تقرير مترجم عن كاونتربنتش – القدس، التقسيم، العدالة، والسلام
كاونتربنتش – أورين بِن-دور* – 8/12/2017
أدلى دونالد ترامب ببيانه الفاحش الذي أعلن فيه أن الولايات المتحدة تعتبر مدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل اليهودية. وفي اعتراف إضافي بسيادة إسرائيل على كل المدينة، لم يعمد -للمرة الأولى- إلى تأجيل تطبيق قرار الكونغرس المتعلق بنقل السفارة الأميركية إلى القدس. وكانت الإدانات العالمية وشبه الإجماعية الكاسحة والغامرة لتحركات ترامب المحتملة سريعة: فقد حذر الرئيس الفلسطيني محمود عباس من تداعيات كارثية للقرار على الاستقرار الهش في المنطقة، وكذلك على ما تدعى “عملية السلام”. وأعربت كل دول العالم تقريباً عن استيائها من الخطوة، حتى أن تركيا تهدد بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل في حال تم تطبيق الخطوات. وهناك تضامن على مستوى العالم ضد موقف الولايات المتحدة. وبقراءة بسيطة، يمكن اعتبار ذلك كله إشارة مرحباً بها على تضامن عالمي متنامٍ مع القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم الوطني.
ولكن، هل هذا هو واقع الحال؟ ألا نشهد في الواقع إجماعاً دالاً وناضجاً تقريباً على إظهار الجوهر الحقيقي للخطوة الأميركية الفاحشة؟
إن مسألة القدس هي مسألة خطيرة وشائكة من أجل العدالة والسلام في فلسطين. ومع ذلك، ربما نستطيع أن نتوقف عند هذه النقطة ونتساءل: ما هو ذلك الشيء الذي يجعل قضية القدس -وهي مدينة بالغة القداسة بالنسبة للكثير جداً من الناس بطريقة تتحدى أي تقسيم- بالغة الخطورة سياسياً؟ ما هو التحدي الأخلاقي والسياسي الذي تشكله، بل وتجسده في الحقيقة، مدينة القدس؟ وهل تستجيب الاعتراضات الغامرة التي نشهدها الآن على خطوة ترامب فعلاً لهذا التحدي؟ ألا تعيد هذه الاعتراضات إنتاج تجاهل عميق الجذور لما ينبغي أن يكون مثيراً للتفكير حقاً في مسألة القدس؟ أليست هذه الاعتراضات عرَضاً لشكل غير مسيس للغاية من المقاومة المدارة بعناية -من حارس بوابة ذاتي خفي على كيف يمكن -أو كيف يجب- التفكير فيما يتعلق بكل فلسطين التاريخية (المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الأردن حتى البحر المتوسط، والتي تضم كل ما هو الآن دولة إسرائيل، والضفة الغربية وقطاع غزة)؟
هل يعترض أي من هؤلاء الذين يعترضون الآن على ترامب والذين يدعون أنهم يهتمون بالفلسطينيين، هل يعترضون أيضاً على تقسيم القدس بحيث تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية وجزؤها الغربي عاصمة لإسرائيل؟ وأيضاً، هل يعترضون على إمكانية إقرار وضع دولي دولي فريد لقدس موحدة يجعلها عاصمة قومية ثنائية لكلتا الدولتين؟
ربما لن يعترضوا بينما تظل هذه الأنواع من الرؤى متوافقة مع روح التقسيم -فكر الهيمنة الذي تم تطبيقه على فلسطين منذ الحرب العالمية الأولى، وخلال المائة عام التي مرت منذ وعد بلفور والخطط المختلفة للتقسيم والتطهير العرقي لفلسطين، واتفاق أوسلو الذي يؤجل الحديث عن الوضع النهائي للقدس. إن مسألة القدس، وبطريقة تشبه كثيراً مسألة فلسطين كلها، هي في الحقيقة مثل مسألة جدار الفصل العنصري (مَن سيتعرض على الجدار الذي بُني على حدود العام 1967)؟ وقد ظلت تُفهم دائماً ببساطة على أنها مسألة “تقسيم مناسب” وحدود مناسبة. ولم يتم اعتبارها أبداً مسألة متعلقة بـ”الجدار في داخل” قلوب وعقول الإسرائيليين؛ جدارٍ لا يسمح بأي تقاسم متساوٍ للأرض؛ وجدارٍ عقلي يمكن القول إن الفلسطينيين يشعرون به في مواجهتهم مع اليهود الإسرائيليين، والذي يجعلهم متشككين ومتحفظين إلى حد كبيرة. وبذلك، تعيد الاعتراضات التي نشهدها على قرار ترامب إنتاج هذا القيد الداخلي عن طريق ربط المسألة فقط بالسؤال المتفرع حول كم من القدس ينتمي إلى الفلسطينيين وكم منها إلى الإسرائيليين.
أن تُعتبر هذه المدينة عاصمة لإسرائيل هي مشكلة بالتأكيد. لكن اعتبار كل -أو بعض من المدينة- عاصمة لدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل لن يكون أقل إشكالية. والسبب هو أن مسألة القدس يجب أن تربط بالسؤال عن أي نوع من الدولة هي إسرائيل، وكذلك بالسؤال عن كيف ستستطيع أن دولة فلسطينية متصورة أن تعالج المظالم التي أصابت كل الفسطينيين. وبعبارات أخرى. تُشتق مسألة القدس من مسألة طبيعة الدولة الإسرائيلية –كدولة قائمة على المواطنة التفاضلية التمييزية- وتأثير هذه الطبيعة على المعاناة والمظالم التي تلحق بكل الفلسطينيين، سواء كان ذلك في الماضي أو في المستقبل على حد سواء. ولا يستطيع سوى استبطان من هذا النوع أن يتحمل المسؤولية بطريقة تزعم تمثيل كل الإسرائيليين والفلسطينيين باعتبارهم الناس الذين يعيشون هناك والذين عليهم تقاسم تلك الأرض.
في هذا الاستبطان، يجب أن نسأل من هم الفلسطينيون. وهو سؤال عميق عن الهوية والأصالة (الصلات بالتراب، وبالأرض). ولكن، وعلى نحو أكثر مباشرة، يتكون الفلسطينيون من ثلاث مجموعات رئيسية. أولاً، أولئك الذين تم تطهيرهم عرقياً وإخراجهم من كل فلسطين التاريخية في الأعوام 1947-1949، وكذلك ذريتهم، من أجل خلق دولة ذات أغلبية وشخصية يهودية أوروبية؛ ثانياً، أولئك الذين تم احتلالهم في العام 1967 في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، والذين يتم تشريد الكثيرين منهم حتى الآن بلا توقف، ويتم إخضاعهم للازدواجية القانونية والاحتلال؛ وثالثاً وأخيراً، هناك أولئك الذين واصلوا العيش كمواطنين من الدرجة الثانية، والذين يتم تشريدهم داخلياً في كثير من الأحيان، في الدولة الإسرائيلية، وهي دولة يضمن فيها اجتياز اختبار اليهودية على الفور منح مواطنة تفاضلية تمييزية -سواء لأولئك اليهود الذين يعيشون في فلسطين أو لنظرائهم في جميع أنحاء العالم، وإلى الأبد.
القدس، إذن، تتحدانا لكي ندرك أن الظلم الذي يحيق بكل فلسطين التاريخية، والذي يتم إيقاعه بكل الفلسطينيين، لا يمكن تقسيمه تبعاً للمناطق، ولذلك، فإن أي تقسيم لفلسطين التاريخية لا يستطيع أن يجلب العدالة والسلام الدائم لكل الفلسطينيين الذين يعيشون والذين سوف يعيشون هناك. ولذلك، فإن الاعتراض على خطوة ترامب ينبغي أن يعني أنه لا يمكن أن تكون هناك مدينة-عاصمة، والتي يمكن أن ترمز إلى التقسيم وأن ترسخه. لكن هذا بالضبط هو ما يقوم الذين يعارضون خطوة ترامب بإسكاته، بحيث يصبحون بذلك حراس بوابات كتم الحقيقة عن طريق الحفاظ على “عملية سلام” صورية، بينما يتهربون من مواجهة استحقاق العدالة. وسيكون ما يقوم به هؤلاء المعترضون هو عقلنة ضمنية لقدس مقسمة –عاصمة لدولتين، وهي رؤية تقوم فقط بترسيخ الظلم وغياب العدالة بالنسبة لمجموعتين من الفلسطينيين (اللاجئين، ومواطني إسرائيل الفلسطينيين)، الظلم المرتبط بطريقة وثيقة لا يمكن إنكارها بطبيعة كل من المؤسسة والدولة اليهوديتين.
لا يجب أن تكون القدس عاصمة لإسرائيل، لأن العاصمة لا يجب أن تكون رمزاً للظلم الذي يتم إسكاته بحق الفلسطينيين. وبدلاً من ذلك، يجب أن تكون القدس كلها عاصمة لدولة مساواة واحدة في كامل فلسطين التاريخية، والتي تحل فيها روح وثقافة المواطنة المتساوية محل كل من “إسرائيل” و”فلسطين”. وعندئذٍ فقط ستصبح القدس رمزاً للعدالة، وعاصمة لدولة حيث يتحقق حق العودة الفلسطيني؛ حيث تكون المساواة في المواطنة هي المبدأ الدستوري الأعلى، والأهم من كل شيء، حيث يفتح شعور أصيل بتقاسم الأرض كنظراء متساوي الآفاق أمام الأجيال الجديدة.
إن ما تدعى “السلطة الفلسطينية” لا تمثل الفلسطينيين، وهي تصبح متواطئة في ترسيخ شرعية نظام فصل عنصري بنيوياً هو الدولة الإسرائيلية، وبنى السلطة المادية التي تحرس هذا النظام. ويعمل الغضب الذي تعبر عنه “السلطة الفلسطينية” ومعظم العالم كردة فعل على قرار ترامب كغطاء يخفي السبب الأعمق في أن القدس لا يجب أن تكون عاصمة إسرائيل -السبب الذي يجب من أجله استبدال دولة إسرائيل. إن السياسة الواقعية القائمة على عقلنة وتبرير دولة الفصل العنصري الإسرائيلي باعتبارها شيئاً مقبولاً إنما تختبئ خلف سحابة دخان تعبر عنها بقوة الاعتراضات المخادعة على ترامب. ليست القدس ملعباً سياسياً للسلطة الفلسطينية ولأولئك من الطيف الصهيوني الذين يسمون أنفسهم معتدلين، على الرغم من أن إسكاتهم يصبح السلوك الأكثر تطرفاً لإخفاء الحقيقة من أجل الوصاية على “عملية السلام”. والقوى التي تحدد هذا النوع من الإسكات كبيرة جداً: ففي الحقيقة، يسيطر اللوبي الإسرائيلي أيضاً على دونالد ترامب.
تستدعي مسألة القدس التفكير في المخاطر الوجودية الأعمق والحواجز التي تنتمي إلى الغرب، وإلى بعض العوائق غير الواعية أمام التضامن بين الفلسطينيين وبين الفلسطينيين والمولودين في إسرائيل. إن القدس تشير إلى أصل ذلك الذي يحدد، بل ويطالب بالمقاومة المدارة التي تضفي الشرعية على إسرائيل. لكنه الأصل نفسه الذي يتطلب إجراء استكشاف فلسفي -فضلاً عن التصرف إزاءه بتضامن أصيل- لتلك المخاوف غير الواعية من قيام دولة مساواة واحدة في كل فلسطين التاريخية. إن الفظاعة التي تنطوي عليها رؤية القدس كعاصمة لإسرائيل، والتي تتجسد في الاعتراضات الحالية، يجب أن تدفعنا إلى تأمل أي نوع من الأمكنة هي فلسطين، وما الذي قد يجلب سلاماً حقيقياً ودائماً هناك، في اتجاه فهم أفضل لتاريخ البشرية العنيف بشكل عام، وفي أوروبا على وجه الخصوص.
*أستاذ القانون والفلسفة السابق في كلية القانون في جامعة ساوثامتبون في المملكة المتحدة. من كتبه: “الحدود الدستورية والفضاء العام”؛ “التفكير في القانون: بصمت مع هيديغر”؛ “القانون والفن: العدالة، الأخلاق، وعلم الجمال”. كتب بكثافة عن فلسطين التاريخية. ومن آخر أعماله في هذا الموضوع: “حل الدولة الواحدة كمطلب للقانون الدولي: القواعد الموجبة، تحدي الفصل العنصري وصلاحية إسرائيل”، و”الأبارتيد ومسألة الأصل في أعمال أيلان بابي”، و”إسرائيل وجنوب أفريقيا: الأوجه العديدة لنظام الفصل العنصري”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان :
Jerusalem, Partition, Justice and Peace
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 14/12/2017