها إلى المضي في مبادرتها بالشراكة التامة مع النائب عن حزب “ميريتس” الصهيوني، الذي أعلن ويعلن أسوة بصهاينة كثيرين معارضته للاحتلال، ووقوفه في وجه الفاشية والفاشيين، وتأييده لجميع مطالبنا بالمساواة التامة.

ما زلت أراهن على أن حياة هذه الحكومة ستكون قصيرة؛ وهي في الواقع ليست أكثر من بديل يميني بجوهره، فُرض على جميع الشركاء، لأداء مهمة الانتقال من عصر اليمين النتنياهوي، الذي يدفع ثمن جشع وتورط أيقونته وقائده “المفدى”، إلى عصر الظلمات الذي قد يجتاح البلاد قريبًا من النهر وإلى البحر.

فإذا حصل ذلك وسقطت هذه الحكومة، علينا، كما قلت مرارا، أن نراجع بعض مفاهيمنا السياسية الأساسية، وأن نفتش عن حلفائنا من أمثال موسي راز وغيره، ومعهم نبني جبهتنا ونعزز قوتنا في وجه حكومة الظلام الآتية.

*كاتب فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى