ترجمات أجنبية

تقرير مترجم عن ميديوم – جَدُّ التنوير الأوروبي كان مسلما

ميديوم – كورت ديبيوف – 3/11/2017
ما الذي يفعله الفيلسوف المسلم ابن رشد في اللوحة الجدارية الشهيرة “مدرسة أثينا” لرسام النهضة الإيطالي رافاييل؟ في هذه اللوحة، جمع الرسام معاً كل المفكرين والعلماء الذين أثروا في الغرب. ولذلك، ليس من المستغرب أن يكون أفلاطون وأرسطو حاضرَين في وسط هذه اللوحة التي تعود إلى القرن السادس عشر. لكن الأكثر إثارة للدهشة هو أن اثنين من الأشخاص “الشرقيين” جُعِلا جزءاً من هذه المدرسة: زرادشت؛ وابن رشد. وربما تحدث مفاجأة مماثلة لقراء “الكوميديا الإلهية” لدانتي ألييري. وفي هذه التحفة من عصر النهضة في القرن الرابع عشر، قدم دانتي وصفاً للسماء، والعذاب والجحيم، مع تخصيص فصل خاص عن “الليمبو” حيث سُمح للأخيار من غير المسيحيين بمكانة لائقة في الآخرة. وفي الليمبو، لا نجد أناساً من الإغريق والرومان القدماء فحسب، وإنما نجد أيضاً ثلاثة مسلمين: ابن رشد، وابن سينا، وصلاح الدين.
أن تضم اثنتان من روائع عصر النهضة، واللتان تتعاملان مع أساسيات الحضارة الغربية، أشخاصاً مسلمين في وسطهما، هو شيء غريب على أقل تقدير. فنحن نتعلم أن عصر النهضة، والإنسانية والتنوير، كان كله إنجازاً أوروبياً خالصاً. وحسب هذا الرأي، فإن الإنسانيين، من أمثال بترارك، وجدوا المخطوطات اليونانية والرومانية المفقودة في مكتبات الأديرة القديمة. وكان هذا الاكتشاف هو الذي آذن بنهاية العصور الوسطى المظلمة، وإلى ثورة الناس على الكنيسة، وتغلب التفكير النقدي على العقائد المتزمتة.
لكن هذا السرد التاريخي خاطئ، ببساطة. فعلى الرغم من أنه تم اكتشاف الكتب الرومانية فعلاً، فإن هذا لا ينطبق على النصوص اليونانية. وقد وصل أهم الفلاسفة والعلماء اليونانيون إلى أوروبا لأنهم تُرجِموا من العربية، في حركة الترجمة التي بدأها الخلفاء في بغداد في القرن الثامن. وفي المركز منها، كان علم فلك بطليموس، وهندسة إقليدس، وطب جالينوس. وفي الوقت نفسه، تمت ترجمة النصوص العلمية الهندية والفارسية إلى العربية. وبدورهم، حاك العلماء المسلمون هذه الأفكار معاً، في حين ارتقوا بها في الوقت نفسه، وخلقوا مجالات جديدة للعلوم، مثل الكيمياء وعِلم الجبر. وكانت حساباتهم هي أساس الاكتشافات التي حققها كوبيرنيكوس ونيوتن.
ولم تقلّ الفلسفة أهمية عن ذلك في بلاط بغداد. كان أفلاطون وأرسطو يحظيان بشعبية كبيرة هناك، وكانا موضوعين للدراسة والمناقشة والجدل. ومع ذلك، واجه الفلاسفة الإسلاميون نفس المشكلة التي كان قد واجهها المسيحيون السابقون والذين جاؤوا في أعقابهم: كيفية التوفيق بين الفلسفة وبين اللاهوت والنصوص المقدسة. وفي أوروبا، حسم القديس أوغسطين (توفي في العام 430 ميلادي) هذه المناقشة لصالح اللاهوت، حيث تم حظر التفكير النقدي منذ ذلك الحين. وتم إسكات الذين حاولوا معاودة فتح هذه المناقشة بسرعة -أو حتى تعرضوا للحرمان والطرد من الكنيسة. لكن الأمر لم يكن كذلك في العالم العربي، على الأقل حتى نهاية القرن الثاني عشر.
كان آخر الفلاسفة الإسلاميين وأكثرهم شهرة هو ابن رشد، المعروف باسمه اللاتيني “أفيروس”. وقد ولد ابن رشد في العام 1126 في قرطبة، عاصمة الأندلس، التي أصبحت، إلى جانب القاهرة، المركز الفكري للعالم الإسلامي بعد تراجع بغداد. وفي أوروبا، كان يطلق على ابن رشد لقب “المعلِّق” لأنه كتب الكثير من التعليقات على أرسطو بطريقة أكثر كثافة من أي شخص آخر. وبالإضافة إلى ذلك، كان من خلال ترجمة تعليقات ابن رشد إلى اللاتينية أن تم تقديم أرسطو في أوروبا.
لم يتسبب ابن رشد بأقل من زلزال فكري في أوروبا. وكانت أطروحته أن هناك حقيقة واحدة فقط، والتي يمكن الوصول إليها بطريقتين مختلفتين: من خلال الإيمان، وإنما أيضاً من خلال الفلسفة. وعندما تتعارض كلتا الطريقتين، فإن ذلك يعني أن علينا أن نقرأ النصوص المقدسة بطريقة مجازية. وبعبارات أخرى، فإن البحث عن فلسفة الحقيقة (أو العلم) هو أكثر أهمية من الإيمان. وإلى جانب ذلك، جادل ابن رشد ضد خلود الروح وضد خلق الكون.
تمّ تبني أطروحات ابن رشد وتدريسها في الجامعات الأوروبية الأولى: باريس، وبولونيا، وبادوا وأكسفورد. وقد تسبب ذلك بإثارة الذعر داخل الكنيسة. وكانت قوة حججه والمفاهيم الفلسفية الأرسطية قوية جداً. وفي العام 1277، دان أسقف باريس وحظر أفكار ابن رشد، ولو أن ذلك لم يكن بكلماته الخاصة. كان عليه أن ينسخ حجج خصم إسلامي للفلسفة: الغزالي. ومع ذلك، كان توما الأكويني هو الذي هزم أطروحات ابن رشد في أعماله، “ضد ابن رشد” و”الخلاصة اللاهوتية”، وهو ما وضع اللاهوت مرة أخرى فوق الفلسفة.
ومع ذلك، لم يوقف ذلك أفكار ابن رشد وفكره الحرّ. وحتى وقت جيد من القرن السابع عشر، كتب المفكرون الكاثوليك بلا كلل دفاعاً عن خلود الروح -حتى أن ديكارت نفسه رأى أن من الضروري التنديد بابن رشد، وإن لم يكن ذلك بنجاح كبير. وعادت أفكار ابن رشد لتغوص في الفلسفة الأوروبية من خلال الباب الخلفي للفكر اليهودي. وحتى نفسر ذلك، فإننا يجب أن نعود وراءً في الزمن مرة أخرى، إلى ميمونيدِس (ابن ميمون). كان هذا المفكر اليهودي المهم (والطبيب الشخصي لصلاح الدين) معاصراً لابن رشد. وعندما قرأ كتب الأخير، تبنى فلسفته تماماً تقريباً. وظلت كتُب ابن ميمون تُعتبر أعمالاً قياسية لعدة قرون في العالم اليهودي.
أحد المفكرين اليهود في القرن الخامس عشر في أوروبا كان إيليا دي ميديغو، الأستاذ في جامعة بادوا الذي أشار إلى نفسه بأنه أحد “أتباع ابن ميمون”. وفي ذلك الوقت، كانت جامعة بادوا معروفة بأنها أرض خصبة للفلسفة الرشدية. وكان دي ميديغو هو المعلم للإنسانوي بيكو ديلا ميراندولا، الذي كتب العمل المؤثر “خطاب عن كرامة الإنسان” (1486)، والذي كثيراً ما يسمى “بيان عصر النهضة”. وعلى الفور، قام توماس مور بترجمة سيرة بيكو إلى الإنجليزية، بعد أن شجعه إيراسموس على القيام بذلك. ويبدو أن ما تسمى بالتقاليد اليهودية-المسيحية كانت تنطوي دائماً على تأملات إسلامية.
ربما يكون ابن رشد قد حقق أكبر نصر له بعد أكثر من 400 عام من وفاته. جاء باروخ دي سبينوزا، أحد آباء التنوير، من عائلة يهودية اضطرت إلى الفرار من إسبانيا والبرتغال إلى أمستردام بعد حرب الاسترداد. ومن خلال التقليد الفكري اليهودي، اكتشف سبينوزا أرسطو، ودي ميديغو، وابن ميمون وابن رشد. كما تعرض سبينوزا أيضاً للاتهام بإنكار خلود الروح ووجود الله ذاته. وكان لدعوته إلى التفكير النقدي المستقل تأثير دائم على التنوير.
ما من شك في أنه كان للعلماء والفلاسفة المسلمين دور أساسي في تكوين التفكير الأوروبي. أما وقد قيل ذلك، فإن من الصحيح أيضاً أن العالم العربي واجه أزمة فكرية امتدت على مر القرون. وقد دمرت الأنظمة الدكتاتورية والتطرف الديني العلمَ العربي والفلسفة العربية، في حين حقق الغرب قفزات مذهلة إلى الأمام. ومع ذلك، فإن إنكار دور العالم الإسلامي في تاريخ الفكر العالمي هو اغتصاب للتاريخ نفسه. ولا يمكن أن تكون للغرب أي مصداقية إذا كان يلوم الآخرين على تزوير التاريخ، في حين لا يفعل أفضل بكثير هو نفسه. لقد آن الأوان لإعطاء الحقيقة التاريخية مكاناً جديداً في تعليمنا للتاريخ.
*مدير معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط في أوروبا. زميل مركز حل النزاعات المستعصية في أكسفورد. المهمة الشخصية: فعل شيء حيال سوء الفهم المتبادل بين أوروبا والعالم العربي.
*نشر هذا المقال تحت عنوان :
The grandfather of the European Enlightenment was Muslim
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 18/11/2017
ala.zeineh@alghad.jo

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى