أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – الحركات الإسلامية بين نداءات المقاطعة والدعوة للاندماج

جواد بولس *- 2/4/2021

رغم مرور عشرة أيام على انتهاء الجولة الانتخابية الرابعة للكنيست الإسرائيلية، لم تظهر بعد بوادر انفراج الأزمة السياسية القائمة، وذلك رغم محافظة الأحزاب اليمينية على قوّتها وتراجع نسبة المصوتين العرب بشكل بارز، فالانقسامات الداخلية بين أحزاب اليمين والعداوات الشخصية التي يكنها بعض زعاماتها لشخص بنيامين نتنياهو أدّت إلى تعقيد وضعه وإلى منعه من جني نتائج إنجازاته في حقلي مكافحة كورونا وتوقيعه عددا من «معاهدات السلام» مع بعض الدول العربية، أو من قطف ثمار سياساته العنصرية والتحريضية السابقة وتودّده الانتهازي المفاجئ للمصوتين العرب قبل هذه الجولة. سيستمر المعسكران، واحد برئاسة نتنياهو، والآخر برئاسة يئير لبيد، بمحاولاتهما في تجميع أكثرية نيابية تمكنهما من إقامة حكومة وترؤسها علمًا بأن جميع الاحتمالات ما زالت واردة، بما فيها الاضطرار لجولة انتخابات خامسة ستضع المواطنين العرب في إسرائيل، مرة أخرى، أمام نفس التجربة والتحديات.

تعيش إسرائيل إذن تداعيات أزمة سياسية متدحرجة وخطيرة، ولن تنتهي بطبيعة الحال مع تشكيل الحكومة أو إذا أدّى فشل ذلك إلى الذهاب لجولة انتخابية خامسة، فالصراع الحقيقي داخل المجتمع اليهودي هو، بدون شك، أعمق ويدور حول شكل «الدولة القومية اليهودية» العتيدة وطبيعة نظام الحكم فيها ومرجعياته المعتمدة.

لقد تطرّقت في مقالتي السابقة إلى بعض الخلاصات التي قرأتها في النتائج كما أقرتها «لجنة الانتخابات المركزية» ولاحقًا لما ذكرت هناك سأتعرض، فيما يلي، لظاهرة الحركة الإسلامية وأسلوبها في العمل السياسي بيننا من جهة، ولظاهرة مقاطعة الانتخابات من جهة أخرى. إنهما قضيتان أساسيّتان مرتبطتان في عملية الانتخابات، لكن لهما تأثيرات أبعد بكثير وأدوم على حياتنا اليومية وعلى هوية مجتمعاتنا وعلاقاتنا مع الدولة كما نمارسها في واقع لم يعد يشكّل امتدادًا طبيعيًا لماضينا، كمواطنين عرب في إسرائيل، بل يشي بظهور انشطارات وتشكّلات «عرب – إسرائيلية» جديدة، لن تحتكم بالضرورة إلى قواعد اللعب المتعارف عليها، وغير مدفوعة بنفس الهواجس والمصالح التي أملتها في العقود الماضية مشاعر الانتماء إلى هوية عربية وطنية واضحة وجامعة حافظت على معالمها الأساسية رغم وأثناء تجاذبات بعديها القومي والمواطني وتصادمهما أحيانًا كثيرة.

لا ولن تنحصر هذه المتغيرات في أداء الحركة الإسلامية الجنوبية الأخير، وإن كانت هي من أهم معالم تلك التحولات وربما أجدرها بالمتابعة، وذلك لأن أسباب نشوء هذه الحركة ونشاطها كحركة يمينية سياسية إسلامية، وإمكانية نشوء غيرها من بين الشرائح العلمانية أو شبه المتدينة، مغروسة عميقًا في طبيعة الفكر السياسي الإسلامي وفي ما يعتمل داخل هويات بعض الشرائح الاجتماعية، سواء ما يتوالد منها ويتراكم على شاكلة طبقة وسطى جديدة، أو ما يتفاقس على حفافها، أو، على النقيض، بين الشرائح المجتمعية المهمشة والفقيرة أو العابثة.

لقد انبرى البعض بتعريف عبور الحركة الإسلامية لعتبة الحسم وحصولها على أربعة مقاعد نيابية بالنصر الكبير. وقد يكون هذا التوصيف صحيحًا في المواجهة بين جناحي الحركة الإسلامية ودليلًا على تراجع قوة قادة جناح الحركة الإسلامية الشمالية وفشلهم بإقناع المصوتين المسلمين المحافظين بصحة نداءات مقاطعة الانتخابات، فالاختلاف حول التصويت أو الامتناع عنه لا يقع ضمن الفقهيات العقائدية المجمع عليها، بل هي اجتهادات حول المفاهيم السياسية التي يطوّعها المفتون/المجتهدون حسب الظروف والمصلحة، حيث يصبح الاهتداء بقواعد إسلامية سياسية مقرّة ومغايرة، مثل الضرورة «بدرء المفاسد» أو حتى «طاعة أولي الأمر» جائزًا. أمّا أنا، وإن كنت لا أرى بسقوط الحركة الإسلامية، لو كان قد حدث، مدعاةً للفرح، لن أرى بفوزها نصرًا، إلا إذا رصّد قادتها هذه الأمانة في حسابات المواطنين العرب قوتًا وكراماتٍ وحقوقًا مستحقة، وإذا لم يستغل قادتها نجاحها من أجل تقوية حكومة نتنياهو وحلفائه الفاشيين سواء تبوأ هؤلاء الوزارات أم لا.

لا نعرف كيف سيتصرف قادة الحركة الإسلامية في الأيام القريبة المقبلة ومعهم النائب مازن غنايم، رئيس بلدية سخنين السابق، الآتي مؤخرًا إلى صفوفها من أحضان حزب «التجمع الوطني» القومي. ومع أن كثيرًا من المؤشرات لا تستبعد إمكانية اصطفافهم إلى جانب حكومة برئاسة نتنياهو، سيبقى الأمل معقودًا على بعض قادة ونشطاء هذه الحركة التاريخيين، لا سيما أولئك الذين تحدثوا ويتحدثون دفاعًا عن المصالح العليا للجماهير وعن ضرورة تأمين حد أدنى من التنسيق والعمل الوحدوي بين جميع الأحزاب والحركات العربية، مثل تصريح النائب السابق عن الحركة، مسعود غنايم، الذي استحضر قبل أيام ذكرى يوم الأرض ومقتل الشاب منير عنبتاوي برصاص شرطة نتنياهو، فصرّح أن « الدعوة إلى الوحدة هي واجب الساعة. فبعد معركة انتخابية شرسة كان بها هذا التشرذم، نحن بحاجة إلى لملمة البيت وإعادة اللحمة والتنسيق والتعاون بين جميع الأحزاب وبين القوائم العربية» وهو ليس وحيدًا في هذه الرؤية.

وبعيدًا عما سيطرأ على هذه الجبهة الضيقة، رغم أهميتها، ستبقى الأزمة الكبرى التي تعيشها جميع الأحزاب والحركات والمؤسسات غير الإسلامية هي الحقيقة الأهم التي عرّاها أمامنا تحدّي الحركة وزعيمها كاشفًا عجزهم في حماية مواقعهم وفشل تنظيماتهم في قراءة الواقع ودرء مخاطره.

لم تكن سقطة القائمة المشتركة المدوية غير متوقعة، فمن تابع، خلال العقدين الأخيرين، غياب قادتها وتنظيماتهم عن مواكبة المتغيرات العميقة الجارية داخل مجتمعاتنا، أحس بالمخاطر الداهمة، خاصة بعد أن برز يومًا بعد يوم فشلهم في حماية الفضاءات الاجتماعية الضامنة لاستمرار حياتنا اليسيرة والآمنة، وتعنتهم، رغم الخسائر، بعدم مراجعة تجاربهم. لقد حافظوا على بنى تنظيماتهم الهرمة والقاصرة عن خلق وسائل ردع سياسية واجتماعية تكون قادرة وكفيلة على صد تفشي مظاهر العنف في مواقعنا، وعلى محاصرة تنامي قوة العصابات الإجرامية الهدامة، أو على مواجهة الحركات الاندماجية في مؤسسات الدولة، على طريقة الحركة الإسلامية الجنوبية، وهي ليست الوحيدة في هذا المدار، في وقت كان قادتها يوسّعون مناطق نفوذهم ويسيطرون على مرافق ومنصات جديدة داخل مجتمعاتنا، سواء كان ذلك تحت يافطة حماية مجتمعاتنا المحافظة، أو نتيجة لعدم مهادنتهم في مسائل العقيدة والإيمان.

كان سلوك قادة القائمة المشتركة ومن ثم انشطارها وخروج الحركة الإسلامية منها أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى تراجع قوتها شعبيًا كما شاهدنا، وكان التراجع في نسبة أعداد المصوتين العرب هو العامل القاتل الثاني.

لا أحد يستطيع أن يثبت مدى تاثير نداءات المقاطعة المؤدلجة على من بقوا في بيوتهم، ولكن، مع ذلك، يجوز لمن بادروا بإطلاق تلك الحملات أن يعزوا نتائجها أو جزءًا منها لصالحهم وأن يفسروها كزيادة في شعبيتهم وقدراتهم على التأثير.

وعلى جميع الأحوال، هنالك حاجة حقيقية لمناقشة هؤلاء، وأنا أقصد مناقشة الذين يؤمنون بأن المقاطعة هي وسيلة نضالية فعالة في مواجهة سياسات إسرائيل العنصرية والقامعة، وليست عبارة عن نزق رومانسي أو وقفة احتجاجية غاضبة أو ردة فعل عقابية لهذا الحزب أو لذاك المسؤول، فالاكتفاء بتسفيه تلك النداءات، التي هي في الواقع جزء من كلٍّ مفاهيمي سياسي، أو بإغفالها أو بمهاجمة أصحابها لا يسعف ولا يلغي وجودها وتأثيرها، بل على العكس، فقد يلحق الضرر بمن يؤمن، مثلي، بفعالية التصويت وبكون النضال البرلماني ليس أكثر من رافد في معركة يجب أن تلتئم فيها عدة روافد نضالية أخرى كي تؤتي أكلها السياسية المرجوة.

لا أعرف من هم المعنيون بإجراء هذا النقاش الضروري ولا من هم القادرون على تقييم تجربتنا السياسية باستقامة ومهنية وانتماء حقيقي، فصوت المقاطعين موجود بيننا وقد يكون فيه حكمة الحالمين أو طنين طهارة الحق أو كله على خطأ، ودور الحركات الإسلامية، على تفرعاتها، شاخص في كل ساحة من ساحات بلداتنا وشوراعها، فمتى سيُناقشون سياسيًا حول مواقفهم وبرامجهم كما «ناقشت» الأحزاب الأخرى بعضها وبدون مراءاة أو خوف أو تلعثم، أو كما كان سيفعل، النشطاء الماركسيون والقوميون والعلمانيون أو المثقفون إزاء حركة سياسية مسيحية متخيّلة دعت إلى إقامتها مجموعة من الأكاديميين والعلماء الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل تحت اسم «الحركة المسيحية الحرة» التي ستعمل بهداية تعاليم المسيح ومن أجل المحبة والسلام ونشر رسالته بين الأمم، وتعلن، في الوقت نفسه، عن نيتها لخوض انتخابات الكنيست المقبلة بقائمة تؤمن بحماية حقوق الفرد وتنادي وتطالب بحقوق العرب الفردية والقومية في إسرائيل وبمساواتهم المواطنية الكاملة، وقد تدعم نتنياهو في مساعيه لتشكيل حكومة. فمن منكم لن يصمها بالطائفية وبالشرذمة وبأكثر، كما كنت سأفعل؟.

* كاتب فلسطيني .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى