تقرير مترجم عن فورين بوليسي – ما الذي تعنيه نهاية “داعش”
فورين بوليسي – ستيفن م. والت* – 22/10/2017
ما لم يكن المرء يعتقد بأن قطع رؤوس الناس هو طريقة مناسبة للنهوض بقضية سياسية قمعية، فإن الزوال الوشيك لما يدعى “الدولة الإسلامية” ستكون أخباراً سارة. لكن علينا الحذر من إعلان لحظة “المهمة أنجزت” قبل أوانها، وعلينا أن نكون حكيمين في استخلاص الدروس من نتيجة كانت لتستحق الاحتفال بخلاف ذلك.
لهذه الغاية، فيما يلي تقدير أوليّ لما تعنيه هزيمة “الدولة” في شكل خمسة أسئلة وبعض الإجابات المؤقتة:
1. هل كانت الدولة الإسلامية “دولة ثورية” حقيقية؟
ما أزال أعتقد أنها كانت كذلك. وكنتُ قد كتبت وراء، في العام 2015، مقالة لاحظت فيها التشابهات بين “الدولة الإسلامية” والحركات الثورية الأخرى (على سبيل المثال، اليعاقبة، والبلاشفة، والخمير الحمر… إلخ)، كما استخلصتُ بعض الدروس الواضحة إلى حد بعيد من تلك الفصول التاريخية الأبكر. فقد اعتنقت كل من هذه الحركات الراديكالية رؤية متطرفة لتحويل المجتمع، واعتقدت بأن قوى التاريخ (أو العناية الإلهية) تقف إلى جانبها وتضمن نجاحها، واعتمدت على العنف المتطرف لتحقيق أهدافها، وامتلكت بعض القدرة على إلهام الناس في المناطق البعيدة. ومع ذلك، قلتُ إن تنظيم “الدولة الإسلامية” ليس خطيراً بالقدر الذي يظنه الكثير من الناس، لأن معظم الحركات الثورية لم تتمكن من تصدير نموذجها، ولا حتى من البقاء لوقت طويل، إلا إذا سيطرت على بلد قوي. ولحسن الحظ، وعلى الرغم من أن “الدولة الإسلامية” كان أكثر غنى من معظم المنظمات الإرهابية، فإنه دولته ظلت مع ذلك ضعيفة.
2. لماذا خسرت “الدولة الإسلامية”؟
للعديد من الأسباب. كانت هزيمة “الدولة” محددة سلفاً ولا ينبغي أن تفاجئنا. وعلى الرغم من سلوكها المخيف والوصول إلى بعض عوائد النفط المتواضعة، فإنها كانت أضعف بما لا يقاس من روسيا البلشفية، أو فرنسا الثورية، أو حتى معظم جيرانها المباشرين. وفي حقيقة الأمر، استطاعت “الدولة” أن تظهر وتسيطر على الكثير مما هو في معظمه صحراء فارغة بسبب فراغ السلطة الذي خلفه غزو الولايات المتحدة للعراق والاضطرابات اللاحقة في سورية. وبمجرد أن أسست المجموعة نفسها في الرقة والمناطق المحيطة، استطاع مثالها، وأيديولوجيتها ودعمها المادي، إحداث قدر متواضع من المتاعب في بعض الأماكن الأخرى، لكن ضعفها البنيوي المتأصل حد من قدرتها على نشر رسالتها ووضعها في وضع خطير بمجرد أن أدرك جيرانها المشكلة التي تمثلها. وتنجح الحركات الثورية في بعض الأحيان لأنها تتمتع بميزة المفاجأة -كما فعل “داعش” عندما ظهر أول الأمر- لكنه يصبح من الصعب عليها التوسع أو البقاء بمجرد أن تدرك الدول الأقوى الخطر وتتخذ إجراء لاحتوائه. ولم يكن تنظيم “الدولة الإسلامية” استثناء.
بالإضافة إلى ذلك، عملت أيديولوجية “داعش” المتطرفة وممارساته البغيضة (بما في ذلك قطع الرؤوس، والعبودية الجنسية وما شابه) على تنفير الجميع تقريباً، وكذلك فعَل ميله إلى التعامل مع المسلمين الذين لم يقاسموه وجهات نظره المتطرفة كمرتدين. وليس من السهل توحيد الولايات المتحدة، وروسيا، والعراق ونظام بشار الأسد في سورية، وإيران، والسعودية والاتحاد الأوروبي، والأردن، والأكراد وآخرين في جبهة واحدة، لكن الاستراتيجيين البارعين في “داعش” استطاعوا تحقيق ذلك. وبمجرد أن فعلوا، أصبحت خلافتهم المزعومة بحكم المنتهية.
وأخيراً، نجحت الحملة المناهضة لتنظيم “داعش” في جزء منها لأن الولايات المتحدة جعلت اللاعبين المحليين -عن حكمة- يأخذون زمام المبادرة ولم تحاول القضاء على التنظيم وحدها. وقد لعبت القوة الجوية دوراً هاماً، وكذلك فعلت المشورة والتدريب اللذين قدمتهما الواحدات الأميركية الأخرى. لكن اللاعبين المحليين الذين لديهم حصة أكثر مباشرة في الناتج وتمتع أكبر بالشرعية المحلية قاتلوا بشغف كبير. وقد جعل هذا الاستخدام الحكيم للقوة الأميركية من الصعب على “داعش” تصوير الحملة على أنها هجوم أجنبي ضد “الإسلام”، خاصة عندما كان معظم ضحاياه من نظرائه المسلمين.
3. وإذن، هل كانت الحملة ضد “الدولة الإسلامية” قصة نجاح نادرة للسياسة الأميركية الخارجية؟
بالتأكيد، ولكن، أوقفوا تبادل التهاني. فكما يعرف القراء هنا، كنتُ منتقداً جداً للسياسة الخارجية الأميركية الأخيرة، بما في ذلك ميل واشنطن المتجدد نحو الدخول في حروب لا تستطيع كسبها. ويبدو أن الحملة ضد “الدولة” كانت نجاحاً واضحاً مع ذلك، ويجب أن نعترف بأنها كانت كذلك.
في الوقت نفسه، يجب على الأميركيين مقاومة إغواء تهنئة أنفسهم كثيراً. فأولاً، دعونا لا ننسى أن “داعش” ما كان ليظهر في المقام الأول لو أن إدارة جورج دبليو بوش لم تقرر غزو العراق في العام 2003 ثم التورط في الاحتلال اللاحق. ولذلك، بالمساعدة في هزيمة التنظيم، كانت الولايات المتحدة تحل مشكلة خلقتها هي بدون قصد فحسب.
لكن الأهم من كل ذلك هو أن الظروف لهزيمة “داعش” كانت مواتية. وكما ذُكر أعلاه، كان التنظيم خصماً من الدرجة الخامسة، وافتقر إلى الموارد الوفيرة، والقوة العسكرية المتطورة، أو الحلفاء القادرين. وقد جلبت أعماله إلى الوجود تحالفاً متنوعاً، وحَّده الاعتقاد المشترك بضرورة تدمير التنظيم. كما كان لدى التحالف المناهض لـ”داعش” أيضاً هدف هسكري واضح ومباشر: استعادة السيطرة على الأراضي من المجموعة، والقضاء على أكبر عدد ممكن من أنصارها، وإجهاض ادعائاتها بتمثيل “الإسلام الحقيقي” أو أنها النموذج المناسب للمستقبل في المنطقة. ومن دون التقليل من التحديات العسكرية المتضمنة، كان هذا من نوع القتال الذي ينبغي للولايات المتحدة (وحلفائها المحليين) أن يكونوا قادرين على كسبه، ونوع الخصم الذي يجب أن يكونوا قادرين على هزيمته في ميدان المعركة.
لذلك، يجب أن نكون حذرين من استنتاج أن هذا النجاح بالذات هو نموذج للصراعات المستقبلية، أو أنه يضفي الصلاحية على جهود أميركا لـ”بناء الأمة” في الأماكن الأخرى. وبالتحديد، ليست الظروف التي جعلت هزيمة “داعش” ممكنة موجودة في أفغانستان، واليمن أو ليبيا، وهو السبب في أن جهود الولايات المتحدة هناك فشلت بشكل متكرر.
بالإضافة إلى ذلك، تفتح هزيمة “داعش” صندوقاً جديداً كاملاً من المشاكل، بما في ذلك مسألة مصير الأكراد، ورغبة الأسد في استعادة سلطته في ذلك الجزء من سورية، ودور إيران وتركيا، والظهور المحتمل لمنظمة جهادية جديدة. ومع أن هزيمة “الدولة” تشكل فوزاً واضحاً، فإنها لا تجب المبالغة في تقدير أهميتها الأوسع.
4. هل يستحق الرئيس ترامب بعض الفضل هنا؟
نعم، وإنما قدراً أقل بكثير مما يرجح أن يدعيه. فقد انتقد ترامب إدارة باراك أوباما تجاه “داعش” مراراً وتكراراً خلال حملة العام 2016، ووعد بأن يذهب “داعش” في وقت “سريع، سريع جداً” إذا ما تم انتخابه. لكن سقوط الموصل والرقة والزوال الوشيك للـ”الدولة” يثبت بالكاد أنه كان محقاً في نقنده، لأن الحملة التي هزمت التنظيم كانت من تصميم وتنفيذ إدارة أوباما، ولم يفترق ترامب عنها بأي درجة يعتد بها. صحيح أنه منح القادة العسكريين سلطة أكبر إلى حد ما للتصرف وحدهم، لكنه لم يضف أي موارد إضافية مهمة أو يبتعد عن الاستراتيجية الأساسية لإدارة أوباما. وهو يستحق الفضل عن التمسك بالنهج الذي ورثه، وربما بكونه قد سرَّع الإيقاع قليلاً، لكنه إذا كان نزيهاً (وهو ليس كذلك)، فإنه سيسند لسلفه الكثير من الفضل أيضاً (وهو ما لن يفعله).
5. هل يشكل سقوط الرقة نقطة تحول رئيسية في الحملة ضد “التطرف العنيف”؟
من المبكر جداً تقرير ذلك. فعندما ظهر “داعش” أول الأمر، كان مبعث القلق الأساسي هو قدرته على العمل كـ”مضاعِفٍ للقوة” باستخدام مصادره لنشر أيديولوجيته المتطرفة والتحريض على كل من الهجمات المنظمة وعمليات “الذئب المنفرد” في الدول الأخرى. وخشي الجميع من أنه إذا تمكن التنظيم من البقاء عاملاً، فسيكون من شأن نجاحاته أن تضفي شرعية جديدة على مجموعة من المثُل الخطيرة والعنيفة. وكانت هذه الاحتمالية مصدر قلق حقيقيا، على الرغم من أن المرء لا يستطيع أن يستبعد احتمال أن تنظيم “الدولة” كان يمكن أن يتبع مسار الحركات الثورية السابقة، ويخفف تدريجياً من آرائه وسلوكه مع مرور الوقت.
لن نعرف الإجابة عن هذا السؤال أبداً، وهو شأن لا بأس به بالنسبة لي. وبالذهاب إلى المستقبل، قد تؤدي هزيمة التنظيم إلى إجهاض الشعور بالمصير الذي جذب بعض الناس إلى شعاراته الدموية، وقد يؤدي بالمزيد من المتعاطفين المحتملين إلى التشكيك في التكتيكات العنيفة التي تبنتها الجماعات مثل تنظيم القاعدة و”الدولة”. دعونا نأمل ذلك. لكن هزيمته سوف تجعل من الأصعب على الجهاديين، على المدى القصير على الأقل، تخطيط وتنفيذ الهجمات في بلدان أخرى. ولهذا السبب، يعتقد رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دونفورد، بأننا “سنستمر في رؤية تقلص الأراضي، وتقييد حرية الحركة، وتنقص الموارد، وقدر أقل من مصداقية السرد”.
حتى لو تبين أن هذا هو واقع الحال، لا يعتقد أحد أن هزيمة “الدولة” سيقضي تماماً على الخطر. وكما لاحظت صحيفة “نيويورك تايمز” قبل بضعة أيام، فإن “المنظمة أبعد ما تكون عن الهزيمة، وهي ما تزال أقوى بكثير اليوم مما كانت عليه عندما انسحبت القوات الأميركية من العراق”. وفي واقع الأمر، يعرب بعض الخبراء -وفق اتجاه تضخيم التهديد الغريزي بين العديد من أنواع الأمن القومي- عن قلقهم من أن الخطر آخذ في الازدياد في أعقاب هزائم “داعش” الأخيرة وانهياره الوشيك ككيان يسيطر على أراضٍ. ويحذر أندرو باركر، رئيس جهاز “أم. آي-5” البريطاني، مؤخراً، من أن “التهديد متعدد الأوجه، وهو يتطور بسرعة، ويعمل على نطاق ووتيرة لم نشهدهما من قبل”.
تبقى المشكلة التي تؤثر على الشرق الأوسط الأوسع هي الافتقار إلى مؤسسات سياسية فعالة، يرافقه التدخل المتكرر، والعنيف أحياناً، للعديد من القوى الأجنبية (بما فيها الولايات المتحدة). وينطبق هذا على مصر، وليبيا، والعراق، وسورية، واليمن، والصومال، وأفغانستان، وأجزاء من منطقة جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى. وما تزال الظروف السياسية والاجتماعية القائمة في هذه البلدان تثير السخط ضد النخب الحاكمة الحاكمة، والغضب من القوى الأجنبية المتحالفة معها. وفي بعض الحالات، يدفع ذلك السخط الناس للانضمام إلى الحركات المتطرفة وحمل السلاح ضد مضطهديهم المفترَضين. وإلى أن يتم تأسيس مؤسسات محلية فعالة، فإن خطر التطرف الراديكالي لن يزول. ومع ذلك، فإن إنشاء مؤسسات محلية متمتعة بالشرعية هو شيء لا يمكن أن تفعله الولايات المتحدة أو الأطراف الخارجية الأخرى. ربما يتمكن الخارجيون من المساعدة من الهوامش، وإنما فقط إذا كان باستطاعة الناس الذين يعيشون في تلك البلدان أن يعكفوا حقاً على إنجاز هذه المهمة.
وأخيراً، ربما تكون هزيمة “الدولة الإسلامية” فوزاً واضحاً، لكنها لا تقول لنا ما إذا كنا نقوم بتقييم التهديد بشكل صحيح، أو ما إذا كان النهج الأميركي الأوسع تجاه مشكلة الإرهاب العالمي هو النهج الصحيح. فعلى مدى أكثر من عقدين، كانت الاستجابة الأميركية الأساسية للإرهاب تتمثل في دق ناقوس الخطر، وإثارة الضجيج حول التهديدات، والرد بالقوة، حتى مع أن الخطر الحقيقي الذي يشكله الإرهابيون على المواطنين الأميركيين كان صغيراً إلى حد التلاشي إذا ما قورن بالمخاطر الأخرى. ولم يقتصر الأمر على أن ذلك أدخل الولايات المتحدة في صراعات مفتوحة النهايات في العديد من الأماكن، وإنما ساعد أيضاً على تسميم سياستنا وتشتيت انتباهنا عن تهديدات أكثر خطورة بكثير (مثل المعدل المفزع للعنف المسلح في الوطن -بما في ذلك حوادث إطلاق النار الجماعي).
لا تفهموني خطأ: إنني سعيد للغاية بحقيقة أن “الدولة الإسلامية” يتجه حثيثاً إلى مزبلة التاريخ. ولكن، ما يزال هناك نقاش يجب إجراؤه حول الكيفية التي يجب أن تتعامل بها الولايات المتحدة والدول الأخرى مع هذه المسألة في المستقبل.
* أستاذ روبرت ورينيه بيلفر للعلاقات الدولية في جامعة هارفارد.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
What the End of ISIS Means
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 30/10/2017
ala.zeineh@alghad.jo