أقلام وأراء

جميل مطر يكتب – الشرق الأوسط .. مرغوباً ومكروهاً

جميل مطر – 13/2/2020

منذ كان وزيراً للجيش، وبعدها وزيراً للدفاع، لاحظت اهتمامه القوي بضرورة أن يعيد العسكريون الأمريكيون التركيز على سباقات القمة بين الدول العظمى، وخفض درجة اهتمامهم بالشرق الأوسط. تأكدت ملاحظتي عندما قرأت أن الوزير «مارك إسبر»، عاد قبل أيام قليلة يكرر نصيحته التي صارت شهيرة في محاضرة ألقاها بجامعة جونز هوبكنز في واشنطن. يقول الوزير، «إن المطلوب الآن هو استعادة موقع الأولوية الأعظم في السياسة الخارجية الأمريكية لقضايا التنافس بين الأقطاب الدوليين».

الولايات المتحدة راحت بالفعل تهتم بقضايا إقليمية بعينها، وتضع استراتيجياتها العسكرية وفقاً لنواحي هذا الاهتمام على حساب الاهتمام بالسباقات الجارية نحو القمة والقضايا المتصلة بالصعود إليها والهبوط منها. أولت أهمية فائقة لقضية الإرهاب، فاحتل الشرق الأوسط، بسبب هذه القضية وحاجة أمريكا وقتذاك إلى النفط والتزامها صنع مستقبل ل«إسرائيل» في الإقليم وفي العالم، احتل أولوية مطلقة، رغم أنه لم يكن يستحقها بالضرورة.

المشهد الدولي الراهن يراه رهيباً محللون غربيون عديدون. أراه شخصياً شديد الدلالة والأهمية. كنت دائماً من المؤمنين بأن التحليل النظري القيّم، لا بدّ أن ينطلق من أسس واقعية، وأن تكون أهدافه في النهاية واقعية المقصد والنوايا. وقع الخطأ عندما اطمأن العسكريون والسياسيون الأمريكيون في أعقاب إعلان نهاية الحرب الباردة إلى أن حال السلم الأمريكي العالمي (باكس أمريكانا)، ربما يصبح في النهاية أمراً واقعاً ومؤبداً.

فجأة، وبالرغم من تحذيرات متفرقة على امتداد سنوات، استيقظت متأخرة طبقة الحكم في الولايات المتحدة على واقع لم تحسب حسابه، وهو أن تركيزها على قضايا إقليمية، خاصة قضايا الشرق الأوسط، جاء على حساب هيمنتها العالمية وأسبقيتها على ما عداها. أدت هذه الانشغالات، وأقصد التركيز على قضايا فرعية ودول متوسطة، إلى أن ساحات عديدة في النظام الدولي بدأت تخرج من تحت مظلة الهيمنة الأمريكية، أو بكلمات أخرى، بدأ نزوح دول كانت تحت الهيمنة الأمريكية في اتجاه دول كبرى تتزاحم على الطريق الصاعدة نحو القمة الدولية. أقول فجأة لأننا نتذكر ردود فعل الطبقات المسيّسة هنا في الشرق الأوسط، عندما أعلن الرئيس باراك أوباما عن سياسة خارجية جديدة تهتم أقل بالشرق الأوسط، وتهتم أكثر بشرق آسيا. حدث هذا عندما اكتشفت واشنطن حجم النفوذ الصيني المتزايد في منطقة جنوب شرق آسيا، ومنطقة غرب الباسيفيكي.

تعلمنا في الكتب وبالممارسة، خلال عقود مضت، أن لأمريكا ثلاث مصالح رئيسية في الشرق الأوسط: كانت في حاجة لنفط يغطي العجز في إنتاجها المحلي، وفي دول الجوار، فكان لا بد من أن تؤمّن هذا القسط من احتياجاتها النفطية من دول في الشرق الأوسط، خاصة دول الخليج. كانت أيضاً عازمة بعزيمة لا يرقى إليها الشك على دعم «إسرائيل» مهما كلفها الأمر، وبالفعل لم تبخل عليها بالمال أو الدبلوماسية أو المعلومات أو القوة العسكرية. أما المصلحة الثالثة فكانت في توفير الأمن اللازم لممرات الخليج المائية، والحد من قدرات الثورة الإيرانية على التوسع.

اليوم نستطيع القول، إن المصالح الثلاث لأمريكا في المنطقة العربية لم تعد تحتفظ بكل ما كان لها من شأن وقيمة. بقيت مهمة ولكن صارت محل جدل. لم تعد الولايات المتحدة عاجزة عن توفير احتياجاتها من النفط من دون الاعتماد على النفوط العربية. إن بقيت لها مصلحة نفطية فستكون في استخدام حقول بعينها لتوفير التعويض المناسب عن وجود قوات وتسهيلات أمريكية في الشرق الأوسط، أو لحرمان خصوم أمريكا من الدول الكبرى من التزود بهذا النفط في المستقبل، أو مكافأة بعض الأمريكيين على دعمهم شخص الرئيس ترامب وسياساته. الحقول المستهدفة هي في الأغلب حقول العراق، وإن أمكن حقول شمال شرق سوريا. هنا لا يخفي ترامب وأعوانه الشره الزائد للاستحواذ على نصيب ثابت من نفط العراق.

بالنسبة ل«إسرائيل» يبدو أن المسؤولين الأمريكيين، أو بعضهم على الأقل، بدأوا يقللون من شدة ارتباط أمريكا بالحالة «الإسرائيلية» في الشرق الأوسط، بعد أن اتضح أن «إسرائيل» تسلك الآن مسالك مستقلة عن مسالك أمريكا. هي الآن تتعامل مباشرة مع قطبين وفدا إلى الشرق الأوسط وأقاما بالفعل. تتعامل مع روسيا وتحصل على كثير مما تريد، وتنسق معها في معظم أمور دفاعاتها. من ناحية أخرى، أقامت «إسرائيل» مع الصين علاقات تعاون في أخطر مجالات الإبداع التكنولوجي، متجاوزة بها ما حققته أمريكا وأوروبا في بعضها. قيل لي أكثر من مرة بأن واشنطن على وشك أن تطلق «إسرائيل» قوة دولية وإقليمية. أعترف بأنني لم أفهم القصد أو النية من وراء تكرار هذه العبارة. خلاصة الأمر، لم تعد «إسرائيل» قضية شرق أوسطية تستحق ما كانت تحصل عليه من انشغال أمريكي.

أما في قضية الدفاع عن الخليج، فصارت مياه مضايق الخليج مكتظة بأساطيل من شتى الأنواع. هنا أيضاً ينحسر بالتدريج انشغال أمريكا بأمن الخليج.

أصدق أن دبلوماسيين وعسكريين أمريكيين، اكتشفوا أنهم غير مؤهلين بالقدر الكافي للتعامل مع قوتين عُظميَين ساعيتين للصعود إلى القمة الدولية. أصدق أيضاً أن هذا الاكتشاف وقع في عهد الرئيس باراك أوباما، وللحق يجب الاعتراف أن دونالد ترامب لم يهمله، كما فعل مع غيره من إنجازات سلفه، ولكنه تباطأ في الانسحاب ثم تخبط اعتقاداً منه أن في العراق كنوزاً لم تنهب بعد، وأن في سوريا مستقبلاً لم يحدد بعد، وأن في فلسطين حلاًّ لم يجرب بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى