أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – حاج في دبي… نعمة أم نقمة؟

جواد بولس *- 25/9/2020

ستبقى زيارة وفد بنك لئومي الإسرائيلي، إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، علامة فارقة وحاضرة في أذهاننا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، كلما جيء على ذكر توقيع اتفاق التطبيع الإماراتي؛ ببساطة لأن من ترأس وفد كبار رجال الأعمال الإسرائيليين كان الفلسطيني/الإسرائيلي الدكتور سامر حاج يحيى، ابن مدينة الطيبة في منطقة المثلث، بصفته الرئيس المنتخب لمجلس إدارة هذه المؤسسة المصرفية الصهيونية العريقة.

لقد أثار انتخاب الدكتور سامر لمنصبه المهم، قبل أكثر من عام، نقاشًا متواضعًا، سرعان ما انطفأ وطويت صفحته، في مشهد يؤكد، مرة أخرى، على أن «المجتمع العربي في إسرائيل» يعيش حالة من «فوضى الهويات» والتيه، حتى لم يعد صعبًا، على من يدقق في واقع الناس وتحرّكاتهم، أن يرى كيف يقفون وقد مسهم اللبس، على ناصيات عدد من المفارق، وبينها طبعًا «المفرق 48»؛ لكنه ليس وحيدًا.

لن تنتهي مناكفاتنا الداخلية عند تخوم دبي، ولا في مياه البحرين؛ فهي لم تبدأ أصلًا مع توقيع هذين الاتفاقين ولا بسببهما؛ ولكن رب ضارة نافعة، فقد تقربنا تداعياتهما إلى ما طالبتُ به منذ سنوات، وتجبّر أولي الأمر في مجتمعنا على إعادة حساباتهم بواقعية وبجرأة وبوطنية صادقة، فعساهم يتفقون على مجموعة مساطر واضحة ومقبولة، سيكون من شأنها أن تهدي المواطن الحائر، إذا ما اشتبك «الفردي» لديه «بالعام» إلى بر الأمان؛ أو أن تحثهم من أجل وضع خريطة تحدد للمواطنين الأنقياء والعصاميين «حدود الاندماج» في أروقة الدولة، فنحن نعيش في واقع سياسي واجتماعي واقتصادي متحرك بشكل دائم. لقد كان واضحًا أن إصرارنا المحقّ على نيل كامل حقوقنا المدنية من الدولة، سيفضي تلقائيًا إلى نشوء خلافات حادة، خاصة بين من يمارسون مواطنتهم بشكل طبيعي ويومي وعصامي، وأولئك الذين يخفون مواقفهم الحقيقية، أزاء مكانة الدولة وأزاء مؤسساتها، أو من بقوا أسرى لقوالب عقائدهم السياسية، التي بنيت على أنقاض النكبة؛ فحياتنا، بعد سبعين عامًا من المواجهات والبقاء، أصبحت أكثر تعقيدًا وتشابكًا مع مؤسسات الدولة؛ وزيادة عددنا إلى ما يقارب المليونين، لم يمد أحفاد المستعمرين الأوائل بمزيد من «الحطابين وسقاة الماء» بل على العكس تمامًا؛ فقد كبرنا وكبرت إنجازاتنا، ولم نعد مجرد حفنات من رخويات تخشى لسعة الشمس وغرزة المخرز، ولا عكاكيز تُغمز بأرجل مخاتير من خشب باعوا ضمائرهم على وليمة منسف. لم تغب حتمية حدوث هذا التصادم عن بال قيادات مجتمعنا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، فقادة الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية، في ما بعد، ومعهم عدة قياديين وطنيين وشخصيات مستقلة وازنة، كانوا يناضلون من أجل نيل حقوق المواطنين العرب، ومن أجل مساواتهم التامة، في دولة طالبوا أن تكون لكل مواطنيها؛ وبالمقابل كانوا يديرون الصراع على حقوقهم القومية، بوسائل لم تفرغ نصف المعادلة المدنية من مضامينها، ولم تلغ نجاعتها؛ فهم، من خلال انتقاء الشعارات والبرامج السياسية المناسبة من جهة، وبناء الأطر الحزبية والحركية الملائمة من جهة أخرى، نجحوا بإقامة التوازن القيادي الضروري والسليم، فكانت مبادرة بناء «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» ومعها «لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية» و»لجنة متابعة شؤون الجماهير العربية» وغيرها من أطر نقابية وحرفية وطلابية ونسائية – كانت تجارب رائدة وقفت في وجه سياسات إسرائيل، واضطرتها إلى تغيير بعض ممارساتها العنصرية نحو المواطنين العرب، خاصة في ما يتعلق بسياسة التعليم والتوظيف والإقصاء الجمعي والعشوائي، واستبداله، في بعض القطاعات، بسياسة إيجابية انتقائية، استهدفت رعاية بعض الشرائح والنخب، ودعم تطورها مدنيًا واقتصاديًا، كما جرى ويجري أمام أعيننا.

“حياتنا، بعد سبعين عاماً من المواجهات والبقاء، أصبحت أكثر تعقيداً وتشابكاً مع مؤسسات الدولة “.

لم يفاجئني صديقي محمد عندما سألني: يعني أما زلت متحمسًا ومبارِكًا لتبوء الدكتور سامر حاج يحيى لهذا المنصب؟ وذكّرني بمقالة كتبتها بعد انتخابه رئيسًا للبنك، تناولت فيها بعض تعقيدات حياتنا في إسرائيل وقلت: «يرمينا واقعنا الإسرائيلي في كل يوم بمعضلات هي إفرازات طبيعية لحياتنا المركبة؛ وقد تكون رئاسة مواطن عربي لإدارة «البنك القومي الإسرائيلي» واحدة من تلك المعضلات». ثم أردفت قائلًا: «أنا شخصيًا لا أراها كذلك، ولن أتردد بتهنئة الدكتور حاج يحيى على جميع منجزاته وتفوقه، وآخرها فوزه بالمنصب، وهو منصب رفيع وحساس ومؤثر، ولا يشبه ما سبقه من تعيينات». لم أندم على تهنئتي للدكتور سامر حاج يحيى، فأنا لم اعتبر فوزه «إنجازًا تاريخيًا لمجتمعنا العربي» لكنني، رغم ذلك، اعتبرت أن فوزه بالمنصب «يعدّ تاريخًا، صنعه فرد مميز يستحق أن نبارك له إنجازه الشخصي الكبير». لكنني، مع ذلك، أعي وجود إشكال في تصرف الدكتور حاج يحيى الفردي، فاستعماله لحقه الشخصي، قد يتناقض وواجبه تجاه مجتمعه، خاصة بعد أن صرّح بأنه عاد إلى الطيبة من الغربة كي يضمن مستقبلا أفضل لأولاده، ولا أظنه قصد مستقبل اولاده، بدون مستقبل الآخرين من أولاد مجتمعه.

لنترك قضية الدكتور حاج يحيى، ولنفكر بعقلية مواطن صالح كدح لسنين طويلة حتى يؤمّن لابنته، وضحى، فرصة لتتعلم الطبابة. أرسلها وراح ينتظر بحرقة لمدة ثمانية أعوام، فعادت إليه طبيبة ناجحة بامتياز؛ فحلم، وهو يحتضنها، بأن تصبح نطاسية يشار إليها بالبنان، فصارت؛ فطمح بأن ترأس القسم الذي تخصصت، فرأسته؛ فصلى.. فأصبحت علمًا تتسابق عليها المنصات العالمية، وعضوا في أرقى المنتديات العلمية، وسطع نجمها بين الأمم؛ فهل نؤنبها ونخوّنها لأنها قبلت أن تجلس على مقعد وأمامها علم دولتها إسرائيل؟ وهل نوبخ أباها لانه لم يحسن تربية ابنته فاسمها العربي يضيء الشاشات ولكن بعده يكتب: عالمة من إسرائيل؟

أستطيع أن أغرق القراء بكم هائل من هذه الامثلة، فالمتفوقون من أكاديميين وحرفيين ورياضيين وتقنيين يملأون قرانا والمدن وقد تم استيعاب بعضهم في عدة وزارات ومؤسسات وشركات رائدة، وتبوأوا فيها أعلى المناصب وذلك رغمًا عن كونهم عربًا. فلماذا لم نواجه هذه الحالة في الماضي؟ لم ننتبه في الماضي لوجود هذه الحالة، لأنها لم تكن موجودة فعلًا، وذلك بسبب عنصرية الدولة؛ فإسرائيل ومنذ قيامها لم تحتمل أن يمثلها مواطن عربي، حتى لو كان فذًا في مجاله وفريد عصره، وقد تحكمت أجهزتها، خاصة جهاز الشاباك، بسياسة قبول الطلاب العرب للجامعات، لاسيما في كليات الطب والهندسة والقانون، فكانت أعداد الطلبة العرب المقبوله في تلك الكليات قليلة ومحدودة، وفرص انخراط الخريجين فيها في مؤسسات الدولة ضعيفة أو معدومة؛ علاوة على إغلاق عدة كليات جامعية، أو معاهد تدريسية عليا ونخبوية، مثل معهد فايتسمان، في وجه المواطنين العرب.

إذن «للحقيقة وجهان» واحد نستطيع نحن المواطنين العرب رسم ملامحه، والآخر يبقى تحت «رحمة» الدولة، فعندما كانت علاقتنا بالدولة وعلاقتها بنا تراوح بين احتمالين، كانت خياراتنا بسيطة وواضحة، ولكن عندما تعددت الفرص وفتحت الدولة، كما طالبنا، بعض مساماتها أمامنا، صارت الأمور أعقد والمعضلات كثيرة؛ وفي غياب حلول لها، اصطدم بها الافراد بانفسهم. من تفاجأ أو استفز من زيارة الدكتور حاج يحيى لدبي ستميته المفاجآت المقبلة أو سترهقه؛ فقضيتنا لم تولد مع فوز «الحاج» بمنصبه في «بنك لئومي» ولن تنتهي إذا استقال منه، أو إذا لم يذهب للزيارة، أو لم يشارك في غيرها؛ مشكلتنا كبيرة ولا تنحصر في سلوك فرد قيّض له النجاح الشخصي بسبب تفوّقه وتميّزه؛ فنحن نواجه حالة شاذة، تعريها احيانا نجاحات أولئك الأشخاص، وهي قد ولدت من رحم المواطنة نفسها، وكبرت منذ طالبنا باسم المواطنين بتخصيص وظائف تساوي نسبتنا من تعداد سكان الدولة، فحينها استشعرت وجود مشكلة وكتبت: «ماذا نريد ومن يملك تحديد المساطر وتوزيع المماحي والبيكارات؟ أين حدود المسموح وما الممنوع؟ أتريدون حقًا وظائف تساوي نسبة عددنا من سكان الدولة، في كل وزارة ودائرة وشركة وجهاز ومحفل؟ وهل يجب أن نناضل من أجل استعادة كراسينا المسلوبة في شركات الدولة، أو في هيئة موانئ إسرائيل ومصلحة الضرائب والجمارك وهيئة البترول والغاز والبورصة وبنوك اسرائيل؟».

صرخت وضاعت صرختي في واد. لم يرِث أحدٌ جيلَ الكبار وتعاقبت الأجيال من دون رعاة وقادة، وبقيت الاسئلة القديمة عالقة تنتظر الخلاص، فمن يقرر ماذا؟ ومن يضع قواعد الاشتباك بين الفردي والعام؟ ومن يرسم حدود الاندماج؟

قد لا يأتينا الفرج قريبًا، ولكن ذلك لا يعفي قامة مثل الدكتور سامر حاج يحيى من أن يبادر كقدوة ويرسي سابقة، فيعمل من أجل مؤسسته بإخلاص، ويمثل، في الوقت نفسه، قضايا مجتمعه ويدافع عنه من على كل منصة ومنبر. عليه أن يجد الوسيلة، فإذا فعل هو ذلك وفعل مثله الآخرون فقد تصبح ريوع المواطنة بركة لعامة الناس والمجتمع، لا أرصدة شخصية في حساباتهم الشخصية وحسب.

*كاتب فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى