جميل مطر: مستقبل غزة اليوم التالي
جميل مطر 9-5-2024: مستقبل غزة اليوم التالي
نفكر في يوم تالٍ واليوم السابق لم يغادر تماماً..
يحلمون بغزة وقد رحل عنها الاحتلال، وعادت لحكامها، وتدفقت عليها أموال عربية وأوروبية لإعمارها، أو عادت ومعها الضفة الغربية ليرفعا معاً، علم فلسطين، الدولة المستقلة المناضلة لتحرير فلسطين التاريخية ذات يوم قريب، أو بعيد. يحلم بها غيرهم وقد أفرغت من كل سكانها، وقامت فيها مستوطنات ومدن بأسماء عبرية، يسكنها يهود جاؤوا من كل الأصقاع، مغامرين، ومتطرفين، وحالمين. آخرون، وهم كثر، يحلمون بعودة كل شيء إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول. هؤلاء غارقون في الحلم، أو في الوهم، بأن التاريخ معهم، والمستقبل قدَر مكتوب، وواجبهم حماية الوضع القائم، أي حماية الاستقرار، والرضا بما فرض عليهم، على أمل أن يأتي الأحسن متدرجاً بهدوء وسلام.
كل هؤلاء عيونهم على «اليوم التالي». أكثرهم متجاهل حقيقة أن اليوم السابق على السابع من أكتوبر لا يزال حياً، ومتشبثاً بما تحقق، أو بما يسعى لتحقيقه. نعم، خلخل الطوفان في مسيرته ثوابت هامة، مثل قوة الردع الإسرائيلية، سواء وجدت على أرض فلسطين أو في مواقع القوة، كما في واشنطن، وباريس، وبرلين، ولندن. كشف أيضاً درجة انحدار مكانة وقدرات قوى دولية، وإقليمية، ومن هذه الأخيرة إسرائيل نفسها، كقوة إقليمية، وأمريكا كقوة دولية. كشف في المقابل عن درجة نهوض سياسات وأدوار قوى دولية وإقليمية أخرى، ومن هذه القوى الصين، وروسيا، وإيران. عيون كل هؤلاء وعقولهم على اليوم التالي، وليس على اليوم السابق الذي لم يغادر، والأدلة كثيرة على أنه لم يغادر تماماً، من هذه الأدلة:
أولاً: يستمر التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية بنفس منوال اليوم السابق للسابع من أكتوبر. لم تتوقف السلطة الإسرائيلية وعصابات المستوطنين عن شن حملات الدهم للبيوت في مختلف مدن ومخيمات الضفة. بمعنى آخر، استمرت إسرائيل تقتل الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه استمرت، تدري أو لا تدري، في دفع الشباب الفلسطيني نحو الاستعداد ليوم الثأر، والتحرير. إسرائيل مستمرة في بناء المستوطنات على أراضٍ فلسطينية، ومستمرة في حرق المزارع، وأشجار الزيتون، وقتل الأطفال.
ثانياً: إسرائيل اتجهت خلال السنوات الأخيرة، نحو تطرّف يميني أشدً، وجديد في أساليبه، وأهدافه. اليوم، كما اليوم السابق على حرب غزة، إسرائيل تحكمها سلطة أشد خطراً على السلم الإقليمي، والعالمي، من «داعش» وإخوته. تحمي إرهاب المستوطنين، وتخطط بعلانية، وبالجهر الممكن لعمليات قتل للفلسطينيين، أو تهجيرهم.
ثالثاً: تقوم في رام الله، حتى ساعة كتابة هذه السطور، سلطة فلسطينية تقول إنها تحكم باسم منظمة التحرير الفلسطينية. والسلطة الفلسطينية متهمة بأنها تؤمّن ظهر المحتل، ولا تقف عائقاً أمام حملات المستوطنين، وغارات سلطة الاحتلال. اليوم، كما اليوم السابق على حرب غزة، الضفة الغربية تغلي بالغضب.
رابعاً: تصادف الطوفان مع استعدادات تجري في أمريكا لانتخابات رئاسية في العام التالي. انتخابات أمريكا حدث عظيم لاختبار النوايا، وتوزيع الخيرات، وسوق رائجة لبيع النفوس والأصوات. الخطط لها محكمة، ومدروسة بعناية فائقة من جانب مراكز القوة الحقيقية في أمريكا. لذلك غير مستحبة، بل ومكروهة بشدة المفاجآت والأحداث غير المتوقعة، وهذه إن وقعت، فالتعامل معها يكون بقسوة وعنف، لازمين. كانت أحداث السابع من أكتوبر، وما تلاها من أحداث، مفاجآت غير مستحبة، بل ومكروهة. يبقى العام الجاري حتى قرب نهايته عام انتخابات، وفي الوقت نفسه عام التعامل مع الطوفان، وتداعياته. يبقى أيضاً درساً في تاريخ العقود الأخيرة من حياة إمبراطورية عظمى.
خامساً: عاشت الفصائل في غزة تدير، وتحكم. أخرجت بنفسها الطويل الطلاب في الجامعات الأمريكية، أحد أهم الحصون الإسرائيلية في العالم، ومصنع عقولها، ومعمل تفوقها التكنولوجي، أخرجتهم في عام انتخابات من قاعات الدرس إلى ساحات الاحتجاج والمساندة، ثم إلى ما هو أهم، إلى شاشات التلفزيون التي تحتكرها لمصلحتها المؤسسات اليهودية العالمية المهيمنة على مصارف وشركات سلاح عملاقة، ومراكز للعصف الفكري. لا أتصور أن إسرائيل، والقوى المؤيدة لها، سوف تسكت عن حلقات مسلسل انحسار قوتها، أو على الشروخ التي صارت تهدد دروعها العالمية.
سادساً: لا تزال آمال إسرائيل معلقة بما بدأته الولايات المتحدة ودول في أوروبا، وبخاصة ألمانيا، من إجراءات لشل حركة «حماس»، وتعزيز سياسات الفصل والوقيعة بينها وبين أكثرية الدول العربية، وكذلك بين هذه الدول وإيران. من ناحية أخرى، اتضح أن الموقف الذي اتخذته دولة اتحاد جنوب إفريقيا في شأن التوجه بقضية غزة لمحكمة العدل الدولية، لم يكن سوى قمة جبل جليد تتحرك تحته بوادر موجة من موجات ثورة إفريقية عارمة، نشبت بشائرها في أوائل العام نفسه، في منطقة الساحل، هدفها إطاحة هيمنة الغرب على القارة.
تجتمع أمامنا الآن عناصر تشترك، بوجودها وحركتها، في صنع وصياغة فصل جديد في العالم بأسره. ما حدث حتى الآن قد يبدو لمراقب، أو آخر، تغيراً طارئاً في ظروف استثنائية قابلاً للتصحيح عند زوال الظروف المسؤولة عن حدوثه. وقد يبدو لمحلل متريث تحولاً جوهرياً، ليس فقط في نمط سلوك دولة عظمى ودول كبرى في قارة شاخت، وفي قواعد وأساليب عمل إسرائيل، ولكن أيضاً وبشكل جذري، في نمط توزيع القوة، وتوازناتها في إقليم الشرق الأوسط.
الصدام متوقع بين واقع ينحسر بجلبة شديدة وكلفة عالية، وبين مستقبل زاحف بعناصر تعكس تحولات جذرية في الهياكل والسياسات. مستقبل يهدد قلاعاً كان الظن أنها راسخة الأسس، وقوية المعتقد.