أقلام وأراء

جواد بولس يكتب الهوية بين إغواءات المصالح وتعدد الولاءات

جواد بولس 7/5/2021

مرّة اخرى أخفق بنيامين نتنياهو بتأليف حكومة على مقاساته، رغم جميع مراوغاته السياسية، واستعداده لتقديم حتى نصف مدة رئاسة الحكومة لنفتالي بينت، زعيم حزب «يميناه»، الذي بات يطمع برئاسة الحكومة المقبلة من دون واسطة نتنياهو، ويناور من أجل تعزيز مواقع حزبه الانتخابية، استعدادا منه لمواجهة المعركة الانتخابية المقبلة في حالة عدم التوصل إلى تشكيلة حكومية تحظى بدعم الأغلبية من بين أعضاء الكنيست الحاليين.

ومن الواضح أن المجتمع اليهودي يعيش في ظروف أزمة كبيرة، تعكس في الواقع، كما كتبت في الماضي، ملامح المتغيرات الاجتماعية والسياسية العميقة ،التي حدثت في السنوات الماضية، وما زالت تتداعى فصولها متسارعةً داخل المجتمع اليهودي/الصهيوني/ المتدين في الدولة.

ليس من الصعب أن نراهن اليوم على أن هذه الأزمة لن تنتهي قريبا، بمنأى عما ستفضي إليه مساعي تركيب الحكومة الحالية، أو نتائج المعركة الانتخابية المقبلة؛ فإسرائيل اليهودية ذاهبة بمعسكريها لتخوض حربها الفاصلة في «أم المعارك»، ولتحسم أمرها، إما بانتصار دولة الحركة الصهيونية «البنغوريونية»، وإما بهزيمة هذه أمام مملكة « الراب دروكمان» ومن معه من أمراء العرش، وكهّان المذابح.

لم تتركنا هذه الأزمة سالمين؛ فكلما احتدمت معالمها وجدنا أنفسنا، نحن المواطنين العرب، أمام جدران موصدة، أو تائهين لا نصحو من حلم إلا لنغطس في كابوس قديم؛ ثم نفيق مجددا لندرك أن أرضنا مرايا من زجاج هش، وخيولنا تطارد، هناك في قمم المستحيل، أشباحهم الخرافية؛ وأمانينا، التي شربناها في حكايات المطر، أصبحت سطورا معلقات على صدر تاريخ أصم. كم سألنا ما العمل؟ وكم نادينا حي على الفلاح.

لقد حاولت أن أسهم، في مقالات سابقة، بطرح مجموعة من المقترحات/الأفكار التي وصفتها كاجتهادات شخصية خارجة عن المألوف، بعد أن يئست، مثل الكثيرين، من رغبة وقدرة الأحزاب والحركات والمؤسسات المدنية، على تغيير واقعنا المؤلم، وعلى مواجهة المخاطر التي تتربص وتعصف بمجتمعاتنا. وللأسف لم تلق جميع تلك المقترحات أي نوع من التفاعل، لا من قبل مؤسسات تلك الأحزاب، ولا من قبل أي الجهات أو الأشخاص. قد تكون اجتهاداتي، بعين جميع أولئك غير المعنيين أصلًا بالتغيير، فاشلة، أو غير ملائمة أو غير واقعية، لكنني توقعت أن تُناقَش، ولو من باب تحريك الساكن، من قبل بعض المعنيين من أكاديميين ومثقفين، أو ناشطين  اجتماعيين، أو خبراء متخصصين، أو متابعين يشكون من كثرة التحليلات، وانعدام الحلول والاقتراحات. توقعت ذلك لأنني مؤمن بضرورة الشروع في التفكير ببناء مؤسسات اجتماعية، وأطر سياسية جديدة، ووضع تصورات خلاقة لوسائل نضال مستحدثة وقادرة على حماية مجتمعنا وإنقاذه؛  فعندما ناديت لبناء «مجلس طوارئ أعلى» أو لإقامة «اللجنة ضد الفاشية»، أو «منتدى الحقوقيين العرب» أو «رابطة العلمانيين العرب» أو «منتدى الحقوق المدنية»، توخيت إقامة مجموعة أجسام متخصصة في ميادين مختلفة، كي تبدأ بالعمل من داخل المجتمع، وتحاول تنظيمه وإعادة ثقته بالنشاط السياسي، وبضروة النضال الجماعي؛ وكي تحاول، كذلك، اختراق المجتمعات اليهودية، وتجنيد من يرون انفسهم من داخلها، كضحايا محتملة للنظام السياسي الفاشي المتشكل أمامنا وأمامهم.

حاولت، من خلال بعض الأصدقاء، أن أفهم لماذا لم تتفاعل أي جهة أو مؤسسة أو حتى شخصية، مع أي مقترح من جميع ما ذكرت، ولم نتوصل إلى نتائج قاطعة؛ بيد اننا حين استبعدنا الفكرة، أن جميع تلك المؤسسات والأطر المقترحة لا تشكل، عند البعض على الأقل، تحديات جديرة بالمناقشة، توصلنا إلى حقيقة مزعجة ومقلقة مفادها، ان العناوين التي افترضنا أنها يجب أن تكون معنية بتغيير واقع العمل السياسي والاجتماعي البائس، وتلك التي افترضنا أنها قادرة على تناول هذه المسألة بمهنية وبدوافع وطنية وبمسؤولية اجتماعية عليا، لم تكن مثلما توقعنا أو افترضنا.

ويبقى السؤال لماذا؟ من راهن على أن اسرائيل ستترك مواطنيها العرب يبنون أعشاش أحلامهم في عرى مواطنة هادئة فقد أخطأ؛ ومن افترض أنه إذا ابتعد طوعيًا عن أحشائها ليعيش كمواطن عربي «سلبي» ويتكاثر بصمت كالنمل، أو كي يمارس حياته على دائرة رغيف الخبز ، فقد أخطأ أيضا؛ ومن وقف على رصيف الزمن منتظرا زحف جحافل الشرق لاستعادة بلاده المنكوبة، أو مَن دعا السماء، حبيبته وحليفته، لتزلزل كي يحصحص الحق، فقد راهن على غيب غافل وعلى قدر عاقر. فإسرائيل تعرف أننا، نحن المواطنين العرب، لحاء الزمن الساري في عروق هذه الأرض، وتعرف أنها اليوم أقوى من أن تنام على جرح ينزف بين ساقيها، وهي، لكل ذلك، تدفعنا لنختار المستحيل! وكي نحدد وجهتنا بخيار واحد من بين انتمائينا الحقيقيين: مواطنين، بحكم البقاء والإصرار، وفلسطينيين باقين كأنفاس من هُجّروا أو هجروا.

هنالك أسباب عديدة لاستفحال أزمتنا الحالية، وقد نضع في طليعتها حقيقة أننا كمجتمع، يعيش حالة مواجهة مع سياسات الدولة، لم نفرز، رغم مرور السنين، رؤى كفاحية حقيقية واقعية توازي وتواكب ما طرأ على المجتمع الاسرائيلي وعلى مجتمعنا العربي من تطورات، وتحاول إيجاد السبل الصحيحة، إما للتوافق المتزن مع الدولة أو للاشتباك الرابح معها. أما، بالمقابل، إذا اقتفينا آثار السياسات الإسرائيلية، فسنجد حدوث بعض التغيّرات المفاهيمية الاستراتيجية، التي اتبعتها مؤخرا مؤسسات الدولة تجاه بعض فئات من مواطنيها العرب، وسنلحظ مثلا أنها أفسحت، بمنهجية ذكية، هوامش لممارسة مواطنة مريحة، مدروسة ومحدودة، أدت، مع مرور الوقت، إلى نمو شرائح اجتماعية جديدة ولافتة ومؤثرة في مجتمعاتنا، راحت تربط مصائرها، ولو بصورة خفية ومموهة، مع مصالحها، فصارت طريقها من هناك إلى تحديد انتمائها الهوياتي محصورة، أولا وأخيرا، ببعدها المواطني الفردي أو الشرائحي. لقد استهدفت سياسات إسرائيل الجديدة فئات عديدة من الأكاديميين العرب، وقررت استيعابهم في مؤسساتها الحكومية والأكاديمية، والتابعة للقطاعات الخاصة السمينة، وأرادت من وراء ذلك تحييد الكثيرين منهم وإبعادهم عن إمكانية الانخراط في نشاطات كفاحية مباشرة، أو بمبادرات مثل تلك التي اقترحتها، إذا كان تقييمهم بأنها مبادرات قد تستفز مخططات الحكومة وسياساتها النافذة.

إنها حالة تستدعي الدراسة والتمحيص بمسؤولية عالية، وبعيدا عن خطابات التهريج والتقريع والهجاء، التي يمتهنها بعض مقاولي الأحزاب وناشطيها المؤذين وبعض المزايدين؛ ففي النهاية لا يمكننا تأجيل مواجهة إشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا نعيشه بروتينية هشة، إلى أن قررت إسرائيل التدخل بصورة فظة وقامعة، وليس فقط عن طريق سن التشريعات العنصرية. لا تحتاج هذه المواجهة إلى الجرأة فحسب، كما يطالب البعض، بل إلى تذويتها كحاجة وطنية وجودية ضرورية وملحّة، وكمعضلة تستدعي تفكيكها بمفاهيم صحيحة ونقاط توازن سليم بين المركبين؛ فبدون أن تنجز القيادات الأمينة والنخب الحرة هذه المهمة سيبقى التصرف بمفاتيح هذه المعادلة متاحا بعشوائية لكل المواطنين، ولأحزابهم وتأطيراتهم وحسب أهوائهم وانتهازياتهم، ويكفينا ما نراه عند بعض رؤساء المجالس والبلديات، أو لدى بعض مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك طبعا في ما تمارسه الحركة الاسلامية ورئيسها منصور عباس، وبين الكثيرين من المواطنين.

لا استطيع التعميم، بطبيعة الحالة، ولا الجزم في ما قلت؛ لكن استمرار النأي عن مواجهة الأزمة سيفاقمها وسيبقينا ننزف على دائرة مغلقة ودامية؛ في حين سيقف خارجها الذين يؤمنون بأن معارك اليهود مع بعضهم لا تعنينا، ذلك أن إسرائيل، بحسب هؤلاء، دولة كانت أم مملكة، مصيرها إلى فناء؛ ومعهم سيقف، على الضفة الثانية، أولئك الذين يمضغون قات المواطنة الرخيص، ويمارسون على وجوههم السمراء «عمليات التجميل الإسرائيلية» بدون حسابات ولا روادع.

ويبقى السؤال: ما العمل؟ الدعوة إلى تشكيل حركة شعبية؟ أو ربما إقامة حزب جديد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى