عاموس يادلين : تقويم استراتيجي شامل ، عشرة مكونات وعشرة تحديات، معضلات وتوصيات
بقلم: عاموس يادلين، معهد بحوث الأمن القومي آذار ٢٠١٨م
مكونات المحيط الاستراتيجي
اسرائيل قوية، مستقرة وحدودها هادئة. ايضا في سنة 2017 تم الحفاظ على التفوق العسكري لاسرائيل في الشرق الاوسط، والردع تجاه اعدائها، منظمات ليست دولة وشبه دولة ومنها حزب الله وحماس وداعش، القريبة من حدودها. هذا الردع الذي تغذيه نتائج المعارك السابقة بين هذه الجهات واسرائيل، وتجسيد استعداد اسرائيل للعمل وجباية ثمن باهظ من اعدائها حتى بثمن التصعيد، يفسر الهدوء على حدودها: 11 سنة في الشمال و3 سنوات في الجنوب. الردع الاسرائيلي اجتاز الامتحان ايضا ازاء نشاط مواظب ضد نقل السلاح لحزب الله والانفاق في الجنوب، التي خلافا للحذر الذي ميز اسرائيل في العقد الاخير، تحملت المسؤولية عنه. ميزان القوة غير العسكرية ايجابي ايضا: على خلفية الدمار والخراب والتحديات الاقتصادية البارزة في محيطها فان اقتصاد اسرائيل هو اقتصاد قوي ومستقر ويمكنها من تحمل عبء الاحتياجات الامنية وحتى أنه تحول الى مركز جذب ونموذج يقتدى به، بسبب حداثتها في مجال الهاي تيك والسايبر والزراعة وانشاء المشاريع. رغم التأثير السلبي في موضوع سياسة اسرائيل في القضية الفلسطينية فقد نجحت في الحفاظ على، بل وتطوير، علاقاتها الخارجية في النظام الدولي وخاصة مع الدول العظمى.
الولايات المتحدة في ظل ادارة ترامب. ادارة ترامب صديقة ومتعاطفة مع اسرائيل، وترى بنفس المنظار معظم مكونات تقدير الوضع الاستراتيجي في المنطقة. ولكن تأثير الولايات المتحدة في المنطقة يستمر في التآكل ومكانتها الدولية آخذة في الضعف. في صالحها يمكن أن نعدد جهود الولايات المتحدة لتعزيز علاقتها مع حلفائها في المنطقة، السعودية ومصر واسرائيل، وتعاملها مع ايران كعدو اساسي يهدد استقرار المنطقة، يجب كبحه. والنشاطات ضد استخدام السلاح الكيميائي من قبل نظام الاسد في سوريا، وكذلك الدعم الدبلوماسي لاسرائيل في مجلس الامن وفي مؤسسات الامم المتحدة واعتراف الرئيس ترامب بالقدس كعاصمة لاسرائيل.
في المقابل، ما زال من غير الواضح أين تقف الادارة الامريكية – بين الميل الى الانفصال والتمركز حول المشكلات الداخلية للولايات المتحدة وبين الخطاب بشأن الحاجة الى تعزيز قوتها العسكرية واستعدادها لاستخدام قوة زائدة ضد اعدائها في العالم. الادارة لم تبلور استراتيجية شاملة من اجل تحقيق اهدافها التي حددتها ولم تظهر الاستعداد للعمل، خلافا لما أظهرته في السابق في عهد ادارة اوباما. جل اهتمامات الادارة مكرس للازمة مع كوريا الشمالية، وجهود التشريع وتحقيقات “روسيا غيت”، في الوقت الذي فيه مؤسسات الادارة واجهزتها المركزية ضعيفة والوظائف الرئيسية فيها مشلولة بشكل جزئي وقدرتها على أن تدير بصورة مستمرة ومنهجية عدد مختلف من القضايا المعقدة، محدودة.
في الشرق الاوسط هدف السياسة المركزية الذي يتمثل بهزيمة الدولة الاسلامية في سوريا والعراق، يقترب من النهاية، ويبدو أنه قد زاد الاغراء في واشنطن للاعلان عن الانتصار في هذا السياق، والانسحاب من التزامات زائدة في المنطقة. على اسرائيل أن تأخذ في الحسبان الفجوة الكبيرة بين الخطاب الايجابي من ناحيتها وبين النشاط الدبلوماسي والعسكري بحده الاقصى. اضافة الى ذلك فان الاستقطاب في النظام السياسي الامريكي يزداد، والتقرب الزائد من اسرائيل من قبل الرئيس يصعب عليها أن تكون قضية تحظى باهتمام الحزبين، أي أنها تهم الحزبين في الولايات المتحدة وتحظى بعلاقات معهما وتزيد المخاطرة من ناحيتها عندما يتحرك البندول السياسي مرة اخرى باتجاه الحزب الديمقراطي. في هذا السياق علينا التأكيد على الشرخ المتزايد بين اسرائيل ويهود الولايات المتحدة الذين في معظمهم هم من المعارضين، اساسا على خلفية سياسة اسرائيل في المواضيع الدينية والدولة والمجتمع. هذا الشرخ يتعمق ويتفاقم بتشجيع عوامل نزع الشرعية عن اسرائيل واللاسامية. التي تتحسن نشاطاتها، وتتوجه الى طوائف جديدة في المجتمع وتوجه نحو المس على المدى البعيد بمكانة اسرائيل والامن الشخصي لليهود.
روسيا هي المنتصر الاكبر في الشرق الاوسط في السنتين الاخيرتين
بالضبط على خلفية ضعف روسيا النسبي في مجال الاقتصاد وعزلتها السياسية بسبب ضم شبه جزيرة القرم والحرب في اوكرانيا فقد نجحت في ترسيخ مكانتها في الشرق الاوسط بفضل عملياتها في سوريا. تدخلها العسكري في الحرب في سوريا قبل سنتين، صحيح انه كان بقوى محدودة، لكن بشدة عالية، التي أملت اتجاه الحرب. روسيا حصلت على كل اهدافها بواسطة تدخلها المحسوب في سوريا، الذي اثبت ان هناك احيانا حل عسكري – اذا عرفنا كيفية استخدامه بصورة صحيحة وبتصميم. نظام الاسد الواقع تحت رعايتها عاد للسيطرة على معظم الاراضي السورية، وروسيا اصبحت هي الرائدة كلاعب سياسي قائد في تشكيل الساحة السورية واستقرارها، مع ازاحة الولايات المتحدة واضعافها، وتثبيت في الاراضي السورية رواسي عسكرية، بحرية وجوية لضمان سيطرتها الاستراتيجية عليها لاجيال. هذا دون ان تغرق في الوحل “المتحرك” كما توقع الرئيس اوباما. روسيا نجحت في الحفاظ على علاقة جيدة مع كل لاعبي الشرق الاوسط حتى لو كان يسود بينهم عداء شديد. ايران والسعودية، اسرائيل والفلسطينيين، تركيا والاكراد، مصر وقطر. في الساحة الدولية تستفيد روسيا من الفضاء الاستراتيجي الآخذ في التوسع والذي تتركه لها ادارة ترامب بسبب اندماج سياسته وشلل اجهزة النظام الامريكي، على خلفية تحقيقات علاقاته مع حكومة روسيا وتدخلها في الانتخابات الرئاسية الاخيرة. علاقة اسرائيل مع روسيا معقدة: على المدى القصير وعلى المستوى التكتيكي تنجح اسرائيل بواسطة حوار استراتيجي وقنوات تنسيق عملية في الحفاظ لنفسها على مجال عمل محدد في سوريا دون احتكاك مع القوات الروسية. وهي تتقاسم معها مصالح استراتيجية مثل استقرار الساحة وابعاد المواجهات. مع ذلك، على المستوى الاستراتيجي هناك تصادم مصالح جوهري بين اسرائيل وروسيا، يمكن من منح الدعم لتمركز ايران وحلفائها في سوريا، وتسعى لاضعاف الولايات المتحدة وتأثيرها. ايضا في الساحة الدولية تواصل روسيا دعم المواقف الفلسطينية التقليدية ويبدو أن من أمل باستخدام الفيتو الروسي على قرار مناهض لاسرائيل في مجلس الامن، سينتظر لوقت طويل.
الصين – دولة عظمى اقتصاديا بوجه استراتيجي منخفض
الصين تضع نفسها كلاعب رائد ومسؤول في النظام الاقتصادي العالمي وفي المؤسسات الدولية حيث يوجد في الخلفية منافسة اقتصادية واضحة بينها وبين الولايات المتحدة. اساس اهتمام الصين بفضاء آسيا والمحيط الهاديء، هناك تشتد المنافسة بين الدول العظمى. في الشرق الاوسط تترك الصين تشكيل المشهد السياسي – الامني وتحمل التكاليف العسكرية والسياسية لهذا المشهد لروسيا والولايات المتحدة، في حين أنها تواصل التركيز في الاساس على المستوى الاقتصادي وادارة دبلوماسية رمزية، وتكتفي بوجود عسكري ضئيل في مهمات دولية متفق عليها. قوات سلام للحماية، وعمليات مضادة محدودة. شبيهة بسياسة روسيا في الشرق الاوسط فان سياسة الصين ترتكز على علاقات مع مجمل عناصر القوة ذات العلاقة في المنطقة، ايضا الصقور من بينهم مثل السعودية وايران. كما أنها تقيم علاقات مع اسرائيل خاصة كمصدر هام للحداثة والتكنولوجيا. موقف الصين السياسي بخصوص المواضيع المختلف عليها بين اسرائيل وجاراتها هو مع الجانب العربي والاسلامي، وهكذا ايضا اسلوب تصويتها في المؤسسات الدولية. مع ذلك، هناك عدد من الخطوات التي تدل على بوادر تغيير في سياستها في المنطقة: مصالح الصين في المنطقة هي في الاستثمارات والمشاريع وحجم العمال الصينيين المتعاظم، هذا اضافة الى الاستهلاك في موارد الطاقة واهتمامها بأمن خطوط الملاحة، “مبادرة الحزام والطريق”، طريق الحرير الجديد، البنى التحتية الاستراتيجية تشكل امكانية كامنة لتدخل صيني متزايد في اقتصاد المنطقة والبنى التحتية فيها، اهداف الصين كما حددت مؤخرا، تضم تحولها الى دولة عظمى عالمية ودولة بحرية مسلحة بوسائل حديثة يمكنها الدفاع بنفسها عن مصالحها في العالم. الى جانب القاعدة العسكرية الاولى خارج الصين التي اقيمت في جيبوتي ينضم ايضا الميل الى التصدير الامني الى الشرق الاوسط، مع التأكيد على انظمة “نيشة” مثل الطائرات بدون طيار، طبقا لتوجهات بناء قوة جيش الصين وصناعاته العسكرية، بناء على ذلك يمكن الافتراض أنه سيحدث ارتفاع معتدل في مستوى النشاط السياسي للصين في المنطقة، وبنظرة لعدة سنوات، ايضا بالتوقيع العسكري – الامني في المحيط الاستراتيجي لاسرائيل – الذي هو ايضا في “الخصائص الصينية” وليس في الاسلوب الروسي أو الامريكي. يوجد لاسرائيل الآن تأثير بسيط اذا لم يكن معدوم، على المواقف السياسية الصينية في المواضيع المتعلقة بها. ووعي منخفض لسياستها بشكل عام وسياستها في المنطقة بشكل خاص.
ايران والذرة: رغم أن ادارة ترامب معادية للاتفاق النووي مع ايران وحتى أنها وصفته بـ “اسوأ ما شاهدته” فان الاتفاق تم الحفاظ عليه طوال السنة الاولى من الطرفين. الرئيس لم يخرج الولايات المتحدة من الاتفاق – ايضا حتى لو لم يصادق على أن ايران تنفذ بنوده. وأن الاتفاق يخدم مصالح الولايات المتحدة. القرار بهذا الشأن نقل الى الكونغرس جهات في الولايات المتحدة وحلفائها الذين اعتقدوا أن الاتفاق سيسبب ضرر اكثر من الفائدة، نجحوا في اقناع الادارة بأنه من الافضل محاولة تحسينه. في 13 تشرين الاول الماضي شدد ترامب على الحاجة الى مواجهة نواقص الاتفاق النووي، وعلى رأسها بند “غروب الشمس” الذي يزيل معظم القيود عن ايران، نوعية الرقابة على المنشآت غير معلن عنها والسلاح ومسألة الصواريخ البالستية التي بقيت ضبابية في قرار مجلس الامن 2231. يصعب رؤية كيف يمكن تحسين الاتفاق بطريقة أحادية الجانب، مثلا، بتشريع في الكونغرس، في وضع الشركاء من الدول العظمى في الاتفاق، لا تتعاون كما يبدو، في هذه الحالة سيقدم للنظام طلب بأن يتمسك بوعوده، ومرة اخرى سيخلق ضغط على الرئيس ترامب كي ينسحب من الاتفاق، اذا تم اتخاذ خطوات احادية الجانب في الكونغرس وحسب اوامر الادارة الامريكية، من شأنها أن تمس بوجود الاتفاق اكثر من تحسينه، وهذا ايضا حتى لو كانت ايران ما تزال تقدر أن استمرار تنفيذ الاتفاق هو في صالحها. في هذه الاثناء ليس هناك استعداد امريكي وجهات اخرى لعهد ما بعد 10 – 15 منذ توقيع الاتفاق، الذي فيه ستنتهي القيود الاساسية على المشروع النووي الايراني، ويكون بامكانها العودة الى بناء وتشغيل البنى التحتية النووية بشكل مكثف، والذي سيقصر جدا زمن انتاج السلاح النووي.
التحدي الايراني في سوريا مع حسم المعركة في الدولة
الحرب في سوريا حسمت لصالح التحالف الذي يؤيد الاسد، وهكذا تعزز معسكر ايران وحلفائها وضعفت المعسكرات الاخرى – السنية بشتى انواعها. إن ارتباط المعسكر الشيعي الايراني مع معسكر الاسلام السياسي السني الذي يضم تركيا وقطر وحركة الاخوان المسلمين هو تطور اشكالي يجب فحصه بصورة دائمة. نظام الاسد سيطر مجددا على معظم المناطق التي خسرها في الحرب الاهلية. داعش فقد سيطرته على الارض والمعارضة للنظام ضعفت جدا. اضافة الى ذلك فان رد المعسكر الشيعي الايراني على معسكر الاسلام السياسي السني – برئاسة تركيا وقطر والاخوان المسلمين – يزيد من شدة التهديد من الشمال. هذا تطور اشكالي يجب فحص بصورة دائمة خصائصه، مع ذلك الحرب الاهلية لم تنته والقتال يتوقع أن يستمر والعملية السياسية لتشكيل سوريا المستقبلية ستكون طويلة ومعقدة. التحدي الاساسي لاسرائيل في هذا السياق هو نية ايران التمركز في سوريا من ناحية البنى التحتية والعسكرية، وتهديد اسرائيل من هناك بحجم ووسائل لا توجد في الساحة حتى الآن، مع التشديد على المليشيات الشيعية بشكل واسع. مع ذلك، من المهم الاشارة الى أن الايرانيين ليسوا “على الجدران”، التهديد ما يزال موجود في مراحل التشكل الاولى، وبناء على ذلك يجب التعامل معه وكأنه تحد متواصل لبناء قوة العدو في فضاء مجاور، شبيها بنموذج بناء حزب الله في لبنان. اضافة الى ذلك، الانتشار العسكري في سوريا له قيود عديدة بالنسبة لايران (تكاليف خطوط امداد طويلة)، وهذه تخلق لاسرائيل مساحة واسعة لجمع المعلومات الاستخبارية والاهداف الجذابة للهجوم، في مجال عمل قريب ومعروف.
هزيمة داعش وتشكل الصورة القادمة للجهاد العالمي
في السنة الاخيرة ضعف بصورة بارزة المحور السلفي – الجهادي، نتيجة عملية موجهة للتحالف العالمي والاقليمي لتصفيته. “الدولة الاسلامية” فقدت تقريبا تماما الموقع الجغرافي الاساسي لها في العراق وسوريا وإن كان ما زال هناك لها وللقاعدة مواقع محدودة في الشرق الاوسط – في شبه جزيرة سيناء وشمال افريقيا واليمن – وكذلك خارج المنطقة. داعش عاد تقريبا ليكون حركة غير جغرافية أو الانتقال الى قواعد جديدة، هذه امكانية معقولة. الايديولوجيا جذابة، لا سيما في اوساط الجاليات الاسلامية التي تشعر بأنها مقموعة ومكبوحة. هناك امكانية كامنة لخلايا داعش والوحدات العاملة بالهام منه للقيام بنشاطات ارهابية وضعضعة الاستقرار سواء في الدول العربية أو في ارجاء العالم، وبدرجة أقل في اسرائيل.
المعسكر السني المعتدل ضعف، لكن يظهر هناك تحول هام في السعودية
المحور السني البراغماتي فشل في عدد من الجبهات: في صد توسع المحور الايراني في سوريا، حيث تم هناك، كما قلنا، حسم المعركة لصالح التحالف الروسي الايراني، في اليمن، هناك يواصل الحوثيون اطلاق الصواريخ على مركز السعودية. وفي المعركة الدبلوماسية لفصل قطر عن ايران وعن الاخوان المسلمين، وكذلك في لبنان حيث مكانة حزب الله وايران تتقوى. هزيمة الدولة الاسلامية في العراق تعزز ايضا نفوذ ايران والمليشيات الشيعية، في ارجاء الشرق الاوسط يعتبر المحور الذي تقوده ايران منتصر – وهذا تطور يدفع دول المحور السني لتوظيف موارد اكبر في النضال ضد ايران. هذا المحور تقوده السعودية، التي تمر بعملية داخلية دراماتيكية من استبدال الزعامة. ولي العهد محمد بن سلمان يدير فعليا المملكة، ويسيطر على مراكز القوة العسكرية، ويحارب الفساد ويعمل من اجل زيادة اعتدال المؤسسة الدينية ويتبع سياسة عدائية واكثر تصميما تجاه ايران. نجاح خطواته الاجتماعية والاقتصادية لابن سلمان ونقل وراثة السلطة اليه من أيدي الملك سلمان بدون اضطرابات، يمكنها أن تضعه مثل اتاتورك السعودي، ووضع مثال “الربيع العربي” غير العنيف، المفروض من أعلى الى اسفل. ولكن ازاء التحديات الكثيرة التي تقف امامه في نفس الوقت فان سيناريو تجد فيه السعودية نفسها تعيش في فترة صعبة من عدم الاستقرار الداخلي هو امر له احتمالية غير منخفضة، وذات اهمية كبيرة بالنسبة لميزان القوى والاستقرار في الشرق الاوسط.
الساحة الفلسطينية – جمود، مصالحة وتوقع خطة “الصفقة النهائية” للرئيس ترامب
السنة الماضية تميزت باستمرار الجمود السياسي في الساحة الاسرائيلية الفلسطينية. على الصعيد الامني نجحت اسرائيل في مواصلة الحفاظ على واقع مريح، ردع وهدوء مقابل قطاع غزة، وكذلك عدد عمليات ومصابين منخفض نسبيا في يهودا والسامرة وفي داخل الدولة، وكذلك الحفاظ على ردع ناجع. الهدوء تم الحفاظ عليه ايضا ازاء حادثة فيها اصابات كثيرة في صفوف الجهاد الاسلامي، في اثناء تدمير نفق للمنظمة من قبل الجيش الاسرائيلي. ورغم ذلك، يجب مواصلة الاخذ في الحسبان احتمال التصعيد غير المسيطر عليه نتيجة احداث في الميدان، حتى في حالة أن الطرفين لا يريدان المواجهة. معنى هذه الاقوال هو أن جبهة المقاومة العسكرية لاسرائيل غير ناجعة. ايضا الاستراتيجية التي قادها أبو مازن “لتدويل النزاع” تم صدها هذا العام، حول تبدل الادارة في الولايات المتحدة وموقفه العدائي تجاه كل محاولة للمس باسرائيل في الساحة الدولية وفي مجلس الامن. فشل البديلان المركزيان للفلسطينيين في العقدين الاخيرين – استراتيجية الارهاب من جهة وتدويل النزاع من الجهة الاخرى – من شأنه أن يقودهم الى “استراتيجية الدولة الواحدة”. في نفس الوقت في الساحة الفلسطينية الداخلية حدثت تطورات يوجد لها امكانية كامنة في أن تؤدي الى خطوات لها مغزى – سواء باتجاه مواصلة الانفصال بين الطرفين والتصعيد، أو باتجاه تحريك مجدد للعملية السياسية. التطور الاول هو رغبة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي يدرك، كما يبدو، نهاية دوره واستبدال القيادات القريب في م.ت.ف والسلطة، وليترك بصماته التاريخية والتأثير على مستقبل الفلسطينيين قبل مغادرته. بناء على ذلك، فانه يكشف على غير عادته عن تصميم اكبر واستعداد للمخاطرة. التطور الثاني هو تغيير القيادات في حماس وصعود قيادة محلية ادركت الثمن الذي تدفعه المنظمة في الرأي العام الفلسطيني بسبب عزلتها السياسية، وعدم النجاح في انقاذها من الازمة الاقتصادية – الاجتماعية في القطاع. على هذه الخلفية فان حماس تحاول التقرب من مصر مع الحفاظ على العلاقة مع ايران، وهي العلاقة الضرورية للذراع العسكري لحماس. التعبيرات عن هذه التطورات هي الحفاظ على وقف اطلاق نار من قبل حماس في القطاع وكذلك اتفاق المصالحة بين فتح وحماس الذي تم التوصل اليه في القاهرة في تشرين الاول 2017. يصعب الافتراض أن الطرفين سينجحان في التوصل الى مصالحة كاملة تتضمن الموافقة على مصير الذراع العسكري لحماس. إن انضمام حماس لـ م.ت.ف واجراء انتخابات، واكثر من ذلك، ليس من الواضح اذا كان الطرفان مستعدان للحفاظ على مكونات قابلة للتطبيق في الاتفاق الذي توصلا اليه، مع ذلك، فان احتمال مبادرة سياسية من ادارة ترامب ومحاولة تحقيق مصالحة بضغط من مصر والسعودية تشير الى احتمال افضل بأن يتم الحفاظ على الهدوء ازاء قطاع غزة، وأن المحادثات بين اسرائيل والحكومة في رام الله بوساطة ادارة ترامب وعدم قدرة حماس على التشويش عليها ستكون ناجعة. في مركز العمل السياسي تقف رغبة الرئيس ترامب في انجاز “الصفقة النهائية” بين اسرائيل والفلسطينيين. ولكن الطاقم برئاسة صهر الرئيس، جارد كوشنر، والوسيط الاول جيسون غرينبلاط، لم يتوصل الى انجازات مهما كانت حتى نهاية العام 2017، ويبدو أن مرحلة دراسة الواقع لهذا الطاقم انتهت. على هذه الخلفية تبدو دلائل للشك لدى الطاقم بخصوص امكانية اجراء مفاوضات على الحل الدائم، تؤدي الى تحقق “الصفقة”. وسيفضل تبني اهداف متواضعة اكثر ومقاربة تدريجية للتقدم. اضافة الى ذلك، الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل أدى الى تصريحات فلسطينية حول وقف العملية السياسية وعدم قبول الولايات المتحدة كوسيط نزيه. ما زال السؤال مفتوحا هل سيقرر الرئيس التمسك بالهدف الاكثر طموحا، في هذا الاطار سينشر طاقمه في بداية 2018 ورقة مباديء لاتفاق من جانبه. في هذه الحالة فان اسرائيل والفلسطينيين الذين يخافون من أن خطوات الرئيس غير المتوقعة ستتركز كما يبدو في ردود هدفها سيكون القاء التهمة على فشل مبادرة الرئيس على الطرف الآخر.
المجتمع الاسرائيلي: تطرف، تصدعات، افساد وضعضعة المؤسسات
في الساحة السياسية الاسرائيلية يبرز اختلاف على خلفية التوازن المناسب بين القيم الوطنية – اليهودية وبين قيم الديمقراطية – الليبرالية. هذا الاختلاف يضع امام اسرائيل تحد الحفاظ عليها كدولة يهودية وديمقراطية وآمنة وعادلة. تشريع يضر بالخصائص الديمقراطية للدولة يضر بالتوازن التقليدي والهش بين السلطات. الصراع من اجل اضعاف الاعلام وحراس العتبة – كل ذلك يشدد من الاستقطاب. الاصوات المتطرفة في المجتمع الاسرائيلي تولد انطباع بوجود شرخ داخلي. قيادة الدولة من جانبها لا تعمل على تهدئة النفوس، بل تؤجج النار. هجمات جهات متطرفة وحملات منفلتة العقال في الشبكات الاجتماعية ضد رئيس الدولة والجيش الاسرائيلي والاجهزة الامنية الاخرى والاحتجاج على قرارات المحاكم، مثلا فيما يتعلق بقضية اطلاق النار على المخرب المحيد في الخليل، لا تتوقف. ايضا التوتر المتزايد بين اليهود والاقلية العربية في الدولة لم يكبح. تورط مواطنين عرب في العمليات ضد الاسرائيليين رغم حجمها المحدود، عززت صورة الاقلية العربية كعدو في اوساط شرائح واسعة من الجمهور اليهودي. في سنة 2018 هناك تقديرات بأن ازمات سياسية شديدة وتوتر اساسي ستستمر في تحدي منعة وقوة المجتمع الاسرائيلي – بالتحديد في الوقت الذي فيه مكانة الدولة بالنسبة للتهديدات الخارجية اقوى من أي وقت مضى.
تحديات، معضلات وتوصيات
لقد نجحت اسرائيل في العقد الاخير في التكيف بشكل جيد مع واقع الشرق الاوسط المتغير، وأن تتعزز عسكريا وسياسيا وناورت بصورة منعت مواجهات شديدة وحروب. ولكن مع حلول سنة 2018 يبدو أنه في بداية فصل جديد من الاضطراب الاقليمي تتقلص نافذة الفرص السياسية والعسكرية التي فتحت امام اسرائيل بسبب الازمات في الساحة الاقليمية والاتفاق النووي مع ايران، واسرائيل بحاجة الى عدد من الوسائل الاساسية التي تتطرق، سواء للتهديدات في المدى المتوسط والبعيد أو استغلال هذه الفرص: تحدي الحرب بين الحربين ضد محور ايران وفي الساحة الشمالية – مع خفوت الحرب الاهلية في سوريا وعلى ابواب مرحلة جديدة من التواجد الايراني في الفضاء القريب من اسرائيل، فان التهديد الرئيسي والصحيح لاسرائيل في السنوات القريبة هو المواجهة مع بناء القوة التنفيذية والعملياتية والتكنولوجيا لايران وحلفائها في سوريا ولبنان، مع التأكيد على مركباتها النوعية. نموذج عمل اسرائيل في العقد الاخير ضد تقوي حزب الله مر دون رد اساسي من قبل اعدائها في الشمال. مواجهة اسرائيل من الآن يجب أن تظهر في معركة متحدية وأوسع بكثير امام العناصر الثلاثة للقوة الرئيسية في الشمال وهي ايران وحزب الله وسوريا. اسرائيل ستضطر الى الاجابة سواء على هيكل نظام بنية القوة المتشكلة من طهران وحتى الجبهة، وعلى التغييرات المحتملة في سياسة تفعيل القوة من قبل نظام الاسد وايران وحزب الله. هكذا، تحتاج اسرائيل الى أن تزن بصورة مستمرة خصائص عملها وتحديات السيطرة على التصعيد وعلى الظروف الجديدة: هل وكيف ومتى وأين تهاجم عناصر ايرانية، ووكلاء ايران الشيعة في ارجاء الشرق الاوسط، ومنشآت عسكرية ومصانع انتاج وسائل قتالية واملاك استراتيجية. المعضلة الاساسية هي كيفية تهدئة التوتر بين ضرب قوة العدو المتزايدة من اجل تقليص التهديد على اسرائيل مستقبلا وبين المخاطرة بالتصعيد القريب بسبب هذا النشاط. هكذا، سيكون على اسرائيل مواجهة أعداءها لفترة طويلة بواسطة رسم خطوط الحدود وقواعد اللعب في المحيط الجديد، اساسا بواسطة دمج نشاطات عسكرية واعلام استراتيجي (صواريخ وكلمات)، وامام عناصر معادية وامام روسيا ايضا كلاعبة هامة في ساحة لا تعتبر عدو. توجد لاسرائيل رافعة هامة امام ايران وروسيا وهي القدرة على المس بنجاحهما في الحفاظ على نظام الاسد والاستقرار في سوريا. بقاء النظام واعادة تأهيل سوريا اقتصاديا هي مصالح روسية وايرانية تستطيع اسرائيل استخدامها لصالحها.
تهديد “حرب الشمال الاولى” حرب لبنان الثالثة: لا اسرائيل ولا حزب الله يعنيان بحرب اخرى بينهما، ومع ذلك فان نشاط اسرائيلي يهدف الى المس بتعزيز قوة وتمركز ايران في سوريا الى جانب تفرغ حزب الله من هذه المهمة لانقاذ الاسد في سوريا، يمكنها دحرجة الطرفين وتصعيد الوضع الى درجة “حرب الشمال الاولى” والتي لن تكون مقتصرة بالضرورة على حرب لبنان “الثالثة”. من الصحيح الافتراض أن هذه الحرب ستتوسع الى مواجهة مع القوات الايرانية ووكلائها في سوريا ومع قوات الجيش السوري، ويمكن أن تدار بموازاة معركة مع حماس في الجنوب. كل ذلك ستحول مواجهة في الشمال الى حرب بمستوى اوسع من المستويات التي جربتها اسرائيل منذ العام 1973. لذلك، فان اسرائيل يجب عليها العمل بالافضليات والاولويات الاستراتيجية والعملية المتعلقة بادارة معركة امام ثلاثة عناصر معادية في الشمال – سوريا وحزب الله وايران، وبوجود روسي. اسرائيل يجب عليها الاستعداد لثلاثة سيناريوهات للحرب في الشمال: من حرب في لبنان فقط، حرب مندمجة، سوريا ولبنان، بما في ذلك عناصر ايرانية وشيعية تعمل في لبنان، حتى الحرب الشاملة، تدخل ايران. اسرائيل اوضحت أن قواعد الحرب ستكون مختلفة عن التي كانت سائدة في 2006. حزب الله ولبنان هما الآن كيان سياسي وعسكري واحد، وقواعد ادارة المعركة، اختيار الاهداف وتفعيل اطلاق النار والتكتيك ستنسق وفقا للتشكيل السياسي الجديد في لبنان. الحديث يدور عن مواجهة علينا فحص خصائصها والاستعداد لها من مستوى حكومة اسرائيل وما دونها، من المستوى السياسي ومرورا بالمستوى العسكري – الاستراتيجي وحتى الرد العملي والتقني – التكتيكي، من خلال التكيف مع شروط الساحة وتسلح العدو الذي ازداد في السنوات الاخيرة – صواريخ بالستية، ودفاع جوي ووسائل طيران، وصواريخ شاطيء – بحر ووحدات تحاول احتلال بلدات في الجليل. بخصوص سوريا لن تكون متأخرة مساعدة الشعب السوري لادارة مستقبله بدون بشار الاسد.
تحدي تعديل الاتفاق النووي مع ايران، توجيه طموحات ايران للنفوذ في الشرق الاوسط
حكومة اسرائيل توجد في موقف نادر – من يجلس في البيت الابيض يرى معها بنفس القدر التهديد الايراني والاشكالية التي توجد في الاتفاق النووي. يجب تحويل هذه التوافقات الايديولوجية بين اسرائيل والولايات المتحدة الى اتفاق رسمي، “اتفاق موازي” فيما يتعلق بالتهديد الايراني بشكل عام وتعديل الاتفاق النووي في مركزه بشكل خاص. على اسرائيل أن تسعى الى بلورة تفاهمات رسمية مع الولايات المتحدة، تكون موجودة ضمن اتفاق ثنائي موازي فيما يتعلق باستراتيجية مشتركة ازاء كل التهديدات الايرانية في الشرق الاوسط. استراتيجية مشتركة كهذه يتوقع أن يكون لها ثلاثة اهداف: منع ايران من التوصل الى السلاح النووي أو التمركز على شفا الذرة، “بعد صفر” من القنبلة النووية، كبح نشاطات ايران السرية في المنطقة ودعمها للارهاب، ضرب الجهود لتعزيز القدرات التقليدية للجيش الايراني، الذي سيثبت النفوذ الايراني في المنطقة. اطار التفاهمات بين اسرائيل والولايات المتحدة يجب أن يتحرك في ثلاث مستويات. المستوى الاول، ترتيب الرد المشترك للدولتين على التهديدات المشمولة في الاتفاق النووي على المدى الزمني القصير والطويل. من المهم الاشارة الى أنه رغم التهديدات، في السنوات القريبة سيكون هناك واقع مع اتفاق افضل من واقع بدون اتفاق، وهذا سيمكن اسرائيل والولايات المتحدة من الاستعداد لمواجهة التهديدات الاكثر خطورة على المدى البعيد. في هذه المرحلة، واذا لم تضبط ايران متلبسة بخرق الاتفاق، فسيكون من الصحيح أن لا تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاق. واذا تم الغاء الاتفاق فمن المهم أن يكون ذلك نتيجة قرار ايراني وليس امريكي. على الاتفاق الموازي أن يعرف ما الذي يعتبر خرق ايراني وما هي الردود على سيناريوهات مختلفة من الخرق، بما في ذلك الاندفاع الايراني نحو القنبلة النووية. من المهم أن يضمن الاتفاق قدرة مستقلة لاسرائيل على صد ايران اذا قررت الاخيرة الاندفاع نحو القنبلة في زمن قصير، وأن لا تكون اسرائيل متعلقة بالرد الدولي، الذي يحتاج لبلورته الى وقت طويل من اجل التنسيق والتنفيذ. على الاتفاق أن ينسق الجهود الاستخبارية التي ستكمل الاشراف الدولي، وأن يحل محله بعد انتهاء الاتفاق. في هذا الاطار يجب ايضا اعطاء رد على تهديد انتشار السلاح النووي في دول اخرى في الشرق الاوسط.
المستوى الثاني يجب أن يشمل الاتفاق على معايير لتعديل الاتفاق النووي، بحيث يتم اعطاء رد لاحتياجات اسرائيل والولايات المتحدة: تنفيذ بنود “الغروب” (انتهاء سريان القيود الاساسية للمشروع النووي) أو اشتراطها بتغيير سلوك ايران في مجالات غير نووية، تحسين الرقابة الدولية على المنشآت الايرانية المشتبه فيها بتسريع نشاطات نووية عسكرية، تبني قرار جديد من قبل مجلس الامن يحظر بوضوح أكثر من قرار 2231 اجراء تجارب صواريخ وصواريخ بحرية، المعدة لحمل رؤوس نووية، انتهاء الحظر العسكري على ايران فقط بعد تغيير سياسة ايران في مجالات غير نووية.
المستوى الثالث، من المهم أن يرتب النضال المشترك ضد التهديدات غير النووية من ايران. على الاستراتيجية الاسرائيلية – الامريكية أن تستند الى الادراك بأن ايران هي المسؤولة عن نشاطات وكلائها وحلفائها في المنطقة، لذلك يجب جباية ثمن باهظ منها بسبب نشاطاتها السرية. بناء على ذلك، يجب تشكيل استراتيجية العمل ضد الاملاك الايرانية في المنطقة كرد على خطواتها الاستراتيجية، وعلى اثارة الاضطرابات من جانبها ومن جانب وكلائها. يجب توسيع جهود احباط المساعدة الاقتصادية والعسكرية لايران لوكلائها في المنطقة، وفرض عقوبات على البنوك التي تعمل مع منظمات وكيانات تتعامل تجاريا مع حلفاء ايران (عقوبات ثانوية). أخيرا، على الاستراتيجية المشتركة السعي لدق اسفين بين روسيا وايران، مع التأكيد على المواضيع الخلافية بينها: مستقبل الاسد وحجم التواجد الايراني العسكري في سوريا، وتحسين التعاون في مجال الدفاع ضد تهديد الصواريخ الايرانية.
تحدي تجديد العملية السياسية و”الصفقة النهائية”
بعد سنة من الاعدادات، تنوي ادارة ترامب عرض برنامجها للتوصل الى سلام بين اسرائيل والفلسطينيين. المعايير والعملية لبلورة الاتفاق ما زالت غامضة، واعلان الرئيس حول القدس يعمل على تعقيد الامر. ربما ايضا الرغبة الامريكية في تعويض الفلسطينيين والعرب عن “اعلان القدس”. يمكن التقدير أن الحكومة الاسرائيلية التي لديها علاقات عمل ممتازة مع ادارة ترامب ستحاول التأثير على البرنامج بحيث لا تكون المعايير التي ستطرح فيه مقبولة على الفلسطينيين، والفوز في “لعبة الاتهام”. لا يوجد خلاف على أنه اذا فشلت العملية فمن المهم عدم اتهام اسرائيل بذلك، لكن الاهم من ذلك هو استغلال الظروف الاستراتيجية التي لم تكن في أي يوم افضل مما هي الآن، لصالح اسرائيل. قوة اسرائيل الاستراتيجية، استعداد العالم العربي للاسهام في العملية السياسية ومستوى التأييد من رئيس الولايات المتحدة، كل ذلك لم يكن في أي يوم ايجابي الى هذه الدرجة بالنسبة لاسرائيل، وهو يشكل فرصة تاريخية يجب على اسرائيل عدم تفويتها. صحيح أن احتمال التوصل الى اتفاق نهائي، ضعيف وحتى غير ممكن، لكن خطوات متفق عليها مع الولايات المتحدة والدول العظمى يمكنها أن تؤدي الى انجازات حيوية في تثبيت معايير مستقبلية لاتفاق (تحسين، مقارنة مع المعايير التي طرحها الرئيس كلينتون) وتحسين الشروط لبلورة اتفاق في المستقبل وتنفيذه بنجاح، وفي الاساس، في وقت الانزلاق الحالي نحو حل الدولة الواحدة، التي ستكون بالضرورة غير يهودية و/ أو غير ديمقراطية. من المهم أن تتبنى حكومة اسرائيل برنامج ناجع يضمن القدرة على التوصل في المستقبل الى اتفاق في اطاره، وأن يتم الحفاظ على الاعمدة الاربعة الاساسية في انبعاث شعب اسرائيل في وطنه القومي في بلاده: دولة يهودية وديمقراطية وآمنة وعادلة. خطة سياسية تقود الى هذا الهدف سيتم نشرها من قبل المعهد خلال العام 2018.
في موازاة الانشغال الهام في التوصل الى اتفاق شامل، الواقع الحالي في الساحة الفلسطينية يشكل تحد أمام جوانب المصالحة الفلسطينية الداخلية واعادة اعمار قطاع غزة – في اتفاق المصالحة الذي من شأنه أن يعيد السلطة الفلسطينية الى قطاع غزة لم يتم علاج المشكلات الاساسية حسب وجهة نظر اسرائيل – عدم الموافقة على شروط الرباعية من قبل حماس واستمرار وجود الذراع العسكري لهذه المنظمة. هناك تقدير بأن الاتفاق لن يقلع في اعقاب الاختلافات في المواقف الفلسطينية الداخلية، وبذلك، من الصحيح السماح له بالسير في نفس طريق الاتفاقات السابقة بين السلطة وحماس، دون اتهام اسرائيل بافشاله. مع ذلك، موضوع اعادة اعمار قطاع غزة يقف على باب حكومة اسرائيل. سببان هامان موجودان في اساس السياسة الداعمة لاعادة الاعمار: سبب انساني اخلاقي – معظم سكان قطاع غزة غير مذنبين في أن المنظمة سيطرت على القطاع ودحرجته نحو كارثة انسانية. سبب منفعي – من نواحي كثيرة (غياب المجاري وصحة الجمهور والتشغيل والشعور بعدم وجود افق)، اسرائيل غير مقطوعة عن قطاع غزة، وستتأثر بشكل مباشر من الوضع البائس فيها. الطريق لتشجيع اعمار القطاع وتسهيل الازمة يجب اختباره من خلال وسيلتين: القدرة على منع زيادة القوة العسكرية لحماس بفضل قدرتها على وضع يدها على مواد الاعمار، ومنع تعزز القوة السياسية لهذه المنظمة الارهابية. وبحذر نقول إن عملية اعمار صحيحة مندمجة مع دعم سياسي قوي من الدول العربية من شأنها ايضا أن تشكل منبرا لتغيير تدريجي في مبنى الحكم في القطاع.
تحدي تعزيز التحالف مع العالم العربي السني
اسرائيل لديها تعاون غير مسبوق مع الدول العربية المجاورة من المعسكر السني البراغماتي. تطابق المصالح والتهديدات المشتركة التي تواجهها من ايران ومن الاسلام المتطرف أدت الى تعميق التعاون ايضا مع دول يوجد لاسرائيل اتفاقات سلام معها، ومع دول الخليج، والتي لا يوجد لها علاقات دبلوماسية مكشوفة معها. محاربة العدو المشترك، ارهاب داعش في سيناء، الدعم احادي الجانب لنظام السيسي في مصر وكذلك اربعين سنة من السلام الذي تم الحفاظ عليه بحرص من قبل الطرفين، هي قاعدة لمواصلة التعاون مع الدولة العربية الكبرى. في اساس التعاون مع دول الخليج والسعودية على رأسها يقف التهديد الايراني والقدرة الاستخبارية والتكنولوجية والاقتصادية لاسرائيل. تعزز مكانة محمد بن سلمان، الرجل القوي في السعودية والذي يقود سياسة فعالة من خلال استعداده لتحمل الاخطار، يفتح امام اسرائيل فضاء آخر مثير للاهتمام لخطوات استراتيجية، تحالفات وتحسين آخر في وضعها الجيواستراتيجي. المفتاح للانتقال من تعاون محدود مغطى بتعاون مكشوف، في هذا الاطار استعداد مشترك أمام اعداء مشتركين، هو بالطبع تقدم (وليس حل بالتحديد) للمسألة الفلسطينية. صحيح أنه مطلوب العمل بسرعة لاصلاح الازمة التي نشأت مع الاردن في اعقاب الحادثة التي تورط فيها حارس اسرائيلي، وايجاد حل لقضايا مدار الخلاف بين الدولتين، والتعاون ازاء تهديدات مشتركة وتعزيز العلاقة السياسية، اضافة الى العلاقات الامنية. في هذا السياق يجب تشجيع مشاريع مشتركة لصالح الشعبين.
تحدي داعش – داعش ككيان جغرافي هزم في سوريا والعراق، وكذلك فقد سيطرته على الارض، لكن ليس في المشهد الاسلامي. لم تهزم البنى التحتية لداعش في ليبيا وشبه جزيرة سيناء وافغانستان وهضبة الجولان، هذه المواقع من شأنها أن تستخدم هدفا لمقاتلي داعش الذين سيصلون من المناطق التي تم تطهيرها. خلايا الارهاب لداعش في ارجاء العالم ما زالت نشطة ويتم تشكل بؤر جديدة، ولا سيما – فكرة داعش حية في الشبكات الاجتماعية وفي المساجد التي يعظ فيها أئمة متطرفين. هناك خطر يتمثل في أنه مع خسارة القاعدة الجغرافية للدولة الاسلامية سيحاول داعش تجسيد حيويته بواسطة اعمال تظاهرية في الشرق الاوسط، وضد اسرائيل وفي ارجاء العالم. سيكون من الصحيح العمل على انهاء وجود داعش في هضبة الجولان في اطار تسويات الاستقرار لسوريا، ومواصلة دعم مصر في حربها واجتثاث داعش من سيناء. اضافة الى ذلك، من المهم عدم الافتراض من ناحية استخبارية وعملياتية أن التنظيم لم يعد يشكل أي خطر.
ميزانية الامن وعقيدة الامن – احتمال تطور مواجهة في المنطقة الشمالية في 2018 اكبر من أي وقت سابق في العقد الاخير. الدمج بين انتهاء الحرب في سوريا وبين التواجد الايراني المتزايد في سوريا، والاستعداد الاسرائيلي للعمل امام زيادة القوة النوعية والكمية لايران وحزب الله في سوريا ولبنان من شأنها أن تدحرج اسرائيل الى مواجهة واسعة مع حزب الله ومع قوات ايرانية في سوريا. هذا الاحتمال يلزم بتسريع الاستعداد لمواجهة محتملة قريبة، فحص وتطوير مشاريع اساسية ستكون مطلوبة في مواجهة مستقبلية مع حزب الله وايران – مع كل المعاني المالية المرتبطة بزيادة الاستعداد لازدياد التوتر الامني، وربما التدحرج نحو الحرب. في المقابل وعلى ضوء تغير وجه الساحة مقارنة بالمواجهات السابقة، فانه من الصحيح المبادرة الى بلورة العقيدة الاستراتيجية والعملياتية للمعركة، من المستوى السياسي وحتى المستوى التنفيذي. في هذا الاطار مطلوب من المستوى السياسي والعسكري الاعلى المبادرة الى مناقشة اهداف ومضمون معركة محتملة، مركبات البدء بها، ادارتها ونهايتها، في حدودها وجهودها. من المهم أن يبادر الكابنت الى البحث والاستعداد قبل وقت كبير من المواجهة، وأن لا يواجه للمرة الاولى المسائل المعقدة والمصيرية تلك اثناء المعركة نفسها.
الحفاظ على وتحسين شرعية اسرائيل في العالم – رغم المكانة القوية نسبيا في اوساط الحكومات، فان اسرائيل تقف امام تحدي شرعنة هام في اوساط جاليات واسعة في الشرق الاوسط، في اوروبا وحتى في امريكا، تحدي يندمج مع توجه مقلق من اللاسامية المتزايدة ضد اليهود لكونهم يهودا. في مركز مشعلي الحرب ضد اسرائيل يقف الاندماج الخاص لثلاث قوى مختلفة: الاسلام المتطرف واليسار فوق الليبرالي واليمين الوطني، التي تتشارك في هدف استراتيجي مشترك – الاعتراض على حق اسرائيل في الوجود في حالات مختلفة – ويديرون ضدها حرب “ناعمة” لكنها فعالة. الموضوع الذي يعتبر منبرا مركزيا مشتركا لهذه المعركة ضد اسرائيل واليهود هو استمرار النزاع الاسرائيلي الفلسطيني والذي ينبع حسب مقاربتهم من رفض اسرائيل فقط، ومنه تنبع الاتهامات الاخرى ضدها باستمرار الاحتلال والعنصرية وسياسة الابرتهايد ضد الفلسطينيين والكولونيالية والقمع ومصادرة حقوق الانسان والمواطن، وجرائم حرب وقتل شعب. الادعاءات المختلفة تمكن مشعلي الحرب ضد اسرائيل من التوجه الى عدد من الجاليات المختلفة وتجنيدها ضد اسرائيل باسم ترويج اجندات مختلفة، وهكذا توسيع قاعدة المقاومة لاسرائيل. الدعم القوي نسبيا لاسرائيل في اوساط المؤسسات السياسية تعكس افضلية مؤقتة في اوساط شريحة عمرية بالغة وثابتة نسبيا، في حين أن الاستراتيجية السياسية لمشعلي الحرب ضد اسرائيل تمثل تحد صعب لمكانة وأمن اليهود في اوساط جماعات شابة، الذين هم الجيل القادم للمؤسسة. الرد من جانب اسرائيل ومؤيديها، الذي تحسن بدرجة ملحوظة في السنوات الاخيرة، ما زال يعاني من سلوك تكتيكي مبعثر وانعدام مهمات قتالية مركزية، لذلك هذا لا يربط وتيرة المعركة الدائرة بواسطة الشبكة المعادية. سياسة الحكومة في المجال الفلسطيني وفي الساحة السياسية في اسرائيل تشكل هي ايضا تحد هام يقف امام مؤيدي اسرائيل وتخدم اعداءها. الرد على هذا التحدي يحتاج الى انتظام مندمج، حكومي ومدني، في اسرائيل وفي الخارج، لليهود وغير اليهود، من خلال تحسين مركبات الاستخبارات، استراتيجية العمل، التنسيق والتعاون بين الجهات المؤيدة لاسرائيل.
تحدي التفاهمات المحدثة مع يهود الولايات المتحدة – تغير ميزان القوى بين الجاليات اليهودية في اسرائيل وفي الولايات المتحدة، وتبدل الاجيال ومعه اضعاف مكانة المؤسسات اليهودية، الاستقطاب السياسي في الدولتين في الوقت الذي فيه اغلبية يهود الولايات المتحدة يميلون الى اجندة ليبرالية، في حين أن سياسة حكومة اسرائيل تظهر كوطنية متطرفة – كل ذلك يرسم خطوط الصدع المتزايد والمتسع بين دولة اسرائيل وبين الجالية اليهودية الاكبر في الخارج. القرب الكبير بين حكومة اسرائيل برئاسة نتنياهو وبين الرئيس ترامب الذي هو نفسه يوجد في مركز معارضة جماهيرية واسعة في الولايات المتحدة، والى جانب قرارات وتصريحات قاسية في حكومة اسرائيل في شؤون الدين والدولة، وفي المقابل صمت مطبق ازاء مظاهر لاسامية متزايدة في الولايات المتحدة – فقط تزيد من حدة وتفاقم شبكة العلاقات الصعبة. في اوساط الجيل الشاب فان العلاقة مع اسرائيل كجزء من مركبات هوية اليهود الشباب، تضعف رويدا رويدا. على هذه الخلفية يتطور واقع مقلق، يشعر فيه اليهود بصعوبة متزايدة في الدفاع عن اسرائيل امام من ينتقدونها. وعندما لا ينجحون في تهدئة التوتر بين رؤية هويتهم القيمية كيهود وبين سياسة اسرائيل بطرق اخرى، فان عدد منهم ينضمون الى حركات سلب الشرعية عنها. طالما أن اسرائيل مخلصة لاهدافها كوطن قومي للشعب اليهودي وتلتزم بمستقبله وأمنه سواء في حدودها أو في الشتات فانه يتوجب عليها العمل بنشاط لرأب الصدع، وتقريب الجاليتين اليهوديتين الكبيرتين في العالم من بعضهما، وسكب مضمون جديد على نظام العلاقات الحيوي لهما. حوار مفتوح ومتعاطف من جانب، وقرارات قيادية من جانب آخر، يجدر أن تقود ايضا الى تحديث الاتفاق من العام 1950 بين بن غوريون ويعقوب بلافشتاين، الذي كان في حينه رئيس المؤتمر اليهودي الامريكي الذي نظم العلاقات القريبة بين اسرائيل ويهود الولايات المتحدة، ويؤسس العلاقات على قاعدة شراكة قوية واشفاء العلاقة الحيوية بينهم.
تحدي تجديد التضامن والمصالحة الداخلية، وخطوات لتهدئة التوترات الداخلية في اسرائيل – على القيادة السياسية في اسرائيل التصرف بصورة دولاتية، والتي تعني الدفاع العلني الدائم عن جهاز القضاء وتطبيق القانون، وكذلك عن الجيش الاسرائيلي والجهات الامنية. إن الصمت على هجمات على هذه المؤسسات، ولا سيما دعم من يمسها، تقود اسرائيل نحو مستقبل غير ديمقراطي. لهذا، يجب تعزيز مكانة حراس العتبة – المستشارون القانونيون والمحاكم ومراقب الدولة والمعارضة ووسائل الاعلام، من خلال نقاش موضوعي حول حجم ومضمون انتقاد الحكومة، وليس عن مجرد اسماع الانتقاد الذاتي. في نفس الوقت يجب اجراء نقاش قيمي، نوعي وعام بخصوص التوازن بين القيم اليهودية والقيم الديمقراطية من خلال الحفاظ على إبعاد النقاش عن الاطراف المتطرفة الجريئة والصاخبة.
لهذا من المهم مواصلة تنفيذ خطة تشجيع الاقلية العربية ودمجها، والامتناع عن تشريع جاء للمس بمكانة هذا الجمهور، ودعم حوار اوسع بين التيارات في المجتمع اليهودي والوسط العربي من اجل وضع قواعد للعب في الساحة السياسية – الاجتماعية، بهدف تقليص الاستقطاب وبلورة قاعدة مشتركة لمواصلة العيش معا في دولة اسرائيل.
الخلاصة وتحديد الاستراتيجية العليا
في الوقت الذي تتقدم فيه اسرائيل لمعالجة هذه المسائل، يوجد في متناول يدها عدد من الذخائر الهامة:
1- قوة عسكرية، استقرار امني، اداء سياسي وحصانة اقتصادية بارزة، على خلفية الازمة في معظم دول الشرق الاوسط وفي اغلبية دول العالم.
2- شبكة علاقات متطورة مع الادارة الامريكية ورئيس متعاطف يرى بنفس منظورها معظم المسائل الاستراتيجية في الشرق الاوسط.
3- علاقات جيدة مع روسيا وحوار فعال مع قيادتها.
4- علاقات اقتصادية مزدهرة تنمو بسرعة مع الدول العظمى في آسيا – الصين والهند.
5- شرق اوسط عربي يدرك اتساع المصالح المشتركة بين دول المنطقة وبين اسرائيل والافضليات الكامنة في التعاون معها. من هنا، انفتاح متزايد لاحتمالية حوار، تحسين العلاقات والتعاون حتى لو كان ذلك بصورة متدنية.
التوصل الى اتفاق موازي بين اسرائيل والولايات المتحدة بخصوص مسائل الذرة الايرانية والحرب ضد التآمر وزيادة قوة ايران ووكلائها في الشرق الاوسط ولا سيما في سوريا، هي جزء من استراتيجية عليا مطلوبة للعام 2018. ايضا الولايات المتحدة والعالم العربي السني البراغماتي يتوقعون مرونة اسرائيلية وتقدم في العملية السياسية امام الفلسطينيين، لكن ما بعد هذه التوقعات لحلفاء اسرائيل فان هذا يمثل مصلحة اسرائيلية اولى، ستمكنها من تشكيل حدودها وطابعها. وستبكي لاجيال اذا اكتفت اسرائيل بالوضع الراهن الذي هو فعليا تدحرج خطير نحو واقع دولة واحدة، وتستريح لدفع التهمة بالتجميد السياسي نحو الملعب الفلسطيني. امام دولة اسرائيل فتحت نافذة فرص استراتيجية نادرة يجب استغلالها.
هذه الظروف الاستراتيجية الجيدة تقف الى جانب اسرائيل وتمكنها من استغلالها لتحقيق مصالحها وتحسين أمنها الوطني واستقرارها الاستراتيجي. شرط ضروري لتحقيق الظروف الخارجية هو عدم نضج الحصانة الداخلية وفي مركزها نظام سليم، ثقة الجمهور بالنظام، وتكتل المجتمع، وتضامن ووحدة حول حلم مشترك للمستقبل يضم ليس فقط الجالسين في صهيون، اليهود وغير اليهود، بل ايضا يهود العالم. جوهر سياسة زعماء الصهيونية وزعماء اسرائيل كان القدرة على تشخيص الوضع الاستراتيجي – السياسي أو العسكري وتحقيق الهدف المتمثل في ترسيخ دولة يهودية، ديمقراطية، آمنة وعادولة وشرعية.