تقرير مترجم عن نيويورك تايمز – فلسطينيو لبنان يقاومون من الهوامش
نيويورك تايمز – ندى حمصي – 17/12/2017
بيروت، لبنان – تردد صوت قرع الطبول، وأبواق السيارات والموسيقى في أنحاء صبرا، حي الطبقة العاملة الفلسطينية في بيروت، والذي يغذي مخيم شاتيلا المجاور للاجئين. وفي أي يوم آخر، يمكن أن يصدر هذا الضجيج عن حفلة زواج أو تخرج.
لكنه مساء إعلان الرئيس دونالد ترامب عن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقد أحدثت هذه الخطوة، التي وصفها ترامب بأنها “خطوة طال انتظارها لتعزيز عملية السلام”، موجة من الغضب في كل أنحاء المجتمع الفلسطيني والعالمين العربي والإسلامي الأوسع.
هنا في بيروت، كان رد الفعل في الأيام الأولى التي أعقبت الإعلان متركزا في جيوب الفقر الفلسطينية مثل صبرا. وقد سار الشباب في الشوارع، على الدراجات أو خارجين من نوافد السيارات، وهم يلوحون بالأعلام الفلسطينية ويطلقون الهتافات: “القدس عربية! القدس عربية!، ويرددون الأغنية الوطنية التي أصبحت الآن أسطورية للمغني الفلسطيني محمد عساف: “علِّي الكوفية علِّي ولولِح فيها”، والتي اندفعت من مكبرات الصوت، مختلطة بالهتافات التي يتردد صداها في أزقة الحواري الضيقة.
انتقل المحتجون إلى شاتيلا، مارين بمياه المجاري الآسنة، وأسلاك الكهرباء العارية. وفي شارع ضيق، بينما ينحسر الصخب، عاتب شابان بمرح رجلاً عجوزاً على مواصلته العمل في مقهاه الصغير على جانب الطريق.
وكان صاحب المقهى، عبد الحسين، الملقب بالسيد عيد، يقدم فنجان القهوة بعد الآخر لمجموعة من الرجال المسنين الذين جلسوا أمام شاشة تلفاز، مستائين من أخبار اليوم.
“أتمنى لو أننا لم نسمع أبداً بأميركا”، قال السيد عيد بينما يصنع فنجان إكسبرسو. “لا أفهم لماذا للولايات المتحدة كل هذا النفوذ على شؤوننا”.
إذا كان هناك أي وقت مناسب لانتفاضة أخرى، فإنه سيكون الآن، كما قال. وأضاف: “لقد دأب الإسرائيليون على قمعنا دائماً، لكنهم كانوا يعرفون دائماً أنهم إذا أفرطوا في ذلك، فستكون لأعمالهم تداعيات دولية. والآن، مع هذا القرار، تعرف إسرائيل والصهاينة أنهم يستطيعون أن يفعلوا كل ما يحلو لهم وأن يفلتوا به بلا عقاب”.
يعيش أكثر من 450.000 من الخمسة ملايين لاجئ فلسطيني المسجلين في أنحاء العالم في المنفى في لبنان، بعد نحو 69 عاماً من طردهم مما أصبح الآن إسرائيل خلال حرب إنشائها.
ويرى الفلسطينيون بشكل عام أن إعلان ترامب كان بمثابة خروج النَفس الأخير من صدر عملية السلام الراكدة منذ فترة طويلة –وأنه شكل نهاية لأي دولة فلسطينية مستقبلية تكون القدس الشرقية عاصمتها. لكنه بالنسبة للاجئين يعني أيضاً المساس بحقهم في العودة إلى ديار علائلاتهم الأصلية في الضفة الغربية، وغزة، وما أصبح إسرائيل.
وهذا الحق في العودة مهم بشكل خاص للفلسطينيين هنا في لبنان. فعلى الرغم من 70 عاماً من الوجود في لبنان، ما يزال هؤلاء اللاجئون يعيشون بلا جنسية وي ظروف بالغة القسوة.
إنهم لا يمتلكون الحقوق المتاحة للمواطنين اللبنانيين. وهم ممنوعون من ممارسة أكثر من 30 مهنة، بما فيها الوظائف في مجالات مثل الطب، والقانون، والهندسة والتعليم. وهم لا يستطيعون الاحتفاظ بممتلكات أو الدراسة في المدارس الحكومية، ولا يتمتعون بحماية قوانين العمل.
ويقيم أولئك الذين لا يستطيعون المغادرة من الفلسطينيين في مخيمات ضيقة مكتظة، والتي أصبحت بمرور العقود أحياء حضرية شديدة الاكتظاظ مبنية من الطوب. ويقوم السكان بتوسيع فضاءات عيشهم عمودياً، فيبنون فوق بعضهم بعضاً لأن المخيمات لا تستطيع أن تتوسع قانونياً خارج مساحاتها المخصصة.
تعتقد الحكومة اللبنانية أن تحسين ظروف عيش الفلسطينيين سوف يعرض للخطر حقهم في العودة إلى وطنهم لاحقاً، عن طريق تزويد إسرائيل ذريعة لتقول إنهم إنهم اندمجوا وذابوا في أوطان جديدة. لكن الواقع أكثر تعقيداً بكثير، وهو يتصل بتاريخ لبنان الإشكالي مع اللاجئين الفلسطينيين.
كجزء من معاناته الطويلة مع التوترات الطائفية، عاش لبنان 12 عاما من الحرب الطائفية التي يعتقد الكثيرون أنها تفاقمت بسبب وجود الفلسطينيين، الذين ينتمي معظمهم إلى الطائفة السُنية. وقد تسبب تحول الميزان الطائفي، بالإضافة إلى انتقال القيادة الفلسطينية إلى لبنان في أواخر العام 1970، في إثارة المخاوف القومية وزاد من حدة الحرب.
والآن، حتى السيد عيد -الذي نال هذا اللقب بسبب مرحه المستمر- أصبح متعباً من الحياة كفلسطيني في لبنان.
الحياة بائسة، كما يقول، حيث لا عمل ولا حماية. ويضيف: “إذا سأل أحد أي واحد منا: “هل تريد أن تعود إلى وطنك”؟ فسوف نقول نعم، والآن”. وعبر السيد عيد عن امتنانه للضيافة اللبنانية، لكنه أضاف: “لقد تم اختزال حقوقنا إلى لا شيء. نحن عند الصفر”.
في لبنان، لا يستطيع الفلسطينيون أن يقيموا احتجاجات خارج المخيمات من دون تصريح من الحكومة اللبنانية. أما داخل المخيمات، فقد تواصلت الاحتجاجات كل يوم في الأسبوع الذي أعقب إعلان ترامب. ويقول قادة الفصائل الفلسطينية السياسية المختلفة في المخيمات إنهم يأملون في كسب زخم من الغضب الشعبي.
يشارك وليام نصار، 55 عاما، من سكان في مخيم برج البراجنة للاجئين، في مسيرة احتجاجية هناك، ولليوم الثاني على التوالي.
ومثل معظم اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، لم يشاهدت نصار القدس أبدا. لكنها تبقى رمزا للأمل.
يقول السيد نصار الذي عاش حياته كلها في لبنان، وإنما الذي جاءت عائلته أصلا من عكا، فيما أصبح اليوم إسرائيل: “ليست هناك فلسطين من دون القدس”، قال السيد نصار.
وشاركت رنيم يوسف، الطالبة بعمر 22 عاما، في مسيرة مخيم برج البراجنة مع عائلتها. وتقول رنيم: “صحيح أننا لا نستطيع الخروج ولا نفعل شيئاً. لكننا شباب فلسطين وليست لدينا طريقة لإيصال أصواتنا سوى هذه”.
في وقت لاحق، قدم المواطنون اللبنانيون حصتهم من الاحتجاج، فنظمت الأحزاب اليسارية تظاهرة بالقرب من السفارة الأميركية، وأقام حزب الله تظاهرة أكبر في جنوب بيروت. ولكن، كانت هناك دائما أشياء في الخلفية تذكر بمكانة الفلسطينيين غير الآمنة في لبنان.
في 8 كانون الأول (ديسمبر)، وفي عرض للوحدة العربية، خرج آلاف الفلسطينيين من المخيمات وانضم إليهم مؤيدون لبنانيون في مسيرة عبر منطقة طارق الجديدة. وانتهت المسيرة في مقبرة الشهداء بالقرب من مخيم شاتيلا، التي تذكِّر بواحدة من أسوأ المذابح في الحرب الأهلية اللبنانية –عملية قتل جماعية ارتُكِبت في حق فلسطينيين ولبنانيين.
وقد دفن في هذه المقبرة بعض من أولئك الذين سقطوا في مجزرة صبرا وشاتيلا في العام 1982، عندما كانت إسرائيل تحتل الكثير من أنحاء بيروت. وقد قتلت الفصائل اللبنانية المتحالفة مع إسرائيل نحو 2.000 من المدنيين الفلسطينيين بينما تولت القوات الإسرائيلية حراسة المنطقة. وما يزال بعض من أولئك المتورطين في المذبحة في السلطة كسياسيين، وهم لا يخجلون من لف أنفسهم بالعلم الفلسطيني.
من بين الكثيرين من أعضاء البرلمان الذين نهضوا لشجب قرار ترامب كانت ستريدا جعجع، التي يُتهم زوجها، سمير، بالمشاركة في عمليات القتل في المخيمين. وقد اقتبست النائبة “زهرة المدائن”، الأغنية الفيروزية الشهيرة عن القدس، والتعايش الديني ومقاومة الاضطهاد: “البيتُ لنا/ والقدسُ لنا، وبأيدينا سنعيدُ بهاء القُدس”، كما تقول الأغنية.
في شاتيلا، بعد أسبوع من إعلان ترامب، كان السيد عيد ما يزال يصنع القهوة. وكان تلفاز مقهاه مداراً على الأخبار، حيث يُعاد بث خطاب الرئيس مرة بعد المرة.
ويرسم عيد خطاً بين الأمل والواقع. فبالنسبة له، تعني خسارة القدس الاستسلام لحياة كاملة في لبنان. ويقول: “إذا لم يأت شيء من المقاومة، وإذا لم يخرج الناس الطيبون ويطالبوا بحقوقهم، فإن شيئاً لن يحدث. ربما سأكون ما أزال على قيد الحياة، وربما سأكون قد مت. لكننا سنشهد ثورة”.
وعندئذٍ، قال رجل محدثاً فنجان قهوته، ساخراً: “سوف نرى حق العودة يتحقق في يوم القيامة”.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان :
Lebanon’s Palestinian Refugees Resist from the Sidelines
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 26/12/2017