تقرير مترجم عن فورين أفيرز – الإسلام السياسي بعد الربيع العربي .. بين الجهاد والديمقراطية
فورين أفيرز – أوليفييه روي – عدد تشرين الثاني (نوفمبر) كانون الأول (ديسمبر) 2017
ظهر مصطلح “الإسلاموية” Islamism ومكافئه المخفف، “الإسلام السياسي”، وحققا انتشاراً واسع النطاق بعد الثورة الإيرانية في العام 1979، وسرعان ما أصبحا حاضرَين دائمَين في الخطاب السياسي المعاصر. وتم نحت المصطلحين لوصف ظاهرة يُزعم أنها جديدة: وجود حركات سياسية يرأسها علماء مسلمون متعلمون يدعون إلى “إعادة أسلمة” البلدان ذات الأغلبية المسلمة (والمجتمعات الإسلامية في أماكن أخرى)، التي توقفت، في نظرهم، عن أن تكون إسلامية بما فيه الكفاية. وروجت هذه الحركات للشريعة الإسلامية من خلال الأشكال الحديثة للتعبئة الشعبية -على سبيل المثال، إنشاء فروع مخصصة للشباب والنساء والعمال. واعتمدت هيكلاً تنظيمياً مختلطاً، في نقطة تقاطع بين الأخوية الصوفية التقليدية، التي يمر فيها الأعضاء بخطوات مختلفة من الارتقاء، وبين الحزب السياسي الحديث؛ حيث يقوم مجلس استشاري بتعيين قائد يشرف على اللجان الفنية المخصصة لمجالات سياسية معينة. وقد عمل الإسلاميون على مسارين: تعزيز حركة اجتماعية يمكن أن تتشارك مع المنظمات المجتمعية والجمعيات الخيرية؛ وإنشاء حركة سياسية تتنافس في الانتخابات وتقوم بدفع أعضائها إلى داخل بيروقراطية الدولة.
بحلول السبعينيات، كانت هذه المنظمات بالكاد جديدة. وكانت الجماعة الإسلامية الأولى والأكثر شهرة هي جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في مصر في العام 1928، ثم أنشأت في وقت لاحق فروعاً لها في جميع أنحاء العالم العربي. ومع مرور الوقت، تأسست منظمات مماثلة في أماكن أخرى من العالم الإسلامي السني. لكن رجال الدين الإيرانيين الشيعة والمتشددين الذين شاركوا في الإطاحة بشاه إيران في العام 1979 ساعدوا على تعريف الإسلام السياسي في الخيال العام -ربما لأنهم كانوا أول إسلاميين يسيطرون على دولة حديثة. وقد ساعد صعودهم على الترويج لمصطلح “إسلاموي” -أو “إسلامي” بهذا المعنى السياسي- في وسائل الإعلام، والأوساط الأكاديمية، والحكومة.
واليوم، لسوء الطالع، يستخدم الصحفيون والعلماء والسياسيون هذا المصطلح بحرية، ويربطونه بمجموعة واسعة من الشخصيات والمجموعات، من راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة “المسلمون الديمقراطيون” في تونس، إلى أبو بكر البغدادي، الخليفة المعين ذاتياً لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ويشبه ذلك استخدام مصطلح “اشتراكي” لوصف كل من السيناتور الأميركي بيرني ساندرز وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون.
إحدى الميزات العديدة لكتاب “إعادة تفكير في الإسلام السياسي”، Rethinking Political Islam، وهو مجموعة مدروسة ومفيدة من المقالات التي جمعها شادي حميد وويليام ماكانتس؛ الخبيران الأميركيان البارزان في هذا الموضوع، هي الكيفية التي يشحذ بها النقاش حول الإسلام السياسي من خلال تعريف ما يسميه الكاتبان “إسلاميو التيار السائد”. ويستخدم حميد وماكانتس هذا المصطلح للإشارة إلى الأحزاب الإسلامية “التي تعمل ضمن حدود السياسات المؤسسية، وتكون مستعدة للعمل داخل هياكل الدولة القائمة، حتى تلك البِنى العلمانية ظاهرياً”. وتشمل المجموعات التي ينطبق عليها هذا الوصف جماعة الإخوان المسلمين في مصر والأردن، وحزب الإصلاح في اليمن، وحزب العدالة المزدهر في إندونيسيا، وغيرها الكثير.
يستثني تعريف حميد وماكانتس حركات مثل “جماعت تبليغي” التي تتخذ من جنوب آسيا مقراً لها، والتي تسعى إلى إعادة أسلمة المجتمع من خلال التبشير بدلاً من السياسة. كما أنه يستثني الجماعات المتطرفة، مثل تنظيم القاعدة، التي تدافع عن الجهاد العنيف وتمارسه. لكن تركيز الكتاب على إسلاميي التيار السائد له ما يبرره، لأنه على الرغم من أن الجماعات الإرهابية تصنع عناوين الأخبار، فإن الجماعات الأكثر اعتدالاً تتمتع بدعم أعمق وأوسع نطاقاً بكثير في العالم الإسلامي، بحيث تشكل بذلك تحدياً أكبر على المدى الطويل للدول العلمانية بجميع أنواعها. وهي حركات اجتماعية حقيقية ذات أهداف ملموسة قصيرة الأجل؛ وإذا كانت تؤيد فكرة الخلافة العالمية، فإنها تعتبرها حلماً قصياً بعيد المنال.
في الوقت الراهن، تسعى هذه الحركات إلى التساكُن مع المؤسسات القائمة، وبناء الدعم من خلال إنشاء الجمعيات الخيرية التي تملأ الفجوة التي خلفها سوء الحكم في الكثير من أنحاء العالم الإسلامي. وبحسن النوايا الذي يصنعه ذلك، تحاول هذه الحركات إقناع الناس بـ”العودة” إلى الإسلام من خلال التقوى: ارتياد المساجد؛ والصلاة علناً في الأماكن العامة؛ وارتداء الحجاب بالنسبة للنساء. وهي لا تتحدى بشكل مُعلن شرعية الحكومات العلمانية، وإنما تحاول بدلاً من ذلك التأثير عليها؛ فتدخل الساحة الانتخابية عندما يُسمح لها بذلك، وهي مفتوحة على الانضمام إلى الائتلافات السياسية. وهي ترفض ممارسة التكفير (اتهام المسلمين الآخرين بالردة) ولا تروج للتمرد المسلح -إلا ضد إسرائيل. وهي لا تلجأ إلى حمل السلاح إلا نادراً، فقط عندما تتعرض للهجوم. وعلى الرغم من أنها تتهم القوى الغربية بالاستعمار الجديد و”العدوان الثقافي”، فإنها تُبقي الباب مفتوحاً دائماً أمام الاتصالات والتفاوض. (تجدر الإشارة إلى أن منتقدي ومعارضي هذه الجماعات يتهمونها منذ فترة طويلة، وعادة من دون أدلة كثيرة، بامتلاك أجندات خفية وممارسة الازدواجية لإخفاء نواياها ومعتقداتها الأكثر تطرفاً).
هذه صورة مألوفة إلى حد ما. لكنها وُضِعت في السنوات الأخيرة في إطار غير مألوف، بفضل ما يسميه حميد وماكانتس “الصدمتان التوأمان”: الانقلاب العسكري في مصر في العام 2013، الذي أطاح بالحكومة المنتخبة إسلامية القيادة بعد أن قضت بالكاد سنة في السلطة؛ وظهور دويلة “داعش” في العام 2014 في أعقاب هجمة المجموعة الوحشية عبر العراق وسورية. وكانت هناك بطبيعة الحال صدمة أبكر أيضاً: ما يُدعى “الربيع العربي” في العامين 2010-2011، الذي جلب لإسلاميي التيار السائد قدراً من النفوذ والسلطة أكثر مما تمتعوا به في أي وقت سابق.
ولكن هذه الصدمات عملت، بعيداً عن إيضاح طبيعة ومسار الإسلاموية، على المزيد من تعكير المياه فحسب. وكما يكتب حميد وماكانتس، فإنه “بعد عقود من التكهنات حول ما يمكن أن يفعله الإسلاميون عندما يأتون إلى السلطة، حظي المحللون والأكاديميون -والإسلاميون أنفسهم- بجواب في نهاية المطاف. وهو جواب مربك”.
السياق في مقابل الجوهر
لإلقاء الضوء على الموضوع، قام الكُتاب المساهمون في كتاب “إعادة نظر في الإسلام السياسي” بحكمة بوضع النقاشات النظرية عن الأيديولوجية الإسلاموية جانباً، وقاموا بدلاً من ذلك بدراسة ممارسات وسياسات الأحزاب الإسلامية في السنوات الأخيرة. ويخصص الكتاب فصولاً للتطورات التي حدثت في تسعة بلدان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا. واستخدموا خبرتهم في إدارة التدرج المنهجي.
بعد ثورات 2010-2011، كسب الإسلاميون الانتخابات في مصر والمغرب وتونس، في حين تورطوا على الفور في الحروب الأهلية الفوضوية في كل من ليبيا وسورية واليمن. ولم تحدث انتفاضات في الأردن والكويت، لكن الأحزاب الإسلامية في هذين البلدين -والتي لها تراث طويل من المشاركة في الانتخابات والعمل ضمن المؤسسات القائمة- تنشطت مع ذلك بفضل الاضطرابات في الأماكن الأخرى. وانطبق الشيء نفسه على الأحزاب الإسلامية في باكستان وجنوب شرق آسيا.
على الرغم من هذا التنوع، يندرج محللو الإسلام السياسي في هذه الأماكن في فئتين رئيسيتين. الأولى يمكن أن يُطلق عليها اسم “وجهة النظر السياقية” The contextualist view، التي تعتقد بأن سياسات وممارسات الأحزاب السياسية لا تقودها الأيديولوجية بقدر ما تقودها الأحداث، وترى إلى هذه الجماعات باعتبار أنها تعمل برد الفعل وتميل إلى التكيف. وهكذا، على سبيل المثال، أنتج القمع العنيف الذي واجهته جماعة الإخوان المسلمين المصرية في الستينيات نهجاً أكثر حذراً لدى قيادة الحركة، مصحوباً بالتطرف على هامشها. وفي المقابل، قادت الفرص السياسية التي وفرتها ثورات 2010-2011 الجماعة إلى دخول معترك اللعبة الانتخابية، كما يلاحظ العالم السياسي ستيفن بروك في مساهمته في الكتاب المذكور. ويعتقد أصحاب النظرة السياقية بأن الجماعات الإسلامية تسعى إلى التكيف مع الظروف والأعراف الخاصة بالبلد المعني (على سبيل المثال، الاعتراف بالأنظمة الملكية في الأردن والمغرب). والهدف الرئيسي لهذه الجماعات هو البقاء على قيد الحياة كمنظمات متماسكة وكفاعلين سياسيين. وفي كثير من الأحيان، لا يعدو استخدامها للخطاب الديني كونه “كلام إسلامي” (بكلمات العالم السياسي الفرنسي فرنسوا بورغات) -أي كطريقة للتعبير عن هوية فريدة من نوعها وإنطاق المظالم، خصوصاً ضد الغرب.
أما المدرسة الثانية للفكر، فهي تلك التي يمكن أن تدعى “وجهة النظر الجوهرية” The essentialist view. وهي ترى أن الإسلاميين هم في الأساس أيديولوجيون، وأن أي تنازلات يقدمونها للمبادئ أو المؤسسات العلمانية هي تحركات تكتيكية بحتة؛ حيث لا تمنعهم مشاركتهم في السياسات الانتخابية من الدعوة إلى الجهاد العنيف أيضاً. ووفقاً لهذه النظرة، فإن المفهوم الإسلامي الحقيقي للديمقراطية هو “رجل واحد، صوت واحد، مرة واحدة”. وبعبارات أخرى، يرى الإسلاميون صندوق الاقتراع كمجرد طريق إلى السلطة؛ وبمجرد أن يصبحوا هناك، فإنهم يستبدلون الديمقراطية بالثيوقراطية. والنتيجة الطبيعية لهذه الأطرحة هي الفكرة -التي يطرحها بحماس منتقدو الإسلاموية، وإنما يتبناها بعض المنتمين إليها أيضاً- القائلة إن اللاهوت الإسلامي لا يعترف بأي فصل بين الدين والسياسة، وبذلك لا يستطيع الإسلامي الموثوق والحقيقي أن يتخلى عن أجندته الأيديولوجية لصالح مقاربة أكثر براغماتية أو ديمقراطية.
في السنوات الأخيرة، مع ذلك، فعل الإسلاميون السائدون ذلك بالضبط في كثير من الأحيان. وقد فعلوا ذلك في أعقاب النصر، كما حدث في تونس، وفي أعقاب الهزيمة، كما فعلوا في مصر. وفي كلتا الحالتين، تغلبت القيود السياسية على الالتزامات الأيديولوجية. وقد أدرك الإسلاميون في مصر وتونس أن ناخبيهم يهتمون أقل بدور الإسلام في الدستور، مثلاً، من اهتمامهم بتوفير الوظائف والغذاء والإسكان. وفي مصر، تعلم الإسلاميون هذا الدرس بالطريقة الصعبة. في البداية، بدت الحكومة التي ترأسها محمد مرسي، الذي كان سابقاً قائداً بارزاً في جماعة الإخوان المسلمين، راغبة في العمل ضمن محددات المؤسسات القائمة -وفي الحقيقة، شكل ذلك الاستعداد جزءاً من الأسباب التي جعلت الإسلاميين يُنتخبون في المقام الأول. ولكن، عندما وسَّع مرسي سلطته الخاصة وفشل في توفير النمو الاقتصادي والأمن، فإن الدعم الشعبي لحكومته تراجع، ورحب معظم المصريين بعودة الحكم العسكري بعد أن استولى عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، على السلطة بانقلاب في العام 2013. وفي تونس، تكيف إسلاميو التيار السائد في “حزب النهضة” بقدر أكبر من الحذق، كما تناقش الباحثة مونيكا ماركس في مساهمتها في الكتاب؛ حيث قاموا بحل تحالفهم الحاكم في العام 2013 في أعقاب الغضب الشعبي من الهفوات الأمنية وعدم الاستقرار الاقتصادي -وهي خطوة حالت دون حدوث مواجهة مع العلمانيين، والتي ربما كانت لتهدد بقاء الحزب على المدى الطويل.
في العديد من الأماكن، أدركت الأحزاب الإسلامية أيضاً أنها لا تتمتع باحتكار للسياسة الدينية: في مصر في العام 2012، شكل السلفيون -الأهدأ حتى ذلك الوقت- حزبهم الخاص وكسبوا شريحة من الناخبين المتدينين. وفي الأثناء، لم تؤيد المؤسسات الدينية، مثل جامعة الأزهر القاهرية، الإسلاميين. وكثيراً ما عرضت حتى الأحزاب العلمانية، مثل حزب “نداء تونس” التونسي، بعض القواعد الإسلامية في برامجها من أجل تعزيز صدقيتها الثقافية. وفي جنوب شرق آسيا، كما يبيّن العالم السياسي جوزيف تشينيونغ في الفصل الذي أسهم به في الكتاب، أدرجت معظم الأحزاب السياسية تقريباً مسألة إعادة الأسلمة في برامجها، بطريقة قوضت العلامة الإسلامية المميزة.
لم تنتج الثورات العربية في 2010-2011 حُكماً واضحاً في النقاش بين المعسكرين، السياقي والجوهري. ولكن، وكما يبيِّن الكتاب، فإن أغلبية من الأدلة تدعم الجانب السياقي. ويكتب حميد وماكانتس: “إن الديمقراطية تُمكِّن وتشجع كل الأحزاب، سواء كانت إسلامية أو غير ذلك، على السعي إلى المركز، أياً يكن ما يعنيه ذلك”. ويعرض حزب النهضة التونسي الدليل الأكثر إقناعاً على هذه الحجة. فبعد فوزه بأكثرية برلمانية في العام 2011، أمضى الحزب سنوات في مناقشة نص لدستور جديد -مع نفسه ومع منافسيه. وربما كانت النتيجة هي الوثيقة الأساسية الأكثر علمانية في أي دولة عربية، وواحدة تحمي “حرية الضمير” -بمعنى الحق في اعتناق أو عدم اعتناق أي معتقدات دينية، وحرية تغيير الديانة. وهذا حق أكثر اتساعاً من “حرية الدين”، التي تسمح لغير المسلمين بممارسة عقائدهم، لكنها لا تسمح لهم بتحويل مسلمين إلى أديانهم، والتي تتجاهل الملحدين والناس الآخرين من ذوي التوجهات العلمانية. وكما يلاحظ باحث العلاقات الدولية، بيتر ماندافيل، في فصله في الكتاب، فإن تخلي حزب النهضة الطوعي عن سلطة الحكم أظهر أن المخاوف القديمة من “رجل واحد، صوت واحد، مرة واحدة” كثيراً ما تكون بلا أساس. وفي الأثناء، في مصر في العام 2013، لم يكن الإسلاميون هم الذين وضعوا نهاية للحكم الديمقراطي، وإنما فعل ذلك تحالف غريب بين قادة الجيش، والعلمانيين والسلفيين. وعلى أي حال، لم يكن مرسي يمتلك الوسائل لمقاومة انقلاب السيسي، كما أظهر رد الفعل السلمي بشكل غامر والعبثي تماماً لأنصار السيسي، الذين ذبح الجيش قرابة ألف منهم بعد احتلالهم ميداناً عاماً في القاهرة.
في نهاية المطاف، يبدو المساهمون في كتاب “إعادة تفكير في الإسلام السياسي” مهتمين بالذهاب إلى ما وراء النقاشات المألوفة الطويلة عن مدى صدق الإسلاميين. ويسعى هؤلاء المفكرون إلى فهم ما الذي سيعنيه للأحزاب الدينية التحول من فاعلين على الهوامش، مقتصرين على المعارضة، إلى فاعلين سياسيين حقيقيين. ولم يعد السؤال المطروح: ما الذي يقوله الإسلام عن السياسية؟ وإنما: كيف سيمارس الإسلاميون السياسة؟
كانت إجابة حزب النهضة التونسي عن هذا السؤال إحداث تغيير درامي في بنيته وهويته: في العام 2016، توقفت الجماعة رسمياً عن تعريف نفسها كحزب إسلامي. وكتب الغنوشي في هذه المجلة أن حزب النهضة “لم يعد يقبل وصف ‘إسلامي’ -وهو مفهوم شوهه المتطرفون في السنوات الأخيرة -كوصف لنهجه”. وأضاف: “لقد أصبحت تونس أخيراً ديمقراطية بدلاً من كونها دكتاتورية؛ ويعني ذلك أن ’النهضة‘ يمكن أن تكون في النهاية حزباً سياسياً يركز على أجندة عملية ورؤية اقتصادية بدلاً من كونها حركة اجتماعية تناضل ضد القمع والدكتاتورية”.
ولكن، إذا توقف حزب مثل “النهضة” عن محاولة تشكيل القانون المدني بحيث ينسجم مع الشريعة، فبأي معنى يمكن أن يكون “إسلامياً” من الأساس؟ الجواب -الذي ما يزال مثيراً للجدل بالنسبة للعديد من أعضاء الحركة- هو أنه على الرغم من أن “الحركة” و”الحزب” أصبحا الآن منفصلين رسمياً، فإن الهدف من مشاركة الحزب في السياسة هو حماية “الحركة” من السياسة. وبتحوله إلى فاعل سياسي طبيعي في نظام سياسي طبيعي، سوف يساعد حزب النهضة حركة النهضة على تنفيذ مهتمتها المتمثلة في تعزيز مجتمع حيث يكون الدين -ولو أنه ليس مكرساً في مؤسسات الدولة- مستقراً في قلب الحياة اليومية. ويشبه هذا النهج المفهوم الليبرالي الغربي عن فصل الكنيسة عن الدولة -ولو أنه أقرب إلى المفهوم الأميركي عن حماية الدين من تدخل الدولة منه إلى الفكرة الفرنسية عن حماية الدولة من الدين. وفي السياق الإسلامي، يجب تعزيز الفصل، ليس فقط من قِبل مؤسسات الدولة والدستور، وإنما على المستوى الشعبي أيضاً، من قِبل الأحزاب الإسلامية نفسها.
يشكل هذا التصور تغيراً عميقاً، ليس أقل من إعادة تعريف الدين بحيث يشير بشكل أضيق إلى مجموعة من المعتقدات والممارسات التي توجد في إطار مجتمع علماني. وقد أدرك “النهضة” أنه على الرغم من أن المجتمع التونسي ربما يكون مسلماً من الناحية الثقافية، فإنه ليس منذوراً لقدر أن يصبح إسلامياً من الناحية الأيديولوجية. وقد أضاء الغنوشي هذه النقطة بإعلانه أن “النهضة” أصبح “حزباً للمسلمين الديمقراطيين”، مستدعياً -عن قصد- مقارنات مع الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا.
لكن مثل هذه المقارنة تقطع شوطاً أبعد مما يجب. فمند أواسط الأربعينيات حتى أواسط السبعينيات، وجدت الأحزاب المسيحية الديمقراطية طرقاً لإضفاء العلمانية على ما كان في الأساس قيماً دينية، من أجل الوصول بطريقة أفضل إلى الناخبين الذين يصبحون أكثر علمانية باطراد. وفي الدول ذات الأغلبيات البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء، روجت هذه الأحزاب قيماً مستمدة من العقيدة الاجتماعية للكنيسة، في مسائل تتصل بالعائلة، والتعاون بين العمال وأصحاب الأعمال، والضمان الاجتماعي. ولكن، حتى مع أن هذه الأحزاب ما تزال على قيد الحياة (بل وتزدهر في ألمانيا)، فإنها ليست هناك حركة اجتماعية مسيحية ديمقراطية مكافئة لتلك التي يرى “النهضة” والجماعات الإسلامية الأخرى أن وجودها حاسم لإنجاز مهماتها. وفي بلدان مثل ألمانيا، يوجد لدى الديمقراطيين المسيحيين “حزب” وإنما ليس “حركة”. وعلى الرغم من أن الحركات الاجتماعية الكاثوليكية تعمل في بلدان أوروبية مثل إيطاليا، فإنها لا تتماهى مع أحزاب سياسية. وفي أوروبا، لم تنتصر العلمانية فقط في المجال السياسي، وإنما في المجال الاجتماعي أيضاً: فبعد الحرب العالمية الثانية، انجرفت البلدان الأوروبية أبعد وأبعد عن وجهات النظر المسيحية التقليدية، خاصة في الشؤون التي تتعلق بالجنسانية، والجندر والأسرة. وبهذا المعنى، يكون من المدهش أن يشجع الغنوشي وآخرون من إسلاميي التيار السائد عقد المقارنات مع المسيحيين الديمقراطيين، الذين يقدمون بالكاد نموذجاً للنجاح بالمعايير الإسلامية. يبدو من غير المرجح أن تترافق علمنة السياسات الإسلامية بانحراف بعيداً عن القيم التقليدية للدول المسلمة، في المستقبل المنظور على الأقل. (من غير المرجح أن تضفي تونس الشرعية على زواج المثليين في أي وقت قريب، على سبيل المثال). لكن فصل المسجد عن الدولة ينطوي على خطر أكثر حدة في المدى القصير على الأحزاب الإسلامية مثل النهضة: إذ يمكن أن يوفر فُرجة للمتطرفين الجهاديين الذين كثيراً ما يشيرون إلى أنفسهم على أنهم “غرباء في هذا العالم”. ويأتي هذا التعبير من نشيد معروف راج خلال فترة محاكمات أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين المصرية في الستينيات. وهو تعبير عن فكرة أن الجهاديين -بنقائهم الأيديولوجي ورفضهم التكيف مع القواعد والمؤسسات العلمانية- يشكلون الإسلاميين الوحيدين الحقيقيين -وربما حتى المسلمين الوحيدين الحقيقيين. ومكمن الخطر هو أنه إذا اشترى إسلاميو التيار السائد فكرة الاندماج في دولة علمانية بثمن فصل أهدافهم السياسية عن أهدافهم الدينية والاجتماعية (كما حدث في تونس)، وعانوا الاستبعاد من الدولة بسبب إفراطهم في الوصول ومواجهة رد فعل قمعي ضد هذا الوصول (كما حدث في مصر)، فإن الشباب المسلمين الباحثين عن هويات دينية وسياسية “موثوقة” ربما يحولون أنظارهم إلى أماكن أخرى. وسيكون الجهاديون في الانتظار.
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان:
Political Islam After the Arab Spring
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 6/12/2017