ترجمات أجنبية

جان بير كابيستان – النخب الصينيّة الحاكمة وعلاقاتها المتنازعة بالنخب الاقتصادية والفكرية

جان بيير كابيستان ١-٨-٢٠١٨

قد يكون في مستطاع قطاعات من المجتمع المدني الصيني، إذا بادرت الى الاحتجاج أو إلى إعلان مواقف ومطاليب، شق النخب الصينية، إلا أن المجتمع المدني واقع تحت رقابة شديدة، ومنقسم على نفسه. ويحول انقسامه والرقابة دون اضطلاعه بالمبادرة إلى حركة سياسية تقود إلى الديموقراطية. ويلاحظ أن النخب الصينية الحاكمة متنوعة المنابت والمشارب: فهي اقتصادية وفكرية وسياسية، ولا تقتصر على أجهزة الحكم الحزبية التي تتربع في رأس الدولة (وهي دولة – حزب في الصين). ويترتب على هذه الحال أن النخب السياسية والحزبية مؤتلفة من موظفين سياسيين يشغلون وظائف ومناصب رسمية. وسمتهم الأولى والبارزة هي الإجماع الظاهر. وليس الإجماع عَرَضاً، ويجوز إطراحه أو التخلي عنه. فهو عامل استراتيجي بل حيوي يعول عليه الحزب الشيوعي الصيني ويتوسل به إلى إرساء سلطانه. ومنذ تيان آن مين (اسم ساحة بكين الكبيرة التي قتل فيها الجيش الأحمر آلاف المحتجين والمعتصمين في حزيران/ يونيو 1989)، حرص زعيم الحزب، دينغ هسياو (شياو) بينغ، وخلفاؤه من بعده على ألا يستعرضوا انقساماتهم على رؤوس الأشهاد.

إلا أن إجماع القيادة السياسية أقرب الى الأسطورة منه الى الواقع. ففي عهد هو جينتاو، سلف شي جينبينغ، ظهرت المنافسة بين أقطاب المكتب السياسي بو كزيلاي (تشيلاي) ووانغ يانغ، وكان كلاهما على رأس ولاية كبيرة وغنية. وأراد بو مكافحة الفساد وإحياء أناشيد الثورة الثقافية الماوية، وهذا كان الشعار المعلن، لكنه سعى كذلك الى إنفاذ برنامج تنمية اقتصادية اشتراكي يتولى رعاية اجتماعية واسعة ويكافح التفاوت الاجتماعي المتعاظم. وأيده مسؤولون في مراتب وطنية منهم شي جينبينغ، نائب رئيس الجمهورية يومها وخلف الرئيس المعلن. وأيد الليبراليون منافس بو كزيلاي، وانغ، وأثنوا على معالجته أزمة محلية نجمت عن مصادرة أراضي قرية، معالجة ديموقراطية. وسعى وانغ الى تعظيم مكانة ولاية غوانغدونغ الصناعية والتكنولوجية من طريق استدراج الرساميل الخاصة والأجنبية. وحسم تولّي شي جينبينغ الرئاسة المنافسة، وحل فريقه محل الفريق السابق. لكن الخلاف بين الخطتين والنهجين لم يطوَ. ولا تزال القيادة الجديدة منقسمة بين فريق شي، القريب من أفكار بوكزلاي، وفريق رئيس الوزراء لي كيكيانغ (كيشيانغ) الذي يميل إلى وانغ يانغ، على رغم رجحان كفة شي جينبينغ.

ويقضي قانون مضمر وغير مكتوب بأن يؤدي مقترح جريء يتبناه أحد أعضاء القيادة إلى إقالته. ويفترض جمع السلطات والصلاحيات في يد شخص واحد، وهي حال شي جينبينغ اليوم، أن يعود إليه وحده أمر المبادرة إلى إصلاح سياسي غير ثانوي. وبعض المراقبين عوّلوا على نازع إصلاحي نسبوه الى شي، وفسروا تأخر ظهوره باضطراره الى تثبيت موقعه في مرحلة أولى، وإرجاء إصلاحاته الى مرحلة ثانية. ويخالف التعويل نهج شي الثابت منذ تسلمه السلطة. فقمع الحركة الدستورية في 2013، واعتقل وجوهها: شو زييونغ وبوزيكيانغ وآخرين، وأمر باعتقال أكثر من 200 محام من المدافعين عن حقوق الإنسان في 2015، وشدد الرقابة على الإنترنت وعلى المنظمات غير الحكومية الأجنبية. وعمد شي جينبينغ ومستشاروه إلى إنشاء شركات واحتكارات ضخمة في القطاع العام عهدوا إليها السيطرة على القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية.

وأولويات شي السياسية المعلنة أثارت انتقادات تيارات وجماعات في الجهاز الحزبي. فردت قطاعات حزبية على حملته على الفساد بالتزام الحذر والجمود من دون مقاومة الإصلاحات الاقتصادية مقاومة سلبية. وأدى تعاظم الدين العام الى انقسام القيادة: فمال أنصار شي، شأن ليو هي، الى معالجة المسألة في الحال، بينما رأى رئيس الوزراء إرجاء هذه المعالجة، والحفاظ على تخفيز الاقتصاد بواسطة خطط مرحلية. لكن تشخيص الخلافات في أوساط النخب السياسي أمر يبقى عسيراً. وهو لا يحجب إجماع الجهاز الحزبي السياسي على تحديث الصين وتثبيت نظام الحزب الواحد. ولا شك في أن ثمة غالبية تبايع شي على تولي القيادة وتوسيع صلاحياته وتمكينه من مواجهة الأزمات والعواصف المتوقعة. وداعي النخب السياسية الحاكمة الى المبايعة على هذه الشروط هو خوفها من حجم الخسائر المترتبة على ضعف الاستقرار.

ولا يُخلص من هذا التشخيص إلى أن النخب الاقتصادية والفكرية، بل «النخب المضادة»، لا تؤثر في نهج النخب السياسية والحزبية. فالأولى هي التي حملت النخب الحاكمة على تبني بعض التوجهات السياسية والاقتصادية المهمة، شأن التسليم بتوسع القطاع الخاص، وبلوغه اليوم 80 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، أو حماية الملكية الفكرية وتحسينها. وفي المقابل، سعت النخب السياسية الى سيطرة اليسار الجديد (المحافظ والتقليدي «الماوي») والقوميين على النخب الفكرية، وترجيح كفتها على كفة الليبراليين والديموقراطيين.

وتتألف النخب الاقتصادية من كتلتين كبيرتين: كتلة مديري قطاع الدولة وموظفيه، وكتلة أصحاب الشركات الخاصة. وينتمي المديرون الموظفون، وكلهم تتولى المراتب الحزبية والحكومية تعيينهم، إلى النخب السياسية فوق انتماءاتهم الى النخب الاقتصادية. ولا يخلو دور أصحاب الشركات الخاصة من الغموض. فبعض كبرى هذه الشركات خليط من ملكية الدولة وملكية الأفراد. فشركة لينوفو التي حازت آي بي إم في 2005، مسجلة في هونغ كونغ. وهي على هذا شركة أجنبية وخاصة، سوى أن أكاديمية العلوم (والبحوث) في الصين، وهي هيئة حكومية وعامة، ساهمت في إنشائها، في 1984، وتملك 36 في المئة من أسهمها. أما شركة هوياوي للاتصالات، ومركز إدارتها العامة في مقطاعة سنجين، فأنشأها رن جينغفاي، وهو ضابط سابق في الجيش الصيني (الشعبي)، وعلاقاته بالحزب – الدولة وثيقة. وتحوم شكوك قوية حول طبيعة هذه العلاقات وغايات الشركة.

ورجال الأعمال الذين غامروا، في تسعينات القرن الماضي، بـ»خوض» غمار العمل الخاص، كثيرون منهم من أطر (كوادر) الحزب، وحافظ معظمهم على روابط قوية به. وكبار رجال الأعمال ورؤساء الشركات الخاصة في الصين يجلسون على «مقعد متحرك»، وفي مستطاع الحزب الشيوعي إقصاءهم عن مرتبتهم عند أول عثرة، اقتصادية أو سياسية. والأمثال على سقوط مفاجئ كثيرة. ومنها اعتقال رئيس شركة التأمين، أنبانغ، في 2017، وتبلغ ثروته 4.5 بليون دولار، على رغم قرابته العائلية من دينغ شياو بينغ من طريق المصاهرة.

وبعض كبار رجال الأعمال، مثل وانغ غونفكيوان، وهو من المستثمرين البارزين، لا يخشون إعلان مساندتهم المالية إحدى حركات المعارضة، حركة المواطنين الجدد السياسية، وهي أنشئت في 2010، وتسعى الى إنضاج وعي المواطنة والوعي الدستوري، واعتقل بعض دعاتها (شو جيونغ) في 2013. واعتقل وانغ بضعة أشهر في أواخر العام نفسه، وحجبت مدونته (1.5مليون متابع) في كانون الثاني (يناير) 2014. لكنه لم يكف مع رجال أعمال آخرين، مثل بان شيي (صاحب شركة سوهو تشاينا العقارية، و16 مليون متابع لموقعه على الشبكة)، عن مطالبة الحكومة بالتصريح عن إجراءات حماية البيئة ونتائجها. وتصدى رن جيكيانغ، وهو مقاول عقاري ثري، ويحظى موقعه بـ38 مليون متابع، لدعوة شي جينبينغ الإعلام الى التقيد بخط الحزب، وصرّح بأن «خدمة الشعب» أولى بالإعلام من «خدمة الحزب». وعاقبه الحزب الشيوعي، وهو من منتسبيه، باختباره سنة واحدة ولم يطرده، ويقال أن مبرر العقوبة الضعيفة هو قربه من وانغ كيشان، مسؤول الانضباط الحزبي، وحجب موقعه.

ويرى ليو تشوانجي، مؤسس لينوفو وليجنده هولدينغز أن البند الأول بين بنود البرنامج السياسي الصيني هو إرساء «دولة الحقوق (والقانون)»، وضمان الأمن العدلي والقضائي. ويشاطر هذا الرأي تيار فكري لا يُعلم على وجه الدقة مدى نفوذه وتأثيره، لكنه التيار الغالب على أهل الربط والحل («المناصب») في هونغ كونغ. وأصحاب الشركات الخاصة الكبيرة حين يدلون برأي في شأن عام يلزمون الحذر، غير غافلين عن روابطهم بالحكم. وبعضهم حاز دوراً سياسياً على الصعيد المحلي، وفي أحوال قليلة على الصعيد الوطني. وبعضهم انتخب الى مجالس غرف التجارة والصناعة، وساهم في تكتيل جماعات على الدولة – الحزب اعتبار مطاليبها. وهؤلاء حريصون على انتزاع ضمانات حماية من الدولة حرصهم على انتهاج السياسات العامة نهجاً يتفق ومصالحهم. والنخب الحاكمة مضطرة الى مراعاة رؤساء الشركات الخاصة، فشركاتهم هي ضمانة نمو الاقتصاد وتلبية الحاجة الى العمل والوظائف. وتقيد الدولة – الحزب رؤساء الشركات بقيود إدارية ومالية وسياسية ليس في وسع هؤلاء التمرد عليها أو التحرر منها، والمساهمة في تطوير تيار ديموقراطي عريض، في مستقبل منظور.

وشهدت الصين منذ الإصلاحات الاقتصادية (1979)، تجدداً فكرياً وثقافياً لم يخمده قمع الحركة الديموقراطية في تيان آن مين (1989). فالمناقشات التي تتناول مستقبل البلاد السياسي، ويشترك فيها جامعيون و»مثقفون عموميون» كثيرة الوجوه والآراء ولا تخلو من الحدة. وتنضوي النخب الفكرية في جماعات أبرزها «اليسار الجديد» والقوميون الثقافيون والكونفوشيوسيون والمحافظون الجدد الليبراليون. وحل محل التشرذم الذي غلب على تسعينات القرن الماضي استقطاب يختصر المناقشة في مذهبين وكتلتين: – كتلة المثقفين المحافظين، ويدعون إلى المحاماة عن نظام متسلط، وهم اليسار – وكتلة الإصلاحيين والديموقراطيين، وهم اليمين السياسي.

ويولي وانغ شاوغوانغ، وهو درّس أعواماً طويلة في هونغ كونغ وكان قريباً من بوكزالي، الصدارة لما يسميه «الديموقراطية الجوهرية»، وتفترض مشاركة المواطنين على قدم المساواة، ويعارضها بالديموقراطية الانتخابية. ويتقدم الانتخابات أهمية ودوراً تحديث الدولة وتقويتها. ويرى كانغ شياوغوانغ، الأستاذ في جامعة تسينغوا، أن النخبوية والكفاءة هما ركنا المثال أو النموذج الصيني، ويترتب عليهما التخلي عن الماركسية إلى الكونفوشيوسية، وإرساء إيديولوجية النظام على ثقافة سياسية صينية وتقليدية.

وبعض المثقفين الصينيين، من الليبراليين وغير الليبراليين، يدركون أن الديموقراطية تتنافى مع نظام الحزب الواحد وقمع معارضيه. لكنهم يعارضون الأخذ بها. ومن هؤلاء المعارضين القوميون الثقافيون من أمثال كانغ شياوغوانغ وجيانغ كينغ، مؤسس أكاديمية يانغمينغ الخاصة في غيجو، وبان واي، من جامعة بكين. ويعتقد بأن اعتقاداً قوياً بأن إرساء دولة حقوق وقانون أمر جائز من غير ديموقراطية، على شاكلة سنغافورة، على رغم أن المدينة – الدولة الجارة أقرت نظاماً انتخابياً تعددياً. ويوافق غان يانغ، وهو ليبرالي سابق يدعو اليوم الى «جمهورية اشتراكية كونفوشيوسية» الرأي.

ويتحلق فريق من المثقفين حول مفكرين «محافظين جدد» ودعاة سلطة قوية، من أمثال شياو غوتغكين، من جامعة إعداد المدرسين في شانغهاي. ويعزو هذا الفريق قصور الصين الديموقراطي إلى «تخلف» الصينيين. وهذا الرأي شديد الانتشار والفشو في صفوف النخب السياسية، وفي المدن الصينية عموماً. ولا يرى أصحابه بداً من مرحلة انتقالية يتولاها حكم قوي، ويستند إلى تقاليد سياسية وأيديولوجية صينية يعملها في سبيل الحفاظ على التماسك القومي. ويعود هذا الرأي الى أوائل الفكر السياسي الصيني في القرن العشرين، حين انقلب دعاة الإصلاح، مثل ليونغ كيشاو، الى دعاة «استبداد عادل». والتدرج الإصلاحي يكاد يكون قاسماً مشتركاً منذ بيان لي زيهو وليو زايفو الذائع الصيت «وداع الثورة» (غاوي جيمينغ) في 1995.

والأمر المحبط هو أن النخب الفكرية الصينية، في معظمها، تشرط دوام النمو الاقتصادي وحيازة الصين مكانة دولية بالحفاظ على النظام الحالي. وقلة قليلة من المثقفين، على شاكلة الألف محام (على 300 ألف تعدهم الصين) الذين تولوا الدفاع عن الضعفاء قبل اعتقال 200 منهم في صيف 2015 وحل جمعيتهم، أو على شاكلة الموقعين على ميثاق 08 الذي صاغه ليو جياباو و303 آخرين، تضطلع بدور نخبة مضادة أو نقيض. وضآلة هذه الشريحة لا تعفي السلطة الحزبية من الحرج: فهي تريد من غير شك إسكات المعارضة السياسية وقمعها، لكن أحوال المجتمع الجديدة وتشريع أبوابه على الخارج تحملها على الاعتدال والتحفظ. وعلى هذا، فالحلف المتين بين مناصب الحزب + الدولة والرأسماليين الجدد وقطاعات واسعة من النخبة الفكرية، يقدر له الدوام إلى أجل منظور. لكن حلفاً آخر يربط النخب الليبرالية بالنخب المضادة وببعض أفراد من النخب الاقتصادية، يبصر النور، وقد يتعاظم دوره إذا دب الشقاق في النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة.

* مدير قسم العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة هونغ كونغ المعمدانية، عن كتابه «الصين غداً: ديموقراطية أم ديكتاتورية؟»، غاليمار 2018،

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى