منوعات

توفيق أبو شومر: هل انتشارُ ألقاب الفخر عندنا ظاهرةٌ صحية؟!

توفيق أبو شومر 26-11-2025: هل انتشارُ ألقاب الفخر عندنا ظاهرةٌ صحية؟!

احتجَّ أحد المتابعين لصفحات الفيس بوك على قيام أحد المواطنين الفلسطينيين وهو مواطنٌ عادي بتقليد كبار الرؤساء والوزراء في مجال توقيع بروتوكول تعاون بين قبيلته وعشيرته وبين إحدى الجمعيات غير الحكومية، وقلَّد ما يفعله الرؤساء والوزراء في الحكومات والدول، أوقف شخصاً من عشيرته وراءه، وأمسك بالقلم للتوقيع، هذا المغرم بتقليد الرؤساء نسي أنه يعيش في عصر حرب الإبادة ودمار تسعين في المائة من قطاع غزة، وتدمير مقر الجمعية التي يوقع معها بروتوكول التعاون، ونسي حتى قصف بيته!

قال المحتج: «كنتُ أظنه فعل ذلك من منطلق السخرية، ولكنني أعرف هذا الشخص، أعرف أنه كان جاداً في ذلك، لأنه لم يجد ما يفتخر به، فهو يقرأ بوستات غيره ممن يُلصقون الألقاب الفخرية قبل أسمائهم، مثل بروفسور، ودكتور، وكاتب ومحلل، وخبير، فأراد أن ينافسهم في ابتكار حدث أكبر من الألقاب، وهو الاحتفال بتوقيع بروتوكول تعاون مشترك»!

كما أن أحد البسطاء ممن يعشقون ألقاب الفخر والمدح، لم يكتفِ بلقب الأستاذ والبروفسور والدكتور بل وضع قبل اسمه، الشاعر، والناثر، والأديب، والمختار، ليحظى بالإعجاب، هؤلاء جميعهم لا يعلمون أن لهذه الألقاب أثراً سيئاً على القارئين، فهم يتخذونها مجالاً للسخرية والاستهزاء في مجالسهم السرية الخاصة، كما أن ادعاء الفخر هو علامة على مرضٍ نفسي يصيبُ بعض الناس ممن قصر باعهم في العمل الجاد المثمر، هؤلاء يكمن في داخلهم إمبراطور قامع يستعد للخروج في أي لحظة!

وما زلتُ أتذكر أن مقدماً في أحد الاحتفالات، قدّم شخصاً باسمه المجرد دون أن يمنحه اللقب الأكاديمي (دكتور) فاحتج هذا الشخص عندما صعد للمنبر، وقال غاضباً: «أنفقت كل مدخراتي للحصول على لقب دكتور، وها هو مقدم الاحتفال يسلبني هذا اللقب»!

لا تنزعج من حاملي الأوسمة والألقاب لأنني تذكرتُ أن أكبر جامع للألقاب الفخرية كان شاعراً فلسطينياً في القرن العاشر الميلادي وهو من مواليد مدينة الرملة في فلسطين وتوفي فيها العام 920م، هذا الشاعر ابتدع حروفاً بديلة لاسمه الشخصي الحقيقي، أبو الفتح محمد محمود السندي، وقد كان هذا الشاعر والأديب من مادحي، سيف الدولة نفسه، هذا الشاعر ابتدع له اسماً يجمع كل صفات الفخر، ففي كل حرف صفةٌ فخرية، سمّى نفسَه، كشاجم، مع العلم أن كشاجم ليس اسماً عادياً، بل هو مكوَّنٌ من خمسة حروف، تشير إلى صفاته المحبوبة الخاصة؛ فحرف الكاف هي اختصار (كاتب) أما حرف الشين فهو (شاعر) والألف تشير إلى (أديب) أما الجيم فهو محاورٌ (جدلي)، أما الميم فهي تشير إلى أنه فيلسوف (منطقي) ولم يكتفِ كشاجم بذلك، بل أضاف حرف الطاء للإشارة إلى أنه (طبيب) أيضاً!

لا تنسَ أن جامع الألقاب والمفوض من رب العالمين، كان أيضاً حاكماً عربياً، وهو قد سمّى نفسه اسماً خارقاً للعادة وهو، الحاكم بأمر الله، وأخفى اسمه الحقيقي، المنصور بن عبد العزيز، عاش أيضاً في القرن العاشر الميلادي، حكم مصر كما يُشاع بوساطة الطغيان والقتل، وإجبار الناس على أن يناموا في النهار ويعملوا في الليل، وحاول كما يشاع أن يتحكم في ظهور واختفاء القمر والشمس في جبل المقطم، لذلك اعتاد أن يرصد النجوم والقمر في الليل، اتفق كثيرون من الباحثين على أنه كان مريضاً نفسياً، اضطهد المسيحيين واليهود، وهدم الكنائس، وعده باحثون مسؤولاً عن بدء الحروب الصليبية، بسبب هدمه كنيسة القيامة في القدس، بينما اعتبره آخرون عاملاً متواضعاً وأنه صاحب إنجازات عديدة في مجال الثقافة والبناء!

ولا أنسى أنني كتبت عن الطغاة في تاريخنا العربي، وأشرت إلى الخطيب الذي نسبت له جملة (أُنجُ سعد فقد هلكَ سُعيد) وهو زعيم التهديد، زياد بن أبيه، وكتبتُ أيضاً عن سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قَتَلَ، عبد الله بن الزبير وعلق رأسه في مكة ليُذل أُمه!

لا تنسَ، إن انتشار الفخر والمدح للذات هو الصفة الأوسع انتشاراً في حياتنا، وبخاصة إذا أجرى المتحدثون العرب لقاءات مع وسائل الإعلام، حين يُسألون عن أنظمة الحكم في أوطانهم، فإنهم يستخدمون ألفاظ التعظيم والقداسة للمسؤولين، كما أن الفخر بالذات هو اليوم من أبرز سمات وسائل التواصل الاجتماعي، وقد انتشرت ألقاب الرفعة والسمو مثل الفخر بالإنجازات العلمية ووضعها أمام أسماء أصحابها لإقناعهم بما يكتبون، مثل البروفسور والمهندس والدكتور والتربوي والناقد والخبير، هذه الألقاب مشتقةٌ من ألقاب وسائل الإعلام الموالية للسلطات مثل السعادة والنيافة والعظمة، والجلالة!

أسهمتْ وسائلُ التواصل الرقمية في انتشار هذه الظاهرة، لأنها تعتمد سياسة التجارة وإعلانات التسويق في مجال النشر لتحقيق الأرباح المادية، عبر أهم مكاسب هذا العصر في الدعاية والإعلان، وليس هناك ما يزيد الأرباح سوى منح رواد التواصل الاجتماعي جرعات من الفخر، ففي كل مرة يمنح مسيرو الشبكات الرقمية زبائنهم الفرصة لكي يُلصقوا بأنفسهم ألقابَ فخرٍ جديدة، كدكتور أو قائد أو مهندس أو ملك ورئيس متوج، وإمبراطور كبير!

أرجع، عبد الرحمن الكواكبي مؤلف كتاب» طبائع الاستبداد ومصارع الفساد» المحظور نشرُه وتوزيعه في كثير من دول العرب هذه الصفة عند العرب على وجه الخصوص إلى ظاهرة انتشار الاستبداد عندهم، قال: «يعود السبب إلى انتشار ألقاب التعظيم والتفخيم بين العامة والرؤساء إلى انتشار الاستبداد والطغيان»!

كما أنه وضع أروع التعريفات للحاكم المستبد قال: «أشد مراتب الاستبداد، والتي يتعوذ بها من الشيطان، هو الحاكم المستبد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على لقب ديني، ما مِن مستبدٍ سياسي، إلا ويتخذ له صفة قُدسية، يُشارك بها الله»!

نحن العرب نملك تراثاً شعرياً ونثرياً لا يُبارى في باب المدح، وقد وصلت درجات المدح عندنا، نحن العرب الغاية القصوى حين خصصنا أكثر من ثلثي الشِّعر العربي للمدح، حتى أن الشاعر ابن هانئ الأندلسي قال يمدح الخليفة المُعز لدين الله: ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار…. فاحكمْ فأنتَ الواحدُ القهَّارُ!

سأظل أتذكر الحكام العرب في الأندلس ممن نحتوا لهم ألقاباً فخرية بديلاً عن أسمائهم، ازدهرت في هذا العصر ألقابُ، منتصر، ومعتصم، ومؤمن، وواثق، ومنصور، ومهدي، وهادي، ورشيد، ومُعز، ومأمون، ومعتمد، ومعتضد، وأمين، وسيف الدولة، وركن الدولة، هذه الألقاب جعلت الشاعر الأندلسي، أبو بكر بن عمار يقول بيتين من الشعر ظلا يترددان على ألسنة من يرفضون هذه الظاهرة قال: مما يُزَهِّدني في أرضِ أندلسٍ.. ألقابُ معتضدٍ فيها ومعتمـد…. ألقابُ مملكة في غير موضعها…. كالهِرِّ يحكي انتفاخاً صولة َالأسد!

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى