شؤون فلسطينية

ثلاثون عاما على اغتيال خليل الوزير "أبو جهاد" ١٦-٤-١٩٨٨


في مثل هذا الْيَوْمَ، قبل ثلاثين عاما، اقدمت قوات خاصة تابعة للكيان الصهيوني ، على اغتيال القائد العسكري لقوات الثورة الفلسطينية ، خليل الوزير “ابو جهاد” في عملية اغتيال شكلت لحظة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني وثورته المعاصرة، خاصة وان المرحلة اللاحقة للاغتيال كانت مختلفة تماما عما قبلها، ومن اجل احياء هذه الذكرى في ذاكرة شعبنا ، فإننا نعيد نشر تفاصيل عملية الاغتيال من خلال رؤية جديدة تتضمن الكثير من المعلومات والتحقيقات ، والتي تركزت في مجملها على فضح الرواية الصهيونية ، ومن الجدير بالذكر فان هذه التفاصل أوردناها في كتاب حركة فتح بين المقاومة والاغتيالات ، المجد للشهداء ، عاشت الثورة ودامت الفكرة..
***
كانت رؤية القادة المؤسسين لحركة فتح الأكثر استجابة لواقع الشعب الفلسطيني، وكانت أهدافها بسيطة وجامعة في نفس الوقت (الكفاح المسلح، التحرير، العودة) على صدى شعار (كل البنادق نحو العدو) ومن بين القادة المؤسسين كان خليل الوزير ملتزما بأن يوجه كل بنادق قوات حركة فتح نحو العدو، وقد اعتقد قادة العدو الإسرائيلي أنهم إذا ما اغتالوه بصفته محرك العمل العسكري ضدهم على امتداد الوطن الفلسطيني المحتل، وبصفته “مهندس الانتفاضة” فإنهم قد يلجموا مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، لكنهم خسروا الرهان، ذلك أن اغتيال الأخ أبو جهاد زاد من اشتعال جذوة الكفاح المسلح الفلسطيني وزاد من هياج جماهيرنا في الوطن المحتل لتصعيد الانتفاضة.
وعندما أكتب قصة استشهاد الأخ (أبو جهاد) فإنني لا أروي ذكريات، أو تفاصيل أحداث مضت، إنما أسطّر دروس وعبر هي من حق أجيالنا المقبلة ليعلموا أن مسيرته النضالية كانت نتاجا طبيعيا للمسيرة التي قادتها حركة فتح، متسلحا ببرامجها وشعاراتها السياسية، كما التزم الأخ الشهيد بذلك مقدما مفهوم الرافعة السياسية لحركة فتح وللقوى الوطنية الفلسطينية وهي الرافعة التي أوجدت جيلا من المناضلين في المجالات العسكرية والأمنية والجهاد في سبيل أهدافنا الوطنية، ذلك الجيل الذي جعل من حركة فتح هي الرد الطبيعي والتاريخي والسياسي والأخلاقي والإنساني على النكبة التي تعرض لها شعبنا في العام 1948، وفجّر من خلالها الثورة والكفاح المسلح والانتفاضة وما تحقق عنها من مكاسب وطنية.
إن الأخ أبو جهاد وأخوانه من الرواد الأوائل والمؤسسين من حملوا الأمانة وكانوا المثل والقدوة لكل أجيال شعبنا الذي أنجب هؤلاء وبرهن بصموده ونضاله أنه شعب يستحيل أن ترهبه عملية
اللواء محمود الناطور “ابو الطيب”
خليل الوزير “ابو جهاد” :
بالتواضع البالغ نقدم موجزا عابرا للون واحد من شخصية هذا الرجل القائد الرمز وكأننا نختصر الحياة والجهاد بكلمات عن أبي جهاد. كان قائدا يمتلك الإمكانيات الكبيرة جدا وله موقع رفيع جدا يجهله الكثيرون حتى ممن عاصروا العمل الفلسطيني فكان الرجل الثاني في الثورة الفلسطينية بكل معنى الكلمة، لكنه الرجل الأول في العمليات التنظيمية والعسكرية، لم ينتظر أبو جهاد انطلاقة حركة فتح في أواخر الخمسينيات لكي يستهل مشواره النضالي، بل بادر بالعمليات العسكرية قبل الانطلاقة، لم ينتظر نشوء التنظيمات، بل تحرك وحيدا وقام بتفجير خزان زوهر قرب بيت حانون عام 1955م، كان تأسيس حركة الكفاح المسلح بهمة (أبو جهاد ومجموعته الشبابية عام 1955م وإذا اعتبرنا أن مجلة فلسطيننا كانت هي الراية الأولى لحركة فتح عام 1959م في سماء بيروت، فإن افتتاح أول مكتب لفلسطين عام 1963م كان الراية الثانية التي ارتفعت في سماء الجزائر التي اعتبرها أبو جهاد الراية التي لازمت عودة الكيان الفلسطيني إلى الحياة بتأسيس حركة فتح. أبو جهاد كان متأثرا بسيرة المقاومة الجزائرية التي قادها الأمير عبد القادر الجزائري، وبعدها عمل أبو جهاد على استلام حركة “فتح” للمكتب واتخذت قيادة حركة “فتح قرارا باستقالة خليل الوزير من عمله وانتقاله إلى الجزائر لتولي مسؤولية أول مكتب رسمي لفلسطين وحركة فتح، وبذلك يكون أول متفرغ في الثورة الفلسطينية يفتتح المكتب يوم 23/9/1963م. كان أبو جهاد قد نجح في العديد من الصداقات مع ممثلي حركات التحرر العالمية. ويذكر ان استضافت الجزائر عام 1964 مؤتمر خصص للبحث في نزع السلاح النووي بمشاركة العديد من قادة وزعماء الدول وكان من بينهم جيفارا على رأس الوفد الكوبي فاستثمر الأخ أبو جهاد هذا المؤتمر لتوطيد العلاقات بينه وبين جيفارا الذي امضى فترة بعد المؤتمر في الجزائر قضاها بصحبة الأخ أبو جهاد حيث تعرف على حركة “فتح” وأهدافها وتطلعاتها، وقد كانت هذه العلاقة فاتحة خير لضمان الدعم الكوبي لحركة فتح.
جميع هذه العلاقات سخرها أبو جهاد من اجل تهيئة المناخ وبناء الأساس الصلب للإعلان عن الكفاح المسلح الفلسطيني وإطلاق الرصاصة الأولى في 1/1/1965م وما تبعها من تصعيد كفاحي، وكان أبو جهاد قد بدأ التحضير لهذه المرحلة في الجزائر حيث الإعداد العسكري والتدريب على السلاح الذي بدأ بشكل فردي ثم بمجموعات صغيرة إلى أن وصلت إلى أول دورة عسكرية كبيرة في صيف عام 1964م وكانت تضم (97 مندوبا) من شباب تنظيم فتح في الجزائر وكان من بينهم عدد من قادة حركة فتح مثل ممدوح صيدم، أبو علي إياد، منهل شديد، وديع عبد اللطيف ومحمود الهمشري، وقد عقدت تلك الدورية في معسكر “بوغار” استمرت لمدة (50 يوما) وقد اشرف أبو جهاد على تخريج الدورة مع القيادة الجزائرية، وبعد تلك الدورة وصلت دورة أخرى من لبنان أرسلها توفيق حوري وتضم علي عباس وزياد الأطرش ثم استمر توافد المرشحين حتى انتظم في الكلية العسكرية في شرشال (20 مندوبا) من أبناء تنظيم حركة فتح منهم إلى جانب علي عباس وزياد الأطرش، كل من فوزي أبو سكرانة ومحمود عرسان واحمد عمر وافي ومنهل شديد واستمرت الدورة لمدة عام كامل، وقد قام الرئيس الجزائري هواري بومدين عام 1966 بتخريج أول دفعة من الضباط الفلسطينيين. يقول أبو جهاد أن قوات العاصفة دشنت انطلاقتها الثانية بعد عام 1967 بعملية فدائية ضد دورية لجيش الاحتلال في مدينة غزة يوم 28/8/1967، وقد تزامن تاريخ تنفيذ هذه العملية مع انعقاد مؤتمر القمة العربية في السودان في رسالة من حركة فتح إلى القمة. في عام 1970 كان أبو جهاد أحد قادة الدفاع عن الثورة الفلسطينية التي تعرضت لها في الأردن، وبعد الانتقال الفدائي إلى لبنان كان للأخ أبو جهاد دور بارز في تثبيت قواعد الثورة هناك والتصدي لمحاولات القوى الانعزالية التي كانت تستهدف الوجود الفلسطيني في الجنوب اللبناني وبيروت والشمال. وللفترة من 1973 عاد أبو جهاد للإشراف على قطاع الغربي بعد استشهاد كمال عدوان عام 1973، ان القطاع الغربي هو تجربة متميزة حرص خلالها أبو جهاد على ممارسة قناعاته وأنه كان يكرس كل إمكانياته الأخرى لذلك القطاع ومنذ تسلم أبو جهاد القطاع الغربي عام 1969 عمل على تأسيس القواعد في الضفة وغزة أما بالجنوب اللبناني عكف أبو جهاد على تطوير القدرات القتالية لقوات الثورة واشرف شخصيا على إدارة العمليات ضد العدو الصهيوني من الأراضي اللبنانية.
كان هو العقل المدبر والموجه للانتفاضة وشكل القيادة الموحدة بعد أيام من اندلاعها وصدر أول بيان يحمل اسم القيادة الوطنية الموحدة لتصعيد الانتفاضة يوم 9/1/1988 بدأ أبطال الانتفاضة يتحركون طبقا لبرنامج أبو جهاد الذي تألف من (10 نقاط) حدد فيها مهام الانتفاضة وواجباتها على الصعيدين التنظيمي والسياسي قال: “ان الانتفاضة قرار دائم وممارسة يومية تعكس أصالة شعب فلسطين وتواصله التاريخي المتجدد، أبو جهاد كان يقول دائما كونوا يساريين تبع موسكو أو بكين أو يمينيين تبع السعودية أو حتى الكويت لكن أنا سوف أبقى متوجها دائما إلى فلسطين ولا عمل لي إلا داخل الأرض المحتلة على تراب فلسطين، كان صاحب دعوة الجميع للوحدة باتجاه فلسطين مع وجود كل التباينات والتناقضات الفكرية، لم يكن يقف ضد أي فكر يساري أو يميني، كان دائما مع البندقية الفلسطينية الموجهة للصهاينة فوق أرض فلسطين، لا صوت يعلو على صوت الانتفاضة، ومصير الاحتلال يتقرر في فلسطين المحتلة نفسها وليس على طاولة المفاوضات.
عملية اقتحام وزارة الدفاع الإسرائيلية وقرار اغتيال أبو جهاد:
كان القرار الإسرائيلي باغتيال خليل الوزير قد اتخذ من قبل مجلس الوزراء المصغر في الحكومة الإسرائيلية في أعقاب العملية الجريئة التي خطط لها بإنزال مجموعة من الفدائيين إلى شواطئ تل أبيب، ثم التوجه بعد ذلك إلى مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية() في منطقة (الهاكرياه) وأسر كبار الضباط والعاملين في الوزارة بما فيهم اسحق رابين وزير الدفاع آنذاك نفسه، لتكون تعبيرا عن رؤيته القائلة: “سنجبر إسرائيل على البقاء في حالة استنفار”.
بعد العملية أمر قائد سلاح البحرية (بن شوشان) وضع سلاح البحرية في حالة تأهب عليا، ووضع دوريات بحرية لإغلاق شواطئ فلسطين المحتلة بصورة دائمة، لكن هذه الاحترازات الأمنية لم تمنع الأخ أبو جهاد من مواصلة تنفيذ عمليات أكثر جرأة وأشد إيلاما للعدو. ودعى “يعقوب بري” مسؤول قطاع القدس لدى جهاز الأمن العام الإسرائيلي آنذاك لاتخاذ إجراءات أمنية وعسكرية لحماية العمق الإسرائيلي.
رغم أن العملية لم تنجح تماما كما خطط لها أبو جهاد، إلا أن تلك العملية كانت بالنسبة للقيادة الإسرائيلية ناقوس خطر مرعب وكانت تمثل خرقا لقواعد الصراع بين الطرفين التي تقضي بعدم المساس بقادة الصف الأول().
عملية اغتيال خليل الوزير – الرواية الإسرائيلية:
تم تكليف الوحدة الخاصة لهيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي، وسلاح البحرية الإسرائيلي ووحدة “قيسارية” في الموساد بإعداد خطة اغتيال الأخ أبو جهاد، وأوكلت مهمة قيادة فريق التنفيذ لنائب رئيس هيئة أركان الجيش آنذاك “ايهود باراك”، وشاركه في التنفيذ كل من:
1. الجنرال يؤاف غالانت الذي أصبح قائدا للمنطقة الجنوبية فيما بعد ومرشحا لهيئة رئاسة أركان الجيش، وذلك على رأس المجموعة المكونة من (36) منفذا.
2. الجنرال يوسي كوركن قائدا للوحدة البحرية (13) المشاركة في العملية والذي أصبح فيما بعد قائدا للقوة البحرية الإسرائيلية لكنه قتل في لبنان عام 1997 خلال إحدى العمليات البحرية.
3. الجنرال وايزر تسوكرمان الذي تقاعد من الجيش بعد حرب لبنان عام 2006 مع حزب الله.
4. الجنرال رام روتنبرغ الذي أصبح قائدا لقاعدة حيفا في سلاح البحرية الإسرائيلية.
5. مجموعة من “وحدة قيسارية” التابعة للموساد الإسرائيلي.
6. أشرف الجنرال موشيه يعلون رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية فيما بعد على سير عملية التنفيذ بالتعاون مع “شبتاي شبيط” نائب رئيس جهاز الموساد آنذاك().
سير عملية التنفيذ:
1. قبل تنفيذ العملية بيومين، وصلت إلى تونس “مجموعة قيسارية” التابعة للموساد الإسرائيلي، وفور الوصول إلى تونس انقسمت المجموعة إلى مجموعتين على النحو التالي:
▪ المجموعة الأولى: التي تم تخصيصها لاستئجار السيارات وقيادتها ذهابا وإيابا بعد استقبال فريق التنفيذ عند الشاطئ وتعود مع الفريق المنفذ. وقامت بالفعل باستئجار سيارتي فلوكس فاجن نوع (ترانسبورتر) حملتا لوحتين بأرقام (تي لآي 48328) و(تي آي 538405)، وكذلك سيارة نوع (بيجو- 305) تحمل الرقم (تي آي 250566)، وكل سيارة من هذه السيارات تم استئجارها من شركة مختلفة وكانت أسماء المستأجرين كما ظهرت في جوازات سفرهم اللبنانية المزورة هي: جورج نجيب، عايش السريدي، والمرأة اسمها عواطف علام().
▪ المجموعة الثانية: وتخصصت بمراقبة منزل الأخ أبو جهاد، وتبقى في تونس بعد التنفيذ وتغادر عن طريق الجو فيما بعد.
2. قوام القوة المنفذة للعملية: انطلقت خمس سفن صاروخية باتجاه تونس وكانت غرفة عمليات قائد العملية الجنرال إيهود باراك في إحداها وتوقفت هذه السفن في عرض البحر على مسافة (25 ميل) بحري أي ما يعادل (46كم) خارج المياه الإقليمية التونسية. وانطلقت طائرات حربية مقاتلة وهجومية وحلقت عاليا وبجاهزية الهجوم، وضم فريق التنفيذ (36 منفذا)(). وأُنزلت القوارب المطاطية من سفن الصواريخ ودخل إلى كل واحد منها مقاتلان من الوحدة البحرية وستة مقاتلين من دورية هيئة الأركان. واقتربت القوارب إلى مدى قريب جدا من الساحل وانتظرت حلول ظلام تام وكان الليل بلا قمر. في المرحلة الأولى من العملية اندفع من القاربين الأولين مقاتلو وحدة بحرية مدججون بالسلاح واقتربوا في غوص ساكن من الشاطئ. ونزلوا على الساحل وأمنوه مع إنشائهم اتصال راديو. بعد ذلك التقوا مع رجال الموساد الذين انتظروهم مع السيارات على مبعدة ما. وكان الشاطئ آمنا. وكانت مصافحات ساكنة وتربيت على الأكتاف ثم انتقال إلى المرحلة التالية.
وأبحرت القوارب المطاطية التي انتظرت قرابة الساحل ببطء نحو المنطقة الآمنة وقفز محاربو هيئة الأركان. وحملت سيارات عناصر وحدة ”قيسارية“ جزءا من المحاربين الذين سيسيرون في الشارع مثل مجموعة من الرجال والنساء الذين يتجولون ببراءة لبدء الهجوم. وبدلوا ملابسهم المبلولة وانتشروا وأحدثوا بدلة التأمين التي ستخدمهم حتى الانسحاب().
3. خطوات التنفيذ:
للتأكد من وجود أبو جهاد في المنزل، قامت القوات الإسرائيلية ليلة تنفيذ العملية باقتحام منزل المحامي فايز أبو رحمة الذي تربطه صلة قرابة مع أبو جهاد وبدأت تحقيقا مع المحامي حول معلوماته واتصالاته الأخ أبو جهاد، وكان هدف الاعتقال أن يكون ذريعة لإجراء مكالمة هاتفية للتحقق من وجود أبو جهاد في المنزل، وهو ما حدث فعلا، حيث قام أحد أفراد وحدة الاتصالات بتقمص شخصية عربية وأجرى اتصالا عن طريق أوروبا مع منزل أبو جهاد صائحا لقد اعتقلوا المحامي يا أبو جهاد وبدأ يردد عبارات متواصلة من السباب، وعندما جاء صوت أبو جهاد للرد على المتكلم وتهدئته، اطلقت وحدة الاتصالات تشويشا على صوت المتحدث وتم قطع المكالمة، لكنه تم التأكد من وجود أبو جهاد في المنزل وابلغ فريق التنفيذ بذلك.
أنزلت القوارب إلى مياه البحر وفي كل قارب اثنان من الوحدة البحرية وأربعة من الوحدة الخاصة لهيئة الأركان واقتربت القوارب من الشاطئ عند نقطة محددة. انطلق قاربان نحو الشاطئ للتأكد من خلوه والالتقاء مع أعضاء المجموعة الأولى من “قيسارية” المكلفين بنقل القوة المنفذة إلى منزل أبو جهاد، وإعادتهم بعد التنفيذ على القوارب التي تحمل ملابس للقوة المنفذة من نفس الزي الذي يرتديه رجال وحدة مكافحة الإرهاب التونسية()، وعند وصول القاربين والتأكد من خلو الشاطئ والالتقاء مع مجموعة قيسارية أعطيت الإشارة للقوارب الأخرى للتقدم.
خلال ذلك كانت المجموعة الثانية من “قيسارية” تراقب منزل أبو جهاد بمناظير ليلية للتأكد من عدم مغادرته المنزل لأي سبب كان قبل وصول القوة المنفذة. عندما وصلت السيارات التي تقل القوة المنفذة إلى مكان قريب من منزل أبو جهاد نزلت مجموعة من ستة أفراد كان بينهما اثنان يرتديان ملابس مدنية احدهما متنكرا بزي إمرأة.
4 – اللحظات القاتلة:
تقدم الاثنان المتنكران بزي رجل وامرأة فيما بقى الأربعة على أهبة الاستعداد في مكان ليس ببعيد ولكنه يسمح لهما برؤية ما يجري. تحركت المرأة التي كانت تحمل في يدها “خارطة سياحية” بينما الرجل يحمل في يده علبة تشبه علب الحلويات واقتربت من المرافق مصطفى النائم في السيارة وكأنها تريد أن تساله عن كيفية الوصول إلى مكان معين حسب الخريطة، وقبل أن ينهض المرافق للإجابة اخرج الرجل مسدسا مزودا بكاتم صوت من داخل العلبة وعاجله برصاصة في الرأس، فأردته قتيلا. أعطى الأربعة الذين يراقبون العملية إشارة إلى قوة التنفيذ بالتقدم، ليواجهوا حبيب البستاني التونسي، الذي كان الضحية الثانية بعد مصطفى مباشرة.
عند وصول قوة التنفيذ تم خلع باب المنزل المكون من طابقين، وتقدم أحد الأفراد بسرعة قياسية نحو الطابق الثاني حيث يوجد أبو جهاد ونزل عدد من المجموعة إلى قبو المنزل للقضاء على الحراسات الموجودة، فكان هناك الحارس أبو سليمان وتم اغتياله وهو نائم.
شعر أبو جهاد بالحركة أثناء خلع باب المنزل، فهرع إلى خزانته وأخرج مسدسه فيما تساءلت زوجته (شو فيه؟!) فدفعها أبو جهاد إلى الخلف، وحاول الاندفاع إلى خارج الغرفة لمعرفة ما يجري، إلا أن المهاجم كان قد أصبح على باب الغرفة وأطلق عليه الرصاص فسقط على الأرض. بعدها حاولت زوجته الاقتراب من جسده فطلب منها المهاجم العودة إلى الخلف، في حين بدأ الطفل نضال وعمره سنتان بالصياح على أثر دوي الرصاص الذي أخرج ابنته حنان من غرفتها فصاح بها أحد المهاجمين “اذهبي عند إمك”. وصل بقية أعضاء القوة المهاجمة إلى الدور الثاني وبدأ كل فرد منهم على حدة بفرغ رصاص سلاحه في جسد أبو جهاد.
5 – انسحاب القوة المهاجمة:
بعد أن انتهت عملية القوة المهاجمة كما يدعي الإسرائيليون، بدأت عملية الانسحاب بسرعة فائقة حيث توجه فريق التنفيذ نحو السيارات التي انطلقت بسرعة لتعيدهم إلى القوارب الموجودة على الشاطئ وتغادر معهم نحو السفن الراسية في البحر.
وبهدف التضليل على جهاز الشرطة التونسي قام أحد أفراد مجموعة “قيسارية” المكلفين بالمراقبة بإجراء اتصال مع مركز الشرطة المحلي عبر الهاتف مدعيا أن المهاجمين شوهدوا يتوجهون نحو وسط مدينة تونس، وهذا غير صحيح لأن أقوال الخادمة في منزل السيدة الفرنسية المجاور لمنزل الشهيد أبو جهاد بأنها اتصلت بهاتف الشرطة رقم (197) منذ اللحظات الأولى ولم يستجب الأمن التونسي.
تحقيقاتنا وتحرياتنا تقودنا للحقيقة:
ما أن جاءني خبر استشهاد الأخ خليل الوزير تحركت فورا برفقتي جمال زيدة وتوجهنا إلى منزل الشهيد في منطقة سيدي بوسعيد وحينما دخلنا المنزل وجدنا أبو ماهر غنيم، وبعدها عدت فورا إلى المكتب واستدعيت جميع مسؤولي أقسام أمن الرئاسة للتباحث في جريمة الاغتيال لهذا القيادي الكبير الذي كانت تربطني به علاقة مميزة قائمة على المحبة والاحترام.
كانت حالة من الغضب تسيطر على الجميع الذين كان لديهم إحساس بأن مثل هذه العملية لا يمكن أن تتم كنتيجة لقصور في الإجراءات الأمنية الفلسطينية، وإنما وقعت بسبب القيود والإجراءات التي فرضها الأمن التونسي على التواجد الفلسطيني وتحديدا فيما يتعلق بحمل السلاح لحماية القادة والمسؤولين الفلسطينيين، لذلك طلبت من المجتمعين تجاوز حالة المشاعر والأحاسيس والمباشرة بالعمل الفوري لجمع المعلومات مهما كانت مصادرها، سواء السرية أو العلنية منها، والتي تمكنا من كشف الكيفية التي تمكن من خلالها القتلة إلى الوصول للأخ أبو جهاد دون عوائق وارتكاب تلك الجريمة النكراء.
وكان الإيعاز الأول للمهندس إبراهيم الاغواني بصفته اختصاصي برسم الخرائط حيث طلبت منه رسم “كروكي” لمنزل الشهيد أبو جهاد وتقصي خط سير القوة المهاجمة، وعلى الفور توجه إلى بلدية قرطاج للحصول على نسخة من مخطط المنطقة التي يسكن بها الأخ أبو جهاد فيما توجه بقية مسؤولي جهاز أمن الرئاسة للبحث والتقصي والحصول على المعلومات.
لم تطل زيارة المهندس إبراهيم إلى البلدية حيث عاد في وقت قياسي ليبلغني انه طلب من أحد موظفي بلدية سيدي أبو سعيد الحصول على نسخة من مخطط المنطقة المقصودة، لكنه سرعان أن عاد قائلاً بأن المخطط مفقود ويبدو أن هناك من قام بسحبه من البلدية.
لقد أكدت معلومة المهندس إبراهيم بلا شك أن هناك جهات تونسية متواطئة في العملية، وفتحت هذه المعلومة أمامنا الطريق لاكتشاف أسرار عملية الاغتيال ومعرفة الأشخاص، فقمت باطلاع الضابط التونسي (نوري) الذي كان يعمل كضابط ارتباط بيننا وبين الأمن التونسي عن اختفاء مخطط البلدية لمنطقة سكن الشهيد أبو جهاد.
تحضيرات إسرائيلية ميدانية سبقت عملية الاغتيال:
1. قبل تنفيذ العملية بحوالي شهر، ترددت إمرأة على منزل القائم بالأعمال الهولندي المجاور لمنزل أبو جهاد، والتقت مع زوجة القائم بالأعمال الهولندي منتحلة شخصية ابنة أبو جهاد بحجة وجود عطل في جهاز الهاتف الموجود لديهم وأنها تستأذن بإجراء مكالمة هاتفية من منزلها، وترددت تلك المرأة في الأيام التالية لنفس الحجة لكن زوجة القائم بالأعمال لاحظت أنها تتحدث باللغة الألمانية فاشتبهت بها وقطعت العلاقة معها.
2. قبل تنفيذ العملية بعدة أيام وصل إلى تونس عميل المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) المدعو “ميلان” بمعرفة الجهات الأمنية التونسية المختصة، وسكن مقابل فندق أبو نواس، وعقد عدة اجتماعات متوالية مع ضابط الأمن التونسي (حبيب) الذي تم تكليفه بإدخال المذكور للبلاد وإقامته في تونس دون أن يعلم أنه على علاقة مع الموساد أيضا، وكان قدوم عميل الاستخبارات المركزية الأمريكية بتونس بترتيب مسبق مع محمد العربي المحجوبي “الشاذلي الحامي” الذي كان على رأس المصالح التونسية الأمنية المختصة.
3. منزل أبو جهاد كان تحت المراقبة الدقيقة منذ أن تم استئجاره، حيث تبين لنا بأن المنطقة التي يقع فيها المنزل يوجد بها العديد من الشقق المفروشة وبقربها عمارات تحت البناء ويشرف عليها منطقة عالية تضم فندق سيدي الظريف الذي يقع أعلى التلة المطلة مباشرة على الحي الذي يضم سكن أبو جهاد، وأن الذين قاما بالمراقبة هما شاب وفتاة يتقنان اللهجة العربية بلكنة لبنانية أما الشخص الثالث فهو عضو للموساد والذي كان دائم التواجد في ذلك الفندق بحجة أنه من محبي لعبة التنس الأرضي على الملاعب العشبية التابعة للفندق والتي تقع أسفل المنحدر المطل على موقع سكن الشهيد خاصة أن نهاية الملاعب تنتهي بأشجار حرشية ساعدته بالاختباء واستعمال مناظير نهارية وليلية.
4. ترددت فتاة مجندة لصالح الموساد على صالون للحلاقة يقع في الحي الذي يسكنه أبو جهاد، وتمكنت من خلال ترددها على التعرف بابنة الشهيد.
5. جميع عناصر المراقبة والكشف والأدلاء هم جزء من شبكة موجودة مسبقا في تونس، أما من استأجر السيارات فقد ثبت أنه قام بها ثلاثة أشخاص يحملون جوازات سفر لبنانية مزورة وقد قدموا قبل العملية بثلاثة أيام بجوازات سفر أخرى وبأسماء أخرى حقيقية، لكنهم استأجروا السيارات بالأسماء المزورة وكان هؤلاء قد دخلوا تونس عبر الأفواج السياحية.
6. إن عناصر التنفيذ التابعين للموساد وهم إسرائيليون دخلوا تونس مع أفواج السياح وليس صحيحا تلك الرواية التي تدعي وصولهم عن طريق البحر وهذا ما أكدته التحقيقات. فحسب الرواية الإسرائيلية أن مجموعة التنفيذ وصلت عن طريق البحر وقاموا بتغيير ملابسهم ثم توجهوا إلى منزل الشهيد أبو جهاد لتنفيذ العملية وهنا يبرز التساؤلات التالية:
أ – أين قام أفراد المجموعة القادمة من البحر بتغيير ملابسهم؟ خاصة وأن شهود العيان اكدوا أن المجموعة التي قامت بمهاجمة منزل أبو جهاد كانت ترتدي ملابس وحدة مكافحة الإرهاب التونسية.
ب- ما هو الداعي أن يتم استقدام مجموعة الهجوم عن طريق البحر على الرغم من الادعاء في نفس الرواية الإسرائيلية أن هناك مجموعات استباقية من عناصر الموساد كانت تتواجد على الأراضي التونسية قبيل تنفيذ العملية وقامت باستقبال باقي أفراد المجموعة القادمة عن طريق البحر؟ إذن فهناك تناقض واضح ورغبة لدى الروايات الإسرائيلية في التضليل والخداع لإعطاء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية صبغة “القوة الخارقة” القادرة على تنفيذ “العمليات المستحيلة” إضافة إلى الرغبة في إخفاء حقيقة النشاطات الاستخبارية الإسرائيلية على الأراضي التونسية في ذلك الوقت.
7. بما أن أبو جهاد قد اعتاد على استقبال الكثيرين من الزوار في منزله ومنهم الأجانب، وكذلك الكثير من العاملين في الصحافة العرب والأجانب ومعهم آلاتهم التصويرية، فإن ذلك يؤكد أن أحدهم قام بتصوير المنزل من الداخل أثناء إجراء حديث صحفي، والمحتمل أن تكون المرأة التي رافقت مجموعة التنفيذ هي أحدهم.
8. قبل تنفيذ العملية بيوم واحد تم قطع الكهرباء عن سكن الأخ الشهيد بعدة دقائق وأعيدت حيث قال أبو جهاد هذا (Test)، وليس صحيحا أن شبكة الهواتف في المنطقة قد تم قطعها أثناء التنفيذ، والصحيح أنه قبل تنفيذ العملية بدقائق قطعت الحرارة عن هاتف منزل أبو جهاد ثم أعيدت بعدها مباشرة، وكانت مدة القطع نصف ساعة فقط، وفي هذا السياق أذكر أن أحد عملاء الموساد قام قبل انقطاع حرارة الهاتف بالاتصال مع الأخ أبو جهاد للتأكد من وجوده، وقد سبق أن حدث نفس الشيء في قصة اغتيال الأخ الشهيد علي حسن سلامة الذي اتصل به شخص أجنبي اللغة كان يسأله إذا كان موجود لعدة أيام في بيروت أم لا.. حيث سألني أبو حسن إذا كان المذكور أحد مندوبينا بالخارج وعندما أبلغني بذلك عرفنا فيما بعد أن ذلك الاتصال كان للتأكد من وجوده وكنت قد أخبرت كل من الأخوة أبو عمار وأبو جهاد وأبو الوليد بهذه الحادثة.
9. قبل لحظات من تنفيذ العملية استطاع فريق الموساد المسيطر على هاتف أبو جهاد التقاط مكالمة هاتفية بين أبو جهاد ومنسق الرحلات في مكتب م.ت.ف الذي أكد لأبو جهاد انه قد تم حجز تذكرة لأبو جهاد من تونس إلى بغداد الساعة الواحدة. ثم تم التأكد من وجود أبو جهاد في المنزل من خلال مكالمة وهمية عن طريق محطة مركزية في أوروبا أجراها أحد عناصر جهاز الموساد مع أبو جهاد ليخبره انه قد تم اعتقال فايز أبو رحمة وهذه المكالمة هي التي أكدت وجود أبو جهاد في منزله في تلك اللحظة وهو ما اعتبر إشارة ببدء الهجوم. وهنا اتصل ابو جهاد بمندوبه في اوروبا (ابو طارق) الذي اكد خبر مداهمة منزل فايز ابو رحمة، وهنا يبرز تساؤل آخر خطير حول قدرة عناصر المخابرات الإسرائيلية على السيطرة على هاتف الشهيد أبو جهاد بهذه الصورة بهذه السرعة والسهولة في عملية معقدة تحتاج إلى تواجد فريق تقني في المنطقة يتمكن من التعامل مع خطوط الهاتف والمحطة المركزية؟ وهو ما يعزز ما توصلنا إليه أن الفريق الاستخباري الإسرائيلي عمل لفترة ليست بسيطة في تونس قبل تنفيذ العملية وتمتع بحرية كبيرة في الحركة والعمل معتمدا على ثغرات أمنية في النظام الأمني القائم في تونس في تلك الفترة وليس كما يحاولون الادعاء في رواياتهم انهم قدموا عن طريق البحر ونفذوا عمليتهم ثم عادوا عن طريق البحر أيضا.
عملية الاغتيال:
▪ وصل أبو جهاد بعد منتصف الليل إلى منزله قادما من زيارة لأبو اللطف ودخل إلى المنزل برفقة مرافقه مصطفى أبو فاعور الذي عاد إلى السيارة ونام فيها، كما كان حبيب البستاني متواجدا في حديقة المنزل، أما أبو سليمان كريشان فقد ذهب إلى قبو المنزل للنوم.
▪ عند بدء عملية التنفيذ وصل القتلة على متن حافلتين (ميكروباص) وسيارة صغيرة من طراز (بيجو-305) وتوقفوا بالقرب من منزل القائم بالأعمال الكندي الذي يبعد حوالي (50 مترا)، وبدأت المجموعة في النزول سيرا على الأقدام نحو منزل أبو جهاد، وانقسموا إلى مجموعتين:
1- المجموعة الأولى توجهت نحو باب الفيلا من الخارج وتحركت امرأة كانت تحمل في يدها “خارطة سياحية” بينما الرجل يحمل في يده علبة تشبه علب الحلويات واقتربت من المرافق مصطفى عبد العال (أبو فاعور) النائم في السيارة وبجواره سلاحه وكأنها تريد أن تسأله عن كيفية الوصول إلى مكان معين، وقبل أن ينهض المرافق للإجابة أخرج الرجل مسدسا مزودا بكاتم صوت من داخل العلبة وعاجله برصاصة في الرأس، فأردته قتيلا.
2- المجموعة الثانية قفزت عن حائط السور الملاصق لكراج الأخ أبو جهاد من قبل منزل جارته الفرنسية، ثم توجهت نحو باب الفيلا من الداخل لخلعه بواسطة (طفاشة لخلع الأبواب) وهنا ظهر عامل الحديقة التونسي “الحبيب الدخيلي” فتم قتله والذي كان الضحية الثانية، وقد وجد الشهيد في حديقة المنزل على بعد 15 مترا فقط من البوابة الخارجية.
▪ اندفعت المجموعة الأولى إلى الباب الداخلي، وعندما انفتح الباب محدثا هذا الصرير المدغوم الذي تناهى صوته إلى أذني أبو جهاد حيث كان يجري محادثات هاتفية مع أحد مكاتبه في أحد العواصم الأوربي قائلاً: “مرحبا، آسفين على الإزعاج، اتصلوا بي من روما وابلغوني أن فايز أبو رحمة قد اعتقل، ممكن بالله نتأكد من هذا الخبر”. الساعة الآن تشير إلى الواحدة وعشر دقائق بعد منتصف الليل في غزة، مما كان من الصعب سؤال أحد الآن عن صحة هذا الخبر.. في الصباح يمكن أن نتأكد. هذا كل ما قاله محادث الأخ أبو جهاد على الخط الآخر. وهنا بالذات أنهى الأخ أبو جهاد محادثته، لم يكن مرتبكا رغم أنه لحظتها كان قد سمع صوت خلع الباب فعلى مدى 35 عاما من العمل والنضال لم يشعر الأخ أبو جهاد أحدا بالقلق أو الارتباك، بل كان على العكس يضفي على الآخرين في احلك الساعات وأكثرها خطرا هذا القدر العجيب من الطمأنينة والأمل اللتين كان يتميز بهما على الدوام، لم يتردد أبو جهاد في حسم موقفه كعادته، ادرك على الفور أن الأمر جلل، فاستل مسدسه الذي يضعه فوق الخزانة المجاورة، ويصر على تغطيته بطاقية صغيرة بيضاء، ولم ينتظر أن تفاجئه المعركة التي سمع هديرها في انخلاع الباب، ووطأة البساطير العسكرية لمجموعة الاغتيال وهي تصعد الدرج الداخلي للمنزل بسرعة فائقة حيث كان أبو جهاد.
▪ كانت عقارب الساعة تشير إلى الواحدة وعشر دقائق، ربما تجاوزتها بثواني قليلة كانت ثقيلة كالدهر، ومشحونة بالقلق الكامن والتوتر المكبوت. لم يتراجع ولم يختبئ بل خرج فورا للمواجهة قابضا على مسدسه ليبادر كعادته بإطلاق الرصاصة الأولى على أعدائه. كان القتلة أربعة، اطلق أبو جهاد الرصاصة الأولى فأصاب احدهم لكن سرعان ما اطلق الآخرون زخات كثيفة من الرصاص “الخاص” الذي انهمر بشكل غزير على كفه فانفجر المسدس في يمينه، ومن ثم تناوب القتلة على الضحية، أربعة وسبعون طلقة اخترقت رأسه وجسده الطاهر، وكان ظهره للحائط وكأنما كان عليه وهو في لحظة استشهاده أن يلخص كل مأساة الفلسطيني المعاصر الذي يقاتل وظهره للحائط.
▪ على مكتب أبو جهاد كانت هناك رسالة يهم بتسطيرها للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، كان قد كتب منها أربعة وأربعين كلمة فقط احتوتها جميعا ستة اسطر فحسب، ولم يكمل أبو جهاد الرسالة، وكأنما ليترك فيها وصيته الأخيرة: “أكملوا رسالتي من بعدي”. لم يكمل الأخ أبو جهاد رسالته الأخيرة للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، ولم ينطق بكلمة واحدة غير انه تمتم بالشهادة وهو يضغط بسبابته على زناد مسدسه.
وتروي انتصار الوزير “أم جهاد” ذكرياتها عن تلك اللحظات قائلة: سمعت «أبو جهاد» يقوم بسرعة من خلف مكتبه، فتحت عيني فوجدته يحمل مسدسه ويتجه نحو باب الغرفة، لحقت به ووقفت إلى جانبه، نهرني وطلب مني أن أبتعد عنه، وقفت في الزاوية الأخرى، ثوانٍ وشاهدت أمامي شخصاً على بعد متر واحد، كان في حوالي الثانية والعشرين من العمر، أشقر، يضع على وجهه قناعاً شبيهاً بقناع غرفة العمليات، ولم يتكلم أبداً، أطلق علـيه «أبو جهـاد» رصاصـة مـن مسـدسـه، فـرد عـليه بـمشـط كامـل مـن رشـاشه، سقـط «أبو جهاد» على الأرض، جاء رجل ثانٍ، ظننت انه سيقتلني أنا، ولكنه أفرغ رشاشه بجسد «أبو جهاد»، جاء الثالث، وفعل الشيء نفسه، كنت أضع يدي فوق رأسي وأنطق بالشهادتين، وعندما جاء شخص رابع ليفعل الشيء نفسه صرخت بصوت عالٍ ومدوٍ (بس)، لكنه أفرغ رشاشه في جسده. ثم توجهوا جميعاً إلى غرفة النوم، ابني نضال (سنتان ونصف) ينام داخل الغرفة، فكرت به، شعرت بخوف شديد عليه، وبحركة عفوية حاولت أن أتحرك نحوه، لكن أحد المهاجمين وقف أمامي يهددني برشاشه كي لا أتحرك، دخل الثلاثة الآخرون إلى غرفة النوم، أطلقوا رشات من الرصاص، فتيقنت أن نضال قد قتل ولكنه كان يصرخ، وكان صراخه يُطمئنني. انسحبوا من غرفة النوم كانت حنان قد خرجت من غرفة نومها لترى ما يحدث، فوجئت بالأشخاص المجهولين أمامها، وفوجئت بأحدهم يقول لها باللغة العربية: «اذهبي إلى أمك». وغادر الأشخاص الأربعة الطابق العلوي من المنزل».
وتضيف «أم جهاد»: «انحنيت على «أبو جهاد»، ناديته، حاولت سماع تنفسه، حدقت في عينيه، حركتهما بيدي، فلم ألحظ أي أثر للحياة، كان الرصاص في وجهه وعنقه ويديه وجسده، وكان ينزف بشدة كمية كبيرة من الدم. دخلت غرفة النوم، حملت نضال بين يدي، وعدت وجلست معه إلى جانب «أبو جهاد»، قمت وذهبت إلى الشـرفة، نـاديـت بأعـلـى صـوتـي، لـم يجـبـني أحـد، شـعـرت بـأن كـلَّ ما حولي فراغ مُطلق، نزلت مع ابني الصغير نضال وابنتي حنان إلى مدخل المنزل، جلست هناك وأنا أحتضن نضال، وحنان تعانقني، كانت حولي ثلاث جثث، جثة «أبو سليمان» كريشان (الحارس)، وجثة مصطفى عبد العال (سائق) «أبو جهاد»، وجثة لشاب تونسي الحبيب الدخيلي – (جنيناتي)، جاءت الفتاة التونسية التي تُساعدني في عمل المنزل خائفة مرتعدة، روت لي أنها شاهدت أربعة أشخاص آخرين يطلقون النار في غرف الطابق الأرضي من المنزل، وقالت أن بينهم امرأة، وأن المرأة كانت تلتقط الصور، ولكنني لا أستطيع أن أؤكد ذلك. كان ابني الصغير يقول لي وأنا أحتضنه عند مدخل المنزل: «ماما أنا خائف هل أنت خائفة؟» – قلت له: «ماما أنا لست خائفة، أنت أيضاً لا تخف». تركته مع حنان، وصعدت لرؤية «أبو جهاد» ثانية، ومرة أخرى ناديت من الشرفة أطلب المساعدة، ولم يجبني أحد».
حنان أقرب أبناء أبو جهاد إلى قلبه كانت هي الأخرى نائمة في غرفتها، سمعت صوت الرصاص، فهرعت خارج غرفتها فاصطدمت على الفور بأحد القتلة، كان قصيرا وممتلئا اصلعا ورأسه كبير، قدرت حنان أن يكون قد تجاوز عقده الرابع، التجاعيد واضحة على طرفي عينه، يرتدي كالمجموعة نفس الزي الذي يرتديه رجال وحدة مكافحة الإرهاب التونسية، يحمل في يده رشاشا عليه كاتم للصوت، ووسطه مزنر بحزام عريض مشكوك كله بطلقات الرصاص وعلى جانب خصره كان هناك مسدس آخر. بشكل غريزي سألته حنان “شو في” فدفعها باتجاه موقع المجزرة وهو يقول “روحي هناك حد إمك”. القتلة الثلاثة الآخرون رأتهم حنان من خلف الدخان الذي اطلقته حمم الرشاشات، كانوا ينسحبون لحظتها.
“راضية” تعمل كمربية للصغير نضال وتقيم مع الأسرة بصورة شبه دائمة، كانت في هذه الليلة ترقد في الغرفة المجاورة لغرفة أبو جهاد التي تطل نافذتها على البوابة الخارجية للمنزل المجاور، تنبهت من نومها عندما سمعت صوت الباب الخشبي وهو يخلع وصوت أقدام المجموعة فارعبها ما سمعت وأوصدت الباب وبقيت خلفه. أحد القتلة من مجموعة الكوماندوس دخل إلى غرفة نوم أبو جهاد حيث كان نضال ربما يبكي ويصرخ في لوعة، وهو لا يعي بعقله الصغير هول ما يحدث على عتبة باب الغرفة، ربما كان قلبه قد ادرك المأساة فاطلق من صدره هذا البكاء الصارخ، وهذا الصراخ المبكي الحزين ويبدو أن صراخ نضال قد افزع القتلة فأطلق احدهم زخات عصبية من رشاشه فوق رأس الصغير ليسكته.
مجموعة الاغتيال تغادر المكان:
بعد أن قام القتلة بتصوير العملية انسحبوا مسرعين ولم يفتشوا المنزل أو يحملوا معهم أية وثائق، في تلك اللحظة نظرت المربية (راضية) من نافذتها المطلة على البوابة الخارجية فرأت تحت ضوء الشارع امرأة شعرها أسود ينسدل على كتفها، ترتدي جاكيت صوف أحمر اللون من دون أكمام، تحته قميص أسود فوق تنورة سوداء أو كحلية، والمرأة قصيرة بعض الشيء وتحمل ما يشبه الحقيبة أو شيئا آخر مربوط إلى عنقها ويتدلى على صدرها وكانت تصرخ في القتلة بالفرنسية قائلة “ساييه.. ساييه” أي خلاص وهي تشير للمجموعة بالانسحاب.
سلكت المجموعة الطريق الخلفي لطريق سيدي بوسعيد خلف الوادي من جهة أميلكار، وعند زاوية الطريق المؤدي إلى المقبرة الأمريكية انحرفت إحدى السيارات بفعل السرعة واصطدمت مقدمتها بحجر زاوية أثري موضوع على جرف الطريق مما أدى إلى نزول أفرادها ودفعها، وهذا ما ساعد الكلاب البوليسية من الالتفاف كثيرا حول الحجر الأثري مكان الحادث، ثم انطلقت نحو المقبرة وكانت الكلاب تنهي بحثها أمام باب المقبرة الأمريكية حيث قام فريق القتلة باستبدال السيارات في حين تولى عملاء محليون قيادة السيارات التي شاركت في التنفيذ إلى الشاطئ للتمويه والإيحاء بأن المهاجمين غادروا بحرا وهو تضليل المقصود منه عدم كشف حقيقة الحادث وتأكد ذلك من مقارنة آثار الأقدام الموجودة على بقع الدم التي وجدت في منزل الشهيد وآثار الأقدام الموجودة على الشاطئ قرب مكان السيارات حيث ظهر بأنها غير متشابهة كما لم نجد أية آثار تتجه بشكل طولي نحو البحر للداخل وكل ما وجد هو آثار (عرضية) تدل على تنقل القتلة بين الآليات وفي مكان تجمعها، كما أن وجود العلب الفارغة للمياه المعدنية في مكان تجمع الآليات يدل على أن أشخاصا كانوا هناك بانتظار العملاء المحليين حين قدومهم بالسيارات التي استخدمت في التنفيذ لنقلهم بعد إيقاف السيارات في سيارات أخرى والعودة بهم إلى المدينة. وتطابقت هذه المعلومات مع معلومات جهاز المخابرات الفلسطينية والتي أجراها اللواء طارق أبو رجب بعد معاينة الموقع وتتبع خط سير السيارات.
معطيات ساعدت على إنجاح العملية:
المعطى الأول:
▪ استعانة إسرائيل بموقع مقر سكن الموفدين من قبل وزارة الخارجية الأمريكية لتعلم اللغة العربية في المدرسة الخاصة التابعة لسفارتهم في تونس، وصادف أن يكون موقع هذه العمارة قائم في وسط التلة العالية لجبل سيدي بوسعيد وكانت مطلة بشكل مباشر من الأعلى وكاشفة بوضوح فيلا أبو جهاد من جهة البوابة الرئيسة ونوافذ الصالون والطابق العلوي لغرف النوم وحتى سطح التراس للفيلا من الأعلى. وفي هذا الوقت كان ثلاثة من عملاء الموساد متمركزين في المقر يراقبون منزل أبو جهاد بمنظار بالغ القوة، وعلموا أنه ليس في البيت بل في لقاء مع فاروق القدومي. بعد منتصف الليل بقليل عاد أبو جهاد إلى بيته وصاحبه حراسه إلى الداخل، وعاد أحدهما وكان يعمل سائقا أيضا إلى السيارة ونام، أما الثاني فدخل وجلس في الصالون، بعد ذلك اتجه يسارا ونزل إلى القبو حيث نام().
▪ وبناء على معلومات أدلى بها حارس موقف السيارات المجاور لعمارة الموفدين لاحظ أنهم قبل عملية الاغتيال بشهرين قد نقلوا جميع النزلاء الموفدين من الإقامة بهذه العمارة وتم توزيعهم إلى منازل صغيرة متفرقة حول محيط جبل سيدي بوسعيد، بحجة الانخراط بالمجتمع العربي التونسي لتقوية لغة المحادثة لديهم باللغة العربية، وتم إشغال العمارة المطلة على فيلا أبو جهاد من قبل عناصر ادعوا انهم من المارينز قدموا إلى تونس لتمضية إجازة رأس السنة مطلع عام 1988، ولاحظ الحارس انهم لم يعودوا لاستخدام خادمات للعمارة من التونسيات كما جرت العادة لديهم سابقاً. ومن خلال النظر لهذه العمارة من جهتها العلوية فإنه يلاحظ وجود هوائيات لاسلكية عالية فوق سطح الروف مع وجود علم متعدد الألوان ومظلة مثبتة على شرفة البلكون المطل على فيلا الأخ أبو جهاد من الأعلى.
المعطى الثاني:
▪ المقبرة الأمريكية لجنود الحرب العالمية الثانية القائمة على منبسط سهلي خلف منزل أبو جهاد، كانت تشكل مزارا يوميا ومتنفس طبيعي “حديقة عامة”، وذلك لاحتوائها على ساحة واسعة من الحدائق والزهور الطبيعية. ولوحظ أنها كانت مغلقة قبل شهرين من اغتيال أبو جهاد، حسب لوحة اعلان على الباب الرئيسي لمدخل المقبرة، واستمر وجود هذه اللوحة لشهر آخر بعد تنفيذ العملية، وكانت اللوحة مكتوب عليها اعتذار عن قبول الزائرين بسبب اعمال الصيانة، حيث كانت المقبرة تحتوي على منشآت إدارية ومستودعات كبيرة وكراج كبير للسيارات بأبواب مغلقة وعدة مهاجع خاصة بالحراس العسكريين التابعين لمقرات السفارة الأمريكية المتواجدة في عدة أماكن بالعاصمة التونسية، وقد استخدمتها المجموعة الإسرائيلية لإخفاء السلاح ولتبديل الملابس وارتداء زي قوات التدخل السريع التونسية وإخفاء السيارات.
المعطى الثالث:
▪ إن طبيعة الموقع السياحي لضاحية سيدي بوسعيد وجبلها العالي تتميز باستقبال عدد كبير من السائحين الأجانب ومن عدة جنسيات أجنبية مختلفة، وأوروبية خاصة، ومن ضمن الامتياز الكبير المعطى لحرية التنقل والتصوير للسائحين الأجانب من قبل السلطات المحلية، واعتاد السكان التونسيين من الاحتكاك المباشر وحسن الاستقبال وتبادل الأحاديث مع الأجانب باعتبارهم يتقنون عدة لغات أجنبية وأهمها اللغة الفرنسية.
المعطى الرابع:
▪ تواجد مركز البريد الرئيس لسيدي بوسعيد وسط السوق التجاري وغير البعيد عن منزل أبو جهاد بالإضافة إلى وجود مقسم الخطوط الهاتفية الأرضية ومحول الطاقة الكهربائية الرئيسي على زاوية الشارع الرئيس الفاصل بين السوق التجاري ومنطقة المنازل المحيطة لسكن أبو جهاد، وهي منطقة صادف أنها كانت منفصلة كهربائيا عن شبكة إنارة الشوارع الرئيسة والسوق التجاري لسيدي بوسعيد كون خط السكة الحديد المنصف لهذه المنطقة والفاصل بينهما كهربائيا، وهو ما سهل قطع الخطوط الهاتفية والخط الكهربائي المنير للشوارع الداخلية بمحاذات بيت الأخ أبو جهاد وقد استمر هذا القطع لمدة (15) دقيقة ولم يلاحظ أحدا من السكان أو أي من عناصر أعمال الصيانة هذا الانقطاع.
المعطى الخامس:
▪ الاستفادة من كاتب الدولة للأمن بوزارة الداخلية التونسية، محمد العربي المحجوبي “الشاذلي الحامي” الذي كان يسكن بالجهة المقابلة من ناحية الغرب، لمقر سكن أبو جهاد وقد ساعد أيضا بإضفاء جو من الأمان لأكثر من شخصية دبلوماسية غربية من الإقامة والسكن بالتجاور بنفس الحي الذي يقيم فيه أبو جهاد، المذكور كان وراء تخفيف النشاط الأمني لحراسات مقر الرئيس بقرطاج والذي كان يتناوب ليليا على وضع حواجز متحركة وثابتة ما بين مدخل قرطاج حنبعل المؤدي إلى طريق قرطاج الرئاسة ومنه إلى سيدي بوسعيد والحاجز الثاني على مفرق اميلكار المنصف بين حي سيدي بوسعيد وقرطاج الرئاسة وقد تبين أن هذه الحواجز قد تم رفعها باكرا أي قبل منتصف الليل على غير العادة ويمكن أن تكون جزءً من مؤامرة اغتيال الشهيد أبو جهاد.
المعطى السادس:
▪ الاستفادة من موقع سكن القائم بالأعمال الهولندي المجاور لمنزل أبو جهاد من الجهة الغربية، والذي اتضح أنه كان يقيم حفلة خاصة ليلة تنفيذ العملية ولم يكن بها مدعوين رسميين وذلك لعدم وجود سيارات رسمية أو حراسات خاصة حتى نهاية الحفلة قبل تنفيذ العملية.
▪ الاستفادة من موقع سكن القائم بالأعمال الكندي والذي كان يقيم بفيلا صغيرة على ناصية الشارع المقابل لزاوية مقر سكن أبو جهاد وتصادف أنه كان يقيم حفلة خاصة ليلة تنفيذ العملية حيث كانت السيارات التي تحمل فريق التنفيذ تقف أمام منزله قبل الشروع في العملية بالإضافة إلى الظروف الغامضة التي تم فيها مقتله بطلق ناري أمام باب مدخل الفيلا بعد ثلاثة أسابيع من عملية اغتيال أبو جهاد، وقد تم التكتم على مجريات التحقيق في أسباب موته وقد نسبت الجريمة إلى وجود سارق ليلي قد لاذ بالفرار وحفظت القضية ضد مجهول.
المعطى السابع:
▪ إصرار الأخ أبو جهاد على تقليص الحراسات المرافقة له أو التي تؤمن مسكنه، وقد كان يرفض الزيادة رغم العديد من التأكيدات عليه من قبل الأخوة في القيادة، وهو الأمر الذي سهل من عملية الاختراق الأمني خلال الهجوم على مسكنه.
تعقيب:
▪ كافة المعطيات السابقة تؤكد أن عملية اغتيال أبو جهاد تمت في ظل تعاون استخباري إسرائيلي أمريكي، إضافة إلى اختراقات هامة للمؤسسة الأمنية التونسية، والتي كان لها الدور الأهم في نجاح العملية خاصة أنها منحت الغطاء لتحركات عناصر الموساد على الأرض التونسية والذين قاموا، ولفترة طويلة خلال إقامتهم في تونس، بجمع كافة المعلومات اللازمة عن تحركات أبو جهاد لدرجة جعلتهم يعترفون انه كان تحت المراقبة الشديدة(). كما سهلت عناصر الموساد تحركات عناصر سرية هيئة الأركان الإسرائيلية “سريت متكال”(*) التي تواجدت على الأرض التونسية قبل تنفيذ عملية الاغتيال بعدة أيام والتي كلفت بتنفيذ عملية الاغتيال. وساهم التعاون الاستخباري الأمريكي – الإسرائيلي في الخداع والادعاء أن العملية تم تنفيذها بواسطة وحدات عسكرية إسرائيلية جاءت عن طريق البحر وهو الأمر الذي أثبتنا عدم صحته وهذا ما أكده أيضا ما توفر من معلومات عن منح رئيس الأركان الإسرائيلي في تلك الفترة ثلاثة من أفراد وحدة “سريت متكال” أوسمة لمشاركتهم في عملية تاريخية لاغتيال زعيم عربي بارز().
▪ كانت معلوماتنا صحيحة 100% حينما أعطت إسرائيل أوسمة لأفراد وحدة المتكال الذين كانوا موجودين بالأصل بتونس ولم تتطرق إلى قوات البحرية.
عناصر المخابرات الإسرائيلية المشاركة في اغتيال أبو جهاد:
ومن خلال تحرياتنا توصلنا إلى أن العناصر التالية التابعة لأجهزة المخابرات الإسرائيلية شاركت في عملية اغتيال أبو جهاد وهم:
1. داني جيفع من شعبة تسوميت في الموساد المسؤولة عن شبكة عملاء الموساد، وكان موجودا في تونس حتى اندلاع الثورة التونسية في 18 ديسمبر 2010م.
2. دورون ليبر من شعبة كيدون التابعة للموساد وتعتبر الذراع التنفيذي والعملياتي، ومسؤولة عن تنفيذ عمليات الاغتيال. عدد أفراد هذه الشعبة مقلص ويصل إلى 80 عنصرا يتحدثون لغات كثيرة ومدربين على عمليات الاغتيال بالسلاح وبوسائل أخرى مثل التسمم أو الاغتيال بمواد كيماوية قاتلة وكان عناصر هذه الوحدة وراء محاولة اغتيال خالد مشعل في عمان 1997 وسممت أحد قيادات الجبهة الشعبية وديع حداد. هذا إلى جانب اغتيال علماء عراقيين ومصريين منهم يحي المشد وعلماء الفيزياء والكيمياء في العراق بعد اجتياح العراق عام 2003.
3. نوريت أفيدان تعمل في شعبة تسفريريم في الموساد، هذه الشعبة مسؤولة عن حماية اليهود في كل أنحاء العالم، وقد أنيطت بها ومعها ثلاثة من عناصر الشعبة حماية يهود جربة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي على إثر تعرض الكنيس اليهودي في جربة لعملية تفجير بشاحنة مفخخة أثناء اجتياح العراق.
الأمن التونسي لم يتعاون لكشف الحقيقة:
جميع هذه الخطوات والمعطيات أسهمت بدور أساسي في عملية الكشف عن تفاصيل عملية اغتيال أبو جهاد وكذب الرواية الإسرائيلية حول قدوم المجموعة المنفذة عن طريق البحر، وقد تعمد الإسرائيليون إشاعة تلك الرواية بهدف التغطية والتمويه على دور العملاء في داخل الأراضي التونسية في العملية.
وبناء على توجهات الرئيس ياسر عرفات للأخ حكم بلعاوي بالطلب من التونسيين إشراك الأجهزة الأمنية الفلسطينية في التحقيق لكشف حقيقة اغتيال الأخ أبو جهاد فقد وعد الأخ حكم بلعاوي بترتيب لقاء مع المسؤولين عن التحقيق، وتم ذلك اللقاء في مكتب المنظمة يوم 20/5/1988م بحضور “المنصف” المسؤول عن التحقيق في القضية حيث أفاد بأنه لا يملك صلاحية لإطلاعنا على التحقيقات الموجودة. يضاف إلى ذلك فقد أفاد اللواء طارق أبو رجب من المخابرات الفلسطينية أنه عندما كان يجري التحريات جاءه الأخ حكم بلعاوي وأبلغه أن الأمن التونسي يطلب منه وقف التحريات لكنه لم يكترث لذلك، فجاءه حكم بلعاوي للمرة الثانية مكررا نفس الطلب التونسي لكنه لم يستجب لطلبه، وفي المرة الثالثة جاءه ضابط تونسي كبير وأبلغه أنهم أرسلوا له مرتين مع حكم بلعاوي لوقف التحريات وأنه جاء إليه هذه المرة بأمر من “الكبير” ويقصد الرئيس زين العابدين بن علي الذي يرغب في إنهاء التحقيقات، وبعده مباشرة جاء ضابط تونسي آخر يدعى “رفيق الشلي”() ناقلا نفس طلب الرئيس الذي يقول: “إن موضوع اغتيال الأخ أبو جهاد أمانة في رقبته”، ويذكر أن السلطات التونسية قامت باعتقال محمد العربي المحجوبي المعروف “الشاذلي الحامي” كاتب الدولة لشؤون الأمن في أعقاب الجريمة وصدر بحقه حكم بالإعدام تم تخفيفه فيما بعد بقرار من الرئيس زين العابدين بعد أن تبين تعامله مع إسرائيل وكان له دور كبير وأساسي في إنجاح العملية حيث شكل الغطاء الأمني الكامل للعملية بناء على اتفاق مع ضابط المخابرات المركزية الأمريكية المدعو ميلان والمحسوب على المخابرات الإسرائيلية أيضا، وهو الذي أمر جميع الدوريات تلك الليلة بالانسحاب من المنطقة تسهيلا للمجموعة الإسرائيلية المنفذة، كما تأكد أنه زود الموساد الإسرائيلي بمعلومات دقيقة عن المنطقة التي يسكن فيها أبو جهاد والسكان المقيمين في الجوار بالإضافة إلى أنه رتب خطة الحماية للمجموعات المنفذة حين الانسحاب.
ثبت من أقوال الخادمة في منزل السيدة الفرنسية المجاور لمنزل الشهيد أبو جهاد بأنها سمعت تحرك قوارير الغاز الموجودة في حديقة المنزل، فنظرت للشارع من النافذة فشاهدت رجلا يعتقد أنه لص تسلق سور منزل أبو جهاد، فاتصلت بهاتف الشرطة رقم (197) وأخبرتهم بما رأت وأعطتهم اسمها ورقم هاتف منزل السيدة الفرنسية، وبعد قليل اتصل بها مركز الشرطة سائلا إياها إن كانت متأكدة مما رأت وسمعت، أجابت بنعم أنها متأكدة ولكن لم يأت أحد وأهمل الموضوع، وقد أكد هذه المعلومة القائم بالأعمال الهولندي الذي يسكن بالجوار أيضا.
محاولة مهاجمة منزل أبو الطيب:
طبقا لاعترافات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق رفائيل إيتان في حديث للإذاعة الإسرائيلية يوم 18/4/1988 ونشرته الصحف فإن اللواء أبو الطيب قائد قوات الـ17 كان هدفا للاغتيال من قبل القوة الإسرائيلية التي اغتالت أبو جهاد، فقد توجهت إحدى سيارات القوة الإسرائيلية المهاجمة نحو منزل أبو الطيب والذي يبعد عن منزل أبو جهاد حوالي (3 كلم)، إلا أن يقظة حراسات المنزل أفشلت الهجوم بعد أن لاحظ حارس السطح ان السيارة تقترب من المكان، فقام بقرع الجرس المتصل مع باقي الحراسات الذين تحركوا على الفور، فلاحظت القوة الإسرائيلية المهاجمة انتشار الحراسات فانسحبت على عجل، لكن الحراسات التقطت رقم السيارة ولاحظوا أن السيارة انسحبت باتجاه المقبرة الأمريكية التي تبعد عن منزل أبو الطيب شارعين من الجهة الخلفية، وتم إبلاغ السلطات التونسية عن رقم السيارة التي أفادت انه رقم مزور.
الاختراقات الإسرائيلية وأسئلة لابد منها:
▪ ما الذي اسكن كل هذه الطمأنينة في قلب “أبو جهاد” وجعلته لا يأخذ الحد الأدنى من الاحتياطات الأمنية، رغم سيل المعلومات والإنذارات التي لم تنقطع والتي كانت تؤكد أن المستهدف هو الأخ أبو جهاد بنفسه؟؟
▪ ما الذي اجل سفر الأخ أبو جهاد من تونس ثلاث مرات متتالية، وعندما قرر السفر جرى اغتياله ليلة سفره؟
▪ من الذي قطع التيار الكهربائي عن منزل الأخ أبو جهاد الساعة الثانية عشر والنصف بعد منتصف الليلة التي سبقت عملية الاغتيال، وهل كانت العملية ستتم ليلة 15/4، وليس 16/4، كما حدث، ولماذا تأجلت، وما الذي جعل “أبو جهاد” يقول لحظة انقطاع التيار الكهربائي ((انه“test“، انه اختبار)).
▪ من الذي اتصل “بأبو جهاد” من روما في هذه الساعة المتأخرة من الليل ليبلغه معلومات عن اعتقال “فايز أبو رحمة”، وهل كان الاتصال للتأكد من وجوده في المنزل قبل اقتحامه؟
▪ لماذا أصرت مجموعة الكوماندوس الإسرائيلية على تحطيم آلة الهاتف الموجودة في الطابق السفلي من المنزل، وأخذ الجزء الصغير الذي يعمل كذاكرة تخزن فيها عادة أرقام الهواتف التي يستخدمها صاحب الجهاز؟ هل كان الهدف هو الحصول على هذا الجزء من الهاتف الذي لا قيمة سرية له، أو أن الهدف كان اكبر من ذلك، وهو استرجاع جزء آخر تم زرعه في الجهاز ويسميه رجال الأمن والاستخبارات “باج” ويستخدم للتنصت على المكالمات الهاتفية ونقلها.
جميعها استفسارات تضع علامات استفهام كبيرة حول حقيقة الخلل في أنظمة حماية أولئك القادة التاريخيين للثورة الفلسطينية وهو الذي ساعد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على تنفيذ عمليات اغتيالهم بدون أية صعوبات تذكر تقريبا وفي عمليات حاولت دوما تلك الأجهزة، ومن خلال ماكينتها الإعلامية، تصويرها أنها عمليات تحمل قدرات خارقة لتلك الأجهزة.
إلا أنه من الظلم القبول بتلك الادعاءات فلم يكن التواجد الفلسطيني في تونس مسموح له وفق الاتفاقيات المبرمة بحمل السلاح خارج إطار السفارة أو المقرات أو المعسكرات، وقد كانت الأوامر الصادرة عن السفير الفلسطيني تشدد على ضرورة الالتزام بذلك، لهذا لم تكن الحراسات الفلسطينية ظاهرة للعيان، وهي في حدها الأدنى الذي لا يضمن الحماية الكاملة.
ونظرا لعدم توافر الاحتياجات الأمنية الكافية فقد كان سهلا على إسرائيل وشبكتها الاستخبارية المزروعة في تونس الوصول إلى الأهداف، ليس فقط بالنسبة للوجود الفلسطيني، وإنما لأهداف استخبارية في دول الجوار التونسي لا سيما أن إسرائيل رأت في تونس ميدانا حيويا للنشاط الاستخباراتي الإسرائيلي لموقعها الإستراتيجي، ثم لمجموعة من المزايا لخصها الرئيس الأسبق للموساد “دان ياتوم” كما يلي:
1. وجود جماعات فلسطينية في تونس بعد خروجها من بيروت عام 1982.
2. وجود طائفة يهودية في تونس تحتاج إلى حماية وإلى إقامة سور أمن واقي من عناصر أمنية إسرائيلية، ويبلغ عدد أفراد هذه الجالية حسب التقديرات 3000 يهودي بينهم 2000 في جزيرة جربة ويتزعم الطائفة اليهودية في جربة المدعو (بيريز الطرابلسي)، كما يؤم منطقة جربة آلاف اليهود سنويا حيث يحجون إليها لوجود كنس يهودية عتيقة فيها.
3. انتهاج تونس ومنذ عهود مبكرة سياسة معتدلة تجاه إسرائيل وعدم التورط في أية أعمال عدائية ضد إسرائيل مثل المشاركة في الحروب التي اندلعت مع إسرائيل وعلى الأخص في عام 1973م هذا على خلاف ما فعلته الجزائر وليبيا.
على ضوء هذه المزايا الكامنة في تونس والتموضع فيها وأهميتها بالنسبة لإسرائيل فإنّها تحولت إلى مدخل للنفوذ الاستخباري. ويتباهى أحد المسؤولين عن العمليات الخارجية في الموساد (حجاي هداس) بأنّ الوجود الأمني في تونس أسّس لمرحلة هامة من العمل الاستخباراتي في شمال إفريقيا انطلاقا من تونس. ومن الجوانب الهامة والخفية التي كشف عنها فيما يتصل بما أسماه الإنجازات الاستخباراتية الإسرائيلية المهمة:
أولا: متابعة النشاط الفلسطيني:
هذه المعلومات كانت بمثابة رصد الحركة الفلسطينية على أرض تونس بصورة مباشرة من خلال مصادر فلسطينية أو من المصادر التونسية التي أخضعت حركة الفلسطينيين المتواجدين فوق أراضيها أو المترددين عليها لرقابة أمنية مشددة.
ثانيا: التجسس على ليبيا:
تموضع عناصر من الموساد والاستخبارات العسكرية في منطقة جربة، هذه العناصر أنيطت بها مهمة حماية الطائفة اليهودية في هذه المنطقة ثم رصد حركة المرور بين ليبيا وتونس ثم جمع معلومات شاملة عن ليبيا وعلى الأخص ما يتعلق منها بتطوير أسلحة الدمار الشامل. وتشكلت خلية بقيادة (نوريت تسور) تضم عشرة عناصر كانت تستخدم سيارات “جيب” في تنقلاتها وصولا إلى الحدود الليبية مع تونس.
وتدعي مصادر استخباراتية إسرائيلية أنّ الحاجز الحدودي بين تونس وليبيا تحول إلى أهم موقع للحصول على المعلومات وكذلك إلى نقطة اتصال مع عملاء كانوا يوفدون من تونس إلى ليبيا كرجال أعمال.
ثالثا: التجسس على الجزائر:
هذه المهمة أنيطت بخلية كان يقودها (نحمان جلبواع) الذي كان يقيم في تونس العاصمة ولكنه ظل يتردد هو وأفراد الخلية على الحدود التونسية الجزائرية. وكان يقيم في نزل أبو نواس ويحمل معه أكثر من جواز سفر فرنسي وأمريكي وإسباني.
هذه النقطة الحدودية استخدمت أيضا من أجل جمع معلومات عسكرية بالدرجة الأولى عن الجيش الجزائري وعن أسلحته الجوية والبحرية والبرية وعن النشاط النووي الجزائري وعن العلاقات العسكرية بين الجزائر والدول الأخرى وعلى الأخص روسيا والصين وكوريا الشمالية.
الثورة التونسية وهروب أفراد شبكات المخابرات الإسرائيلية:
الانتفاضة التي تفجرت في تونس ثم هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في يوم الجمعة 14 يناير كان لها القول الفصل في إماطة اللثام عن طبيعة التواجد الاستخباراتي الإسرائيلي في تونس وعن تفكيك الشبكة الإسرائيلية كنتيجة مباشرة لهروب أفرادها. ما كشفته بعض التقارير الإسرائيلية يتبين أنّ عناصر الشبكة الإسرائيلية ممن أفلتوا من الأحداث في تونس يصل عددهم إلى 30 عنصرا.
في نفس اليوم الذي فرّ الرئيس التونسي هاربا حطت طائرة عسكرية أمريكية تابعة للقيادة العسكرية الأمريكية في أوروبا (شتوتغارت) في مطار جربة جرجيس الدولي من أجل إجلاء أكثر من 150 من الأمريكيين وبينهم الإسرائيليين الثلاثين. الطائرة نقلت الأمريكيين الذين تأكد أنّهم يعملون لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والإسرائيليين من عناصر “الموساد” و”أمان” إلى ألمانيا (مدينة شتوتجارت) وبمجرد وصولهم أرسلت وزارة الدفاع الإسرائيلية طائرة خاصة لنقلهم إلى مطار بن جوريون بتل أبيب.
وللأسف فإن هروب 30 من عناصر المخابرات الإسرائيلية من تونس لا يعني تفكيك شامل ونهائي وحاسم للشبكة الإسرائيلية المتغلغلة في صفوف الطائفة اليهودية في تونس وفي أوساط ونخب سياسية وحتى ثقافية واقتصادية وإعلامية. وهذا ما جعل الباحثين والمطلعين على صورة النشاطات الإسرائيلية في تونس بمن فيهم مسؤولين في إسرائيل وعلى رأسهم (شالوم كوهين) الذين يشغل الآن منصبا أهّله لتولي ملف شمال إفريقيا بوزارة الخارجية ينفون إمكانية استئصال الوجود الإسرائيلي في تونس إلا في حال هجرة أبناء الطائفة اليهودية في تونس إلى إسرائيل.
وفي النهاية لا بدّ من التأكيد على حقيقة هامة على خلفية الثورة التونسية أنّه ليس بمقدور الولايات المتحدة ولا إسرائيل أن تضمن بقاء نظام عربي رهن نفسه لخدمة الخارج، والضمانة الوحيدة هي الولاء للوطن وللشعب باعتبارها الضمانة الأقوى والأبقى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى