تقرير مترجم عن صحيفة نيويورك تايمز – تحت رئاسة ترامب، أميركا تستسلم
هيئة التحرير – نيويورك تايمز – 16/10/2017
لطالما كافح الأميركيون مع التساؤل عما إذا كان يجب على هذا البلد أن يكون منخرطاً أكثر أو أقل في شؤون العالم. وما يزال التنافس في الأفكار بين الأمميين والانعزاليين على أشده بشكل خاص في صفوف الجمهوريين الذين يعودون وراء إلى ثيودور روزفيلت وويليام هوارد تافت، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية.
ولكن، منذ وضعت تلك الحرب أوزارها ومهما كانت الاختلافات في أولوياتهم ونقاط تأييدهم، فقد اختار كل رئيس الانخراط بدلاً من التراجع، وأحياناً بنتائج مفاجئة وإيجابية. فقد أقام ريتشارد نيكسون علاقات مع الصين الشيوعية. وبعد أن أرسل رونالد ريغان الاتحاد السوفياتي إلى “كومة رماد التاريخ”، مضى إلى التفاوض على معاهدات السيطرة على التسلح مع ميخائيل غورباتشيوف. وحتى أولئك الرؤساء، مثل دوايت أيزنهاور وباراك أوباما اللذين دافعا بطرق متنوعة عن خفض التزامات أميركا وراء البحار، أصروا على الاحتفاظ بدور قيادي لأميركا، إن لم يكن دور القيادة الأولى، في بناء نظام دولي يستند إلى مبادئ الديمقراطية وحرية السوق.
كانت هناك الكثير من الأخطاء والتطورات التي لم يتم التنبؤ بها، والتي اختبرت الولايات المتحدة وأثارت التساؤلات حول الحكمة وراء سياساتها. لكن، وبشكل إجمالي، استفاد العالم كثيراً من إرشاد أميركا ومن إرادتها الانخراط مع الحلفاء عند كل خطوة في الطريق. ويشكل الناتو والأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي كلها جزء من البناء الهندسي للأمن والتنمية العالميين الذي ساعدت الولايات المتحدة في خلقه.
لكن الرئيس ترامب يضرب الآن ذلك النظام بمطرقة ضخمة. وحجته، أنه إذا كان بمكن تطبيق على المصطلح على مثل هذا الموقف البدائي، هي أن أميركا كانت “تخسر” منذ وقت طويل، وهو وضع عكف على تصحيحه بمطالب غير قابلة للتفاوض، ومواجهات بلا مسوغات. وهو يعد بإنجاز المزيد وبإعادة التخندق على حد سواء. ويعد بوضع “أميركا أولاً” بينما يدفع بها في الوقت نفسه إلى الاضطلاع بدور ثانوي في المداولات العالمية. وهذه سياسة غرائبية ومتناقضة: ففي السعي إلى تحرير الولايات المتحدة من التزامات دولية وشن حرب على مؤسسات متعددة الأطراف، لا يتم تدمير سمعة أميركا وحسب كحليف موثوق، وإنما يتم التنازل أيضاً عن المستقبل لصالح القوى العدوانية نفسها، وخاصة الأنظمة السلطوية في الصين وروسيا اللتين يدعي الرئيس بأن نهجه يحمي الأميركيين منهما. وفي الأثناء، تقوم نزاعاته المتواصلة مع الصحافة الحرة والمحاكم والكونغرس بإضعاف موقف أميركا كموطن للحريات الدستورية.
وقعت أحدث الهجمات في الفترة الأخيرة، عندما انسحب ترامب في غضون بضعة أيام، أو هدد بالانسحاب من اتفاقية مهمة حول إيران، ومن العلاقة بمنظمة اليونيسكو، ومن اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، التي كان قد تم التفاوض عليها بصعوبة في عهد إدراتي بوش وكلينتون الأوليين.
لأكثر من عام، عكف السيد ترامب على مهاجمة صفقة إيران التي تقف إيران بموجبها برنامحها النووي بشكل كبير في مقابل رفع العقوبات عنها. ثم عمد أخيراً إلى التنصل من المسؤولية عنها برفضه الشهادة بأن إيران متقيدة بالاتفاقية. وبينما لم يعلن صراحة عن قتل الاتفاق أو إعادة صياغته، فقد ألحق الرئيس ضرراً كبيراً بالاتفاق وأحال مصيره إلى الكونغرس، حيث مستقبله غير مؤكد.
وقد أقدم الرئيس على ذلك على الرغم من نصيحة كبار المسؤولين في إدارته -وزيري الدفاع والخارجية ورؤساء الجيش والمخابرات- الذين يقولون إن الاتفاق النووي الإيراني يصب في صالح أميركا؛ وعلى الرغم من تأكيدات وكالة الطاقة النووية الدولية التي تدير على مدار اليوم وسبعة أيام في الأسبوع نظام تحقق من أن إيران تتقيد بشروط الاتفاقية.
كما أن البلدان التي تفاوضت على الصفقة مع السيد أوباما -بريطانيا وفرنسا وألمانيا والصين وروسيا- توسلت البيت الأبيض للتمسك بالاتفاقية. لكن السيد ترامب أظهر مرة أخرى أنه لا يستطيع التقيد بإنجازات سلفه، وأنه لن يقتنع بالحقائق، وأنه يضع القليل من القيمة أو لا يضع قيمة على الإطلاق للفكرة القائلة إن احترام الالتزامات القومية تضمن الثقة بكلام أميركا. فلماذا تفاوض كوريا الشمالية الولايات المتحدة على مخزونها النووي عندما ترى ضآلة احترام إدارة ترامب للاتفاقات الدبلوماسية؟
وفي المقابل، عمد حلفاء أميركا الأوروبيون الذين أغضبهم قرار السيد ترامب إلى التأكيد مجدداً التزامهم بالصفقة، فيما يتضمن تشجيع الشركات الأوروبية على الاستثمار في إيران. (يقال إن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يدرس فكرة القيام بزيارة لطهران والتي ستكون الأولى من نوعها لرئيس فرنسي منذ سبعينيات القرن الماضي).
بالإضافة إلى ذلك، من غير المرجح أن يكون قرار الرئيس ترامب الانسحاب من منظمة التربية والثقافة والعلوم “اليونيسكو” التابعة للأمم المتحدة، بسبب انحيازها ضد إسرائيل، مترابطاً منطقياً تقريباً مثل معارضته لصفقة إيران، مع أنه قرار يوسع حربه على الالتزامات الدولية. كما أن تهديده بتمزيق اتفاقية “نافتا” ما يزال مجرد تهديد وحسب، على الرغم من أنه يشكل نذير شؤم.
وفي الأثناء، يتفق معظم الاقتصاديين على أن اتفاقية “نافتا” أسهمت في إلحاق بعض الخسائر بالوظائف في حقل التصنيع، لكن التخلي عنها سيلحق الضرر بالاقتصاد بشكل عام. وحتى الصناعات الأميركية التي أعادت بعض خطوط الإنتاج إلى الوطن وداخل الحدود ربما تستخدم عمالة أقل مقارنة بالماضي بسبب الأتمتة. وبالإضافة إلى ذلك، ثمة قطاعات أخرى من الاقتصاد، مثل الزراعة والخدمات، والتي ستخسر النشاط التجاري إذا فرضت كندا والمكسيك تعريفات أعلى على الواردات الأميركية. ومهما تكون المكاسب التي قد تتمتع بها الولايات المتحدة عبر الاعتراض على “نافتا” فمن غير المرجح أن تكون كافية لتبرير تحييد حليفين من أهم حلفائها وجيرانها.
إذا ألغيت الاتفاقية أو أعيد التفاوض عليها بشكل كبير، فسوف تنضم “نافتا” إلى قائمة كبيرة من الاتفاقيات التي تنصل منها السيد ترامب، بما في ذلك اتفاق باريس للمناخ، والشراكة عبر الأطلسي، وهي اتفاقية تجارة أخرى. وقد أثار شكوكاً بكلمات مختلفة وملاحظات عابرة حول التزامه حتى بالأمم المتحدة وبالناتو. لأي غاية؟ الجواب الأكيد هو أنه يسعى إلى إرضاء وتنشيط “قاعدته” -الناخبين المنزعجين من التراجع الاقتصادي- من خلال بناء سور، ليس فقط ضد المهاجرين، بل وأيضاً ضد المنافسة الاقتصادية والتشابكات الأجنبية، بحيث يجعل حياتهم ورفاههم أكثر أمناً. وفي عالم يعتمد اقتصادياً على بعضه بعضا، يعتبر ذلك الوعد هراء. كما أنه يقوض بشكل حاسم علاقات عالمية مهمة ويضر بالمصداقية الأميركية، ويتنازل عن النفوذ والفرص الاستثمارية التي تذهب معها إلى دول طموحة ستكون سعيدة جداً بلعب هذا الدور.
يقول السيد ترامب، “أميركا أولاً”. ولكن يبدو أنه يعني “أميركا أخيراً”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
Under Mr. Trump, America Surrenders
abdrahaman.alhuseini@alghad.jo
ترجمة عبد الرحمن الحسيني – الغد – 26/10/2017