أقلام وأراء

جواد بولس يكتب –  القدس مدينة الحجارة الباكية

جواد بولس 22/11/2019  

أغارت عناصر من قوى الأمن الإسرائيلية، قبل أيام، على عدد من المؤسسات المقدسية؛ ثم أعلنت، بعد تفتيشها ومصادرة بعض محتوياتها، عن إغلاقها، وذلك بمقتضى أمر صادر عن وزير الأمن الداخلي، جلعاد أردان، وفقًا لصلاحياته حسب ما يسمى بقانون تطبيق الاتفاق الانتقالي في الضفة الغربية وقطاع غزة (تحديد نشاطات) لعام 1994.

من بين ضحايا هذه «الغارة»، التي لن تكون الأخيرة في المدينة، كان مبنى مستأجر في حي «الصوانة» من قبل شركة «الأرز للإنتاج الفني»، وهي شركة تقدم خدمات تقنية لفضائية تلفزيون فلسطين الرسمية؛ ومكاتب مديرية التربية والتعليم؛ ومدرسة دار الأيتام الإسلامية التي تعمل تحت إدارة ومظلة دائرة أوقاف القدس، التي تم اعتقال مديرها سمير جبريل.

سينسى العالم بعد أيام ما حصل، فهذه الهجمة لن تُحدث ردود فعل مأساوية، محلية أو عالمية؛ كما لن تستثير مشاهدُ الجنود الإسرائيليين، وهم يقتحمون المباني ويعبثون في محتوياتها، هممَ «الثوّار» أو سهام فيالق المنافقين؛ ولن تجِد إسرائيل، بالتالي، نفسها مجبرة على إعادة حساباتها وسياساتها تجاه القدس الشرقية، وتجاه سكانها، رغم ما ستسمعه من بيانات شجب وتنديد قاسية ومن أناشيد الغضب والوعيد. لقد حذرنا، منذ سنوات، من تأثير ممارسات إسرائيل في القدس المحتلة، وقلنا إن المدينة تخضع لعملية اغتصاب بشعة، وإنها تقف على حافة الضياع. قد يقول قائل بأن مطامع وسياسات إسرائيل، أزاء القدس، لم تختلف طيلة العقود الماضية؛ فمنذ لحظة احتلالها الأولى عام 1967، أعلنت حكومة إسرائيل ضمّها كعاصمة أبدية لها؛ لكننا، في الوقت نفسه، نعرف أنها، رغم محاولاتها الدؤوبة لابتلاع المدينة، لم تنجح عمليًا في تحويلها إلى مدينة واحدة؛ وبقيت القدس الشرقية، على الأقل حتى مطلع الألفية الثالثة، فلسطينية النبض بدون رتوش، وعالمية الأبواب والقباب بدون خدوش.

ونعرف، كذلك، أن أهلها ومجتمعها وقفوا وراء قادتهم الأوفياء كالطود متماسكين في وجه العواصف، وواجهوا، وهم موحدون حول هوية وطنية واضحة جامعة، كل هجمات إسرائيل على مدينتهم؛ فصمدوا لأنهم كانوا يتنفسون معًا أنسام الحرية الحمراء، ويعرفون مَن هو العدو ومَن الصديق، ويبحرون صوب شاطئ الأمل، برايات وبيارق موحدين. لم يترك «العالم» القدس تقاتل لوحدها، فأحاطوها بحضن دب جائع. مدّ الأعداء إلى نحرها الرماح فنزفت كالعروس على مهل؛ وغز «الأشقاء» في خواصرها خناجرهم، فبكى على جيدها الياسمين؛ نامت عذراء الشرق، مخدّرة من أدعية بعض وعاظ السلاطين، وأفاقت مذعورة على طرطقة فضة «يهودا» وعلى صراخ باعة الحمام وتعاويذ النخاسين.

 عرف القائمون على تنفيذ وإنجاح المشروع الصهيوني الكبير بأن الطريق إلى النصر سيصبح سهلًا بعد تشظية الوجود الجمعي المقدسي الفلسطيني.

تلقف قادة إسرائيل هدية السماء بفرح وبخبث عظيمين، وأحسوا وهم أحفاد يوشع وقابيل، أنهم يمسكون بقرون «أطلس» وبأن الزمن صار تحت أقدامهم تبرًا ورمادًا، فبدأوا ينهشون أضراعها ويتقدمون في شرايينها على وقع الحديد والمزامير. لا وقت، في هذه المقالة، لعد المقاصل ولإحصاء الوعود ولتسمية جميع «خضراوات الدمن»؛ فنحن نعيش عصر العجز العربي، ونشاهد، منذ اكتشفت المنابر سحر الكذب والرياء، هزائم العرب؛ ونرى كيف تدفع قدسنا أمامهم «لبيلاطس» جزيتها فيتقاسمها مع جميع خلانه من غيلان المال والدم، وأمراء الشهوة والنار. علمت إسرائيل أن فوزها بالجغرافيا والتراب فقط لن يحوّلها إلى «أميرة» الشرق، ولا الى جارة للقمر، ولا إلى «سيدة» الأحلام والنحاس؛ فسعت بمثابرة ثعلب وبمراوغة ذئبة، إلى تقطيع أوردة أمل المقدسيين، وإلى تشتيت لحمتهم الوطنية والسيطرة على بواطن يأسهم وإلى الدخول عميقًا في جيوبهم والاستيطان في صدورهم.

لم تنجح في مساعيها، رغم البطش والرش، إلا بعد رحيل فارس القدس الوفي فيصل الحسيني، عندما قامت مباشرة بعد وفاته بإنزال ضربتها الماحقة الأولى، حين أعلن وزير أمنها الداخلي في شهر أغسطس/آب من سنة 2001 عن اغلاق «بيت الشرق»، وعدة مؤسسات فلسطينية مؤثرة ومهمة، كان من بينها «الغرفة التجارية الصناعية العربية» و»المجلس الأعلى للسياحة» و»مركز القدس للتخطيط» و»مركز تطوير المشاريع الصغيرة» و»مركز أبحاث الأراضي» و»نادي الأسير الفلسطيني» وغيرها من المؤسسات المدنية التي كانت تقدم خدماتها المتنوعة لأهل القدس وللفلسطينيين عمومًا. لم تقم إسرائيل بإغلاق تلك المؤسسات صدفة، وبدون غاية استراتيجية مدروسة؛ فساساتها أولئك الذين يخططون معاركها، استهدفوا كسر عامودها الفقري، وحدة المجتمع المقدسي، وهويته الفلسطينية الجمعية، التي شكلت في الواقع، العقبة الرئيسية في وجه تمرير مخططات إسرائيل فيها، وأفشلت تفريغ المدينة من سكانها العرب، وتوحيد شطري المدينة وإخفاء حقيقة كونها مدينتين مختلفتين ومشطورتين بحراب الاحتلال. لقد عرف القائمون على تنفيذ وإنجاح المشروع الصهيوني الكبير بأن الطريق الى «نون» النصر سيصبح سهلًا بعد تشظية الوجود الجمعي المقدسي الفلسطيني، وأن هذا لن يتحقق الا إذا استطاعت إسرائيل القضاء على منظومة عمل المجتمع المدني ومؤسساته الناشطة في القدس، بشكل مستقل وتقدم خدماتها للناس بعيدًا عن وزارات الاحتلال وعن بلديته.

كانت هذه الجمعيات والمراكز على أنواعها تفرز ما يشبه الصمغ الوطني داخل المجتمع المقدسي وتمتّن، من خلال نشاطاتها وعلاقاتها المباشرة، أواصر الهوية الفلسطينية الواحدة، وتنمّي روح الانتماء الكلّي والترابط العضوي بين الأفراد، وبعضهم، وبينهم وبين مؤسساتهم؛ فعمليًا لم تتوقف أهمية ما كانت تقدّمه هذه المؤسسات على الدعم المادي والمعنوي، لانها شكّلت مظلة واقية، رسمت تحتها خرائط الأمل الشعبي ونمّت مشاعر الإيمان بالمصير المشترك، فصار للصمود في المدينة معنى، ولحياتهم فيها هدف سامٍ وقناعة بأنهم ماضون على طريق التخلص من الاحتلال والحصول على الاستقلال في دولتهم المستقلة. لم يكن «بيت الشرق» مجرد مؤسسة أهلية اجتماعية مدنية عادية، أو رمزًا سياسيًا فلسطينيًا هامشيًا، بل شكّل طيلة سنوات وجوده «ضدًا» للوجود الإسرائيلي، ودليلًا قاطعًا، أقر به البعيد قبل الداني، على أن القدس الشرقية هي مدينة فلسطينية تستطيع أن تدير جميع شؤونها كعاصمة لدولة فلسطين العتيدة. لقد تحول «البيت» مع السنين، بجهود الفيصل ومعه ثلة من القادة والشخصيات المقدسية الوفية والمنتمية، إلى قبلة القضية الوطنية، وإلى الخيمة الجامعة والمظلة الواقية، التي وفرت للمقدسيين بوصلة للاسترشاد وللنضال الوطني السليم ، وسببًا للانتماء النقي ومثالًا للتضحية والعطاء.

لم يحمِ الفلسطينيون «بيتهم» كما حماه فيصل ورفاقه ومقدسيو ذلك الزمن؛ فبعد نجاح الاحتلال الإسرائيلي بإغلاقه وإغلاق عدد من المؤسسات المؤثرة معه، غدت مهمة القضاء على ما تبقى من جمعيات ومراكز فلسطينية، سياسية واجتماعية مدنية، عملية سهلة، كما رأينا خلال العقدين الأخيرين، وكما شاهدنا في الأسبوع الأخير.

تغلق إسرائيل المؤسسات الفلسطينية بمقتضى قانون شرّعته بعد اتفاقيات أوسلو، وحظرت فيه ممارسة أي نشاط فلسطيني في المدينة ذي علاقة اياً كانت مع السلطة الفلسطينية ووزاراتها، أو مع منظمة التحرير ودوائرها. لا أعتقد أن المشكلة تتوقف عند عتبات هذا القانون، بل المصيبة بمن خنعوا لسياط هذا القانون، فإسرائيل تتصرف بعنجهية فرعونية مفرطة، لأنها تعرف أن المدينة منهكة، ولا يوجد من هو قادر أو معنيّ بشكل حقيقي بصدها. لقد خلق فيصل وجيله ميزان ردع متبادل مع الاسرائيليين، فأجبرهم على احترامه وعلى التصرف وفقًا لقوانينه؛ وعاش مؤمنًا بحق شعبه بدولة مستقلة في حدود يونيو/حزيران 1967 فلم يزايد ولم ينتظر الخلاص المدعوم بالوهم والدولار؛ ولم يكتفِ بالدعاء حتى تهبط طيور الرعد والنار لإنقاذ المدينة، بل خاض جميع معاركه من أجل الكرامة والصمود اليومي، لأنه كان يعرف أن من لن يناضل في سبيل «مدينته» وهو حر كالعواصف والجبال، سيبكيها يومًا وهو عبد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى