أقلام وأراء

جواد بولس يكتب – اتفاقية إسرائيل – أبو ظبي ونهاية حلم الأمة الواحدة

جواد بولس 21/8/2020

ما زالت تداعيات خبر الاتفاق الإسرائيلي الإماراتي تشغل فضاءات الإعلام المحلي والعالمي، وتخلق بغزارتها بلبلة، من المستحيل تحديد معالمها أو رصد مصادرها ومن يقف وراءها أو يشحذها بآرائه المغرضة أو بجهله، اللذين تسمح منصات التواصل الاجتماعي بانتشارهما بتساو «فكري» مستفز ومغلوط.

لقد قيل في الماضي إن اختراع الرصاصة والمسدس ساوى بين الجبان، أو الخسيس، والشجاع. واليوم نقول إن التقدم العلمي والتكنولوجي وما أتاحاه من سهولة باستعمال معظم المنتوجات العصرية الالكترونية وغيرها، ساوى بين «كل عالم وجهول» حتى صار الناس ينامون على سيول من «المعارف» والتحاليل والخلاصات والنصائح «العلمية» ويفيقون، في الصباح، على نقيضها تمامًا.

لقد استهدف قباطنة العالم الجديد تدمير الكيانات العربية بشكل تام وإعادتها إلى تشكلاتها القبلية الأصلية والتحكم بها وبمقدرات البلاد الطبيعية. كما لم يخفوا مخططاتهم، بل طلبوا مساعدة عملائهم من بين قادة العرب فلم يتخلف هؤلاء وتحالفوا على تنفيذ تلك المخططات التي أوصلت، كما نرى، الدول العربية – وبعضها لا يعدّ دولًا بالمعنى الصحيح للكلمة – إلى حالة من «العمى الأبيض» حيث تفوق أوضاع مجتمعاتها البائسة، وانحطاطات قادتها واستبدادهم، أوضاع المدينة الرهيبة التي وصفها الأديب الكبير خوسيه ساراماغو في روايته المثيرة واللافتة «العمى».

كان شرقنا، قبل الاعلان عن اتفاقية الإمارات، غارقًا في جهل وبحر من ظلمة فاحمة، وسيبقى بعدها تائهًا ومهزومًا لزمن طويل آت.

إنها حالة من الفوضى العارمة التي لا يعرف فيها المواطن العربي المسحوق من «يمتح» في بئره الماءَ ومن في أسفلها «يميحه» كي يكون زلالا!

عندما ظهر بنيامين نتنياهو على شاشة التلفزيون وأعلن، بفرح عظيم، نبأ توصله مع صديقه الأمير الإماراتي إلى اتفاقية سلام شاملة، تهافت أصحاب الأقلام والمنابر على وصف الحدث فاعتبر بعضهم أن إعلان الاتفاق حدث هامشي وليس إلا كشفًا عمّا كان قائمًا بينهما في الستر بينما تفهم آخرون المشهد، فالإمارة، بالنسبة لهم، أصغر من «قُمع» وهي لذلك لن تؤثر على مستقبل المنطقة العربية والإسلامية، المشرفة على أحداث جسام سيتوّجها، وفق تكهنات هؤلاء، شتاء عربي زاحف سيغسل قاذورات عصر الخيانات والسقوط.

لا يعنيني جميع ما كتب هؤلاء حول هواجس الأمة العربية أو الإسلامية على الإطلاق فمعظم ما قالوه هو شعارات فضفاضة وكتابات ملتبسة وهشة، كانت إسرائيل قد استفادت منها لعقود طويلة وسخّرتها بحكمة وتسخرها بخبث من أجل إحكام نفوذها في المنطقة وتسويغ قمعها للفلسطينيين، وهم ضحايا ممارساتها واحتلالها المباشرين والوحيدين.

ستبقى القضية الفلسطينية هدف هذه المخططات المباشر والأهم فما قامت به الإمارات يُعدّ خطوة خطيرة لا يجوز الاستهزاء من احتمالات تأثيراتها الممكنة على مستقبل المنطقة، وكل المحاولات لتقزيم الحدث ووسمه بالعادي وبالعابر ستخدم مآرب القيمين عليه، ولذلك سيبقى وجع الفلسطينيين حقيقيًا، وشعورهم بخطورة المؤامرة الرامية إلى تصفية قضيتهم، مبررًا، وخوفهم من محاولات تقويض مشروع تحررهم الوطني وإقامة دولتهم المستقلة، في إطار حل الدولتين المتفق عليه دوليًا – مشروعًا وصحيحًا.

“ما قامت به الإمارات يُعدّ خطوة خطيرة لا يجوز الاستهزاء من احتمالات تأثيراتها الممكنة على مستقبل المنطقة “.

ما زالت محاولات احتواء تداعيات هذه الصفقة أو إجهاض مخرجاتها المبرمجة جارية، ومن سيتصدى لها بشكل صارم وواضح وسيقف في مواجهتها هم قيادات وفصائل منظمة التحرير وأبناء الشعب الفلسطيني الذين عرفوا في الماضي كيف يسقطون المؤامرات ضد حقوقهم ويفشلونها، وإلى جانبهم كمشة من الحلفاء الحقيقيين.

ومن المؤسف حقًا في مثل هذه الظروف العصيبة عدم اصطفاف كل القوى السياسية والمجتمعية الفلسطينية إلى جانب قياداتهم، فالمرحلة حرجة، ومحاصرة منجزات الشعب الفلسطيني تتصاعد من يوم إلى يوم، مما يستدعي التخلي عن جميع مسببات الخلافات الفلسطينية الداخلية وإعادة بناء القلعة الواحدة المتينة، كي نستطيع، بمن في داخلها، مجابهة موجات الضغوطات المتوقعة.

لا أعرف من أين يأتي المتفائلون بصبرهم، ولا لماذا يبشّر من يبشّر العربَ بالفرج القريب، فكل من «يفتي» بالنصر الأكيد يمدّ يديه للسماء نفسها وهي، كما علّمونا، فوق الجميع زرقاء ودودة وجميلة، خاصة ونحن نرى كيف لم يبق للفلسطيني سلاحًا إلا «ذراع» شاعرهم محمود درويش وقطران الوحدة والصمود.

سمعنا في مجمل ما سمعنا من محاولات البعض لتفهم موجبات توقيع الاتفاقية الإماراتية أو تبريرها، رزمة من الادعاءات الواهية وفي طليعتها نجاح إمارة أبو ظبي بإيقاف ضم المناطق الفلسطينية للسيادة الإسرائيلية. لم تنطلِ هذه الحجج على الناس لا سيما على الواعين منهم والشرفاء. ولكن من أخبث ما سيق كتبرير للخطوة الإماراتية كان ادعاء من لجأوا إلى استحضار الاتفاقيات الفلسطينية التي وقعتها منظمة التحرير مع الحكومة الإسرائيلية، وإثباتها كسوابق تجيز لباقي الدول العربية محاكاتها أو تكريرها. ولقد تصرّف من جنّد هذه الذريعة بديماغوجية خطيرة، وهو يعرف عدم صحة المقارنة وضرورة سقوط المقاربة.

لقد أجاب القائد الكبير الراحل فيصل الحسيني على جميع هؤلاء منذ سنوات طويلة، وحذر من الوقوع في هذه المغالطة وهو الذي كان يشعر كيف كان بعض قادة العرب يحلم بالنوم في حضن إسرائيل أو على صدرها، فصرّح، قبل وفاته، حاسمًا: «نحن نقول للدول العربية التي تريد أن تحقق سلمًا أنه من المحظور عليكم أن تعقدوا اتصالًا مع إسرائيل ولا تستخدمونا كمظلة أذا جلسنا نحن مع الإسرائيليين، وتقولوا: الفلسطينيون جلسوا مع إسرائيل فلماذا لا نجلس؟ نحن نجلس مع الإسرائيليين لفك الارتباط ولا نجلس معهم لتمكين هذا الارتباط».

رحل الفيصل ورحلت معه أحلام فلسطينية عديدة فهل ما زال التوقع اليوم أن يتصرف العرب كما طالبهم فيصل قبل عشرين عامًا ممكنًا وللأسباب نفسها التي بررته حينها؟

إنه تساؤل مشروع وضروري، وهو واجب على كل فلسطيني يفتش عن مستقبله الآمن في هذا العالم المتغيّر وضوابطه السائلة، فحتمية التضامن العربي، الذي كان في حكم البداهة المتوقعة، صارت مسألة فيها وجهة نظر وهي في حاجة إلى فحص معمق وتفكيك شامل.

لقد كانت نكسة يونيو/حزيران 1967 أكبر وأقسى الضربات التي أنزلت على دعاة وحدة الأمة العربية، وتلتها هزات عديدة أدت مع السنين إلى زعزعة شروط حالة التضامن المتوقعة بشكل طبيعي ومفهوم.

سيكون اليوم من الصعب، إنْ لم يكن من المستحيل، على من يعتنق العروبة، كفكرة وكفكر، التنكر لانكسار الحلم أو مواجهة واقع بعث القبلية العربية واستعادة القبائل لعصبياتها القديمة واستئنافها لممارسة حروبها الوجودية في معظم «الدول» التي كانت ذات يوم موئل الحلم العروبي وموعدها لإقامة الوطن الواحد الكبير، كما أطلقه جمال عبد الناصر ومن نادوا مثله وغنوا: أمجاد يا عرب امجاد!

إنها قضية أساسية وذات علاقة وثقى بما يجري من تطورات وأحداث أمامنا، فالسؤال: لماذا يتوقع الفلسطينيون اليوم من إمارة أبو ظبي، أو من أي دولة عربية أخرى، تضامن حكامها التلقائي الفوري مع قضيتهم ودعمًا مطلقًا على جميع الجبهات؟ هو سؤال مطروح بشدة وله ما يبرره. فهل عروبة هؤلاء القادة هي الجواب، مثلًا أم كونهم مسلمين، أم بدواعي قيمهم الإنسانية وأخلاقهم المثلى؟

وهل غياب ردة فعل شعوب تلك الدول على مواقف قاداتهم واستنكافهم عن دعم فلسطين يشكل مؤشرًا على حدوث تغيّرات جذرية في تلك الساحات؟ وهل يتوجب على الفلسطينيين، قيادةً ومؤسساتٍ وشعبًا، الانتباه لجميع هذه المؤشرات وإعادة حساباتهم من أجل إنقاذ مستقبل قضيتهم؟

للإجابة على هذه التساؤلات أهمية في تحديد سياسات الفلسطينيين المستقبلية؛ وعندما أقول ذلك لا أستثني مواقف قادة فلسطينيي الداخل الذين آثروا، رغم جسامة الحدث، التزام الحذر والاكتفاء بتعقيبات متواضعة وخجولة، حيث غابت عنها مواقف واضحة وموحدة «للقائمة المشتركة» و»للجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية» وغيرهما.

إنه صمت غير مبرر، ويدلّ على عمق أزمة هذه القيادات وعلى عجزها في مواجهة الواقع الذي ينادي بضرورة إيجاد الحلول والبدائل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى