ترجمات أجنبية

تقرير مترجم عن ذي أميركان كونسيرفاتيف – كيف تنبأ صدام حسين بفشل أميركا في العراق

ذي أميركان كونسيرفاتيف – مارك بيري – 25/10/2017
في أوائل العام 1917، خلال الحرب العالمية الأولى، قاد الجنرال البريطاني السير فردريك ستانلي مود جيشا مكونا من ستين ألف جندي بريطاني وهندي من البصرة، صعودا مع نهري دجلة والفرات، وصولا إلى بغداد. وكان عدوه جيشا تركيا يتألف من حوالي خمسة وعشرين ألف جندي، يدافعون عن ولاية كانت في ذلك الحين جزءا من الإمبراطورية العثمانية المنهكة. وبالكاد كان مود رجل حملات مبدع (كان جنوده يسمونه “جو المنهجي”). لكن غزوه لبلاد ما بين النهرين في ذلك الوقت لم يتكلف الكثير من القتال. وكتب في تقريره لمسؤوليه: “إن الجيش التركي الذي كان أمامنا مؤخرا لم يعد قيد الوجود كقوة مقاتلة، بسبب خسائره وأسراه وتدني معنوياته وخسارة نسبة ضخمة من مدفعيته وذخائره”. ودخل مود على رأس جنوده إلى بغداد على صهوة جواد يوم 11 آذار (مارس) ثم، وفقا لأرقى تقليد بريطاني، أصدر إعلانا يقول: “إننا نأتي كمحررين وليس كمحتلين”. لكن العراقيين اعتقدوا غير ذلك.
في العام 1917، بدأ العراقيون ثورة استمرت حتى تشرين الأول (أكتوبر) 1920. ورد البريطانيون بزيادة عديد قواتهم، ثم عهدوا بالحرب إلى يد قوتهم الجوية التي ناقشت استخدام الغاز السام ضد قرى العراق المقاومة. واعتقد ونستون تشرشل، الذي كان في ذلك الحين وزير المستعمرات، أن هذا هو الشيء الصحيح. وقال: “أنا لا أفهم هذا الإفراط في الحساسية حيال استخدام الغاز. أنا أؤيد بقوة استخدام الغاز ضد القبائل غير المتحضرة. وفشلت الثورة (من دون مساعدة الغاز السام)، لكن البريطانيين تعلموا درسهم، وقاموا بتحويل إدارة البلد إلى رجل عربي، فيصل بن الحسين، ثم خرجوا من البلد. وتبع فيصل سلسلة من الأقارب، لكن القوة الفعلية كانت بيد نوري السعيد. وفي العام 1958، قامت مجموعة من الضباط العراقيين باغتيال عائلة فيصل في حديقة قصرهم في قصر بغداد، ثم لاحقت نوري (الذي كان قد هرب من العاصمة متخفيا في زي امرأة) وأعدمته. وتم إحراق تمثال الجنرال مود في بغداد.
هكذا كان العراق.
* * *
في أواخر صيف العام 2002، بينما كان أركان الجنرال الأميركي تومي فرانكس في خضم وضع مسودة خطتهم لغزو العراق (ما أصبح يعرف بعملية حرية العراق) استدعى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الفريق رعد الحمداني من مقره. وكان الحمداني، العراقي الحضري السني، قائدا لواحدة من فرق النخبة في الحرس الجمهوري العراقي، وواحدا من قلة من الضباط العسكريين الذين اعتقد الدكتاتور بأنه يستطيع إيلاءهم الثقة. وكان الحمداني قد كسب تلك الثقة بفضل خدمته في الجيش العراقي لخمسة وعشرين عاما، والتي قاتل خلالها في ست من حروب بلده، بحيث أصبح معترفا به كواحد من الجنود الأكثر إخلاصا للنظام. وكان الاستراتيجي والمفكر الأبرز في الجيش العراقي. وهو ما جعل صدام يستمتع بالتحدث معه. وكان الحمداني تلميذا للتاريخ العسكري، وكان غالبا ما يخبر للدكتاتور بما يقرأ وما الذي يعنيه ما يقرؤه.
في صيف العام 2002 كان حمداني مركزا على المعركة من أجل جسر لدندورف في الحرب العالمية الثانية، والذي كان يقطع نهر الراين عند بلدة ريماغين. وفي آذار (مارس) 1945، كان الجسر آخر هيكل قائم عبر الراين، وكان الحلفاء عازمين على الاستيلاء عليه دون أن يمسه ضرر. وكانوا يعرفون أنه إذا نسف الألمان الجسر، فقد يستغرق أمر اختراق الحدود الألمانية أسابيع. وعرف الألمان ذلك أيضا، ولذلك شددوا الحراسة على الطرق الموصلة إلى الجسر، وقاتلوا بشراسة ليمنعوا الوحدات الأميركية من التمركز على الضفة المقابلة. وعندما اقترب الأميركيون من الجسر، ذاقوا طعم المدفعية الألمانية التي قصفت مواقعهم التي أصبحت الآن تعج بالقوات على الضفة الغربية من نهر الراين. وفي أسوأ الحالات، كما حسب الألمان، فإنهم سيعمدون إلى نسف الجسر في آخر دقيقة. وعندئذ سيعلق الأميركيون على الشاطئ المقابل من النهر وسيذوقون طعم المزيد من المدفعية الألمانية. وفي أوائل آذار (مارس) كان مهندسو الجيش الألماني قد زرعوا المتفجرات في أعمدة الجسر، ولفوا الأسلاك التي تصل من الشحنات الناسفة إلى الماء وعلى طول هيكل الجسر.
روى الحمداني هذه القصة لصدام حسين. وهكذا، كما قال، جاء الأميركيون وقام الألمان بتفجير متفجراتهم. لكن الشحنات الناسفة لم تنفجر واجتاح الأميركيون الجسر. وفي تلك اللحظة، كما ختم الحمداني، هزمت ألمانيا. وسمع صدام كل هذا ثم هز كتفيه. هكذا فسر حمداني ما عناه. قال إن الأميركيين قادمون عبر تلك الطرق السريعة من الحدود الكويتية إلى الناصرية، وسوف يستهدفون الوصول إلى الجسور على نهر الفرات. أو أنهم سوف يأتون من الحنوب الغربي. ولكن، أيا كان الطريق الذي سيأتون منه، كما قال، فسيكون عليهم الاستيلاء على الجسور فوق نهر الفرات، وسوف نقاتل دفاعا عن الجسور وندفع الأميركيين نحو الغرب، إلى داخل الصحراء، حيث تكون المناورة أصعب عليهم. وقال: “عندما يأتون، يجب علينا أن ننسف تلك الجسور”. فلوح صدام بيده مستبعدا الفكرة. وقال إن الأميركيين لن يأتوا “فهم لا يحبون إراقة الدماء، ولديهم ما يكفي منها”. وكان صدام واثقا، ومتيقنا. وقال: لا تقلق، لن تكون هناك حرب. وكان مخطئا.
بدأت عملية حرية العراق يوم 19 آذار (مارس) 2003 بحملة قصف استهدفت القيادة السياسية في العراق. وأُتبع القصف بالغزو البري فجر يوم 20 آذار (مارس).
على الميمنة، استهدفت قوة المارينز الاستطلاعية الأولى حقول النفط الجنوبية، مع قيام الفرقة البريطانية المدرعة الأولى بتأمين شبه جزيرة الفاو، في الجزء الجنوب شرقي القصي من العراق، في مؤخرة قوة استطلاع المارينز الأولى. وعلى الميسرة، تطوحت فرقة المدفعية الثالثة (وهي جزء من قوات “في” القوية للجنرال ويليام والاس) قليلاً إلى الغرب، ثم تمحورت شمالاً. لكن نقطة الهدف الرئيسية كانت الجسور على نهر الفرات، تماما كما كان الحمداني قد تنبأ.
يوم الثاني من نيسان (أبريل) تلقى حمداني إشعارا بأن صدام يريد رؤيته في بغداد. وانزعج الحمداني؛ كان جنوده يقاتلون وهم في حاجة إليه. لكنه كان جنديا جيدا ومواليا، وكان صدام قائده العام. وعندما رآه، لاحظ الحمداني أن صدام قد تغير قليلا عما كان في الصيف الماضي. لكن لديه الآن نجله، قصي، إلى جانبه، وبجواره وقف قائد الجيش، رئيس الحمداني. وطلب صدام منه تقديم تقرير، فقدم الحمداني إيجازا عن القتال حتى ذلك الوقت. ثم عرج على خطط المعركة. وقال إن الأميركيين كانوا يأتون مسرعين من الجنوب، ويتجهون بوحدات أكبر إلى الغرب. مقاتلون أشداء. وكان ينوي اختبار زخمهم ثم يقوم بنسف الجسور المقامة على النهر ثم يغرقهم بقصف المدفعية من الجانب الآخر. وكان مفتاح دفاعاته هو جسر القائد على نهر الفرات، إلى الجنوب الغربي من الناصرية. وشدد الحمداني على رأيه. يجب علينا نسف الجسر.
استمع صدام إليه ثم هز رأسه والتفت إلى ناحية ابنه وإلى قائد الجيش. وقال إن الأميركيين سوف يجعلون زخمهم الرئيسي يأتي من جهة الأردن ومن تركيا في الشمال، وأن هذه هي الكيفية التي يخططون من خلالها للاستيلاء على بغداد. وقال صدام: أنت تحتاج إلى إعادة نشر قواتك. اسحبهم من الخط ودافع عن بغداد من الشمال. فنظر الحمداني إلى قائد الجيش، لكن القائد لم يقل شيئا. واحتج الحمداني وقال: ها هم الأميركيون إلى جواري تماما ونحن نقاتلهم الآن. فهز صدام رأسه، وقال: لا تنسفوا تلك الجسور، إننا سنحتاج إليها. ثم تحدث قصي. وقال: لدينا خطط للأميركيين. وبعد ثلاث ساعات عاد الحمداني للإشراف على مركز قيادته الذي امتد من الناصرية مسافة 130 ميلا للجنوب.
في وقت لاحق، وخلال أول أعوام قضاها في منفاه في عمان، الأردن، يتذكر الحمداني هذه المحادثة في بغداد ويرويها مرة تلو المرة للأميركيين الذين يزورونه. لم يكن يحب قصي أبداً، كما يعترف، لأنه كان متعطشا للدماء وأثر على والده. عدم نسف تلك الجسور كانت فكرته، كما يقول، مما أسفر عن سقوط بغداد. ولكن مع مرور الأعوام، وبينما فكر الحمداني في الأمر، أضاف تأملاته الخاصة على القصة. فكر كثيرا في الحرب.
كان هناك سبب لحضور قصي (“الله يرحم روحه”، كما شاء حمداني أن يضيف دائماً) ذلك الاجتماع، وكان هناك سبب جعل صدام يبدو واثقا، حتى أمام الهزيمة. وقال الحمداني: “أعتقد الآن بأن صدام استوعب بالتأكيد أن الأميركيين سوف ينتصرون. لم يكن أحمق. وبينما تنبأ بأننا سننتصر وقال ذلك كثيرا وأقنع العديدين به، فإنه مع ذلك كان يعرف الحقيقة. الأميركيون سوف يدخلون بغداد وسوف يحتفلون بانتصارهم. ولكن، هل ينجحون؟ إنهم لن ينجحوا أبداً. في النهاية سوف يفعلون ما فعله الكثير من الآخرين”، وكما فعل الجنرال البريطاني فردريك ستينلي مود -سوف يكسبون ثم سوف يفشلون. “وقد كان محقا”، كما استنتج الحمداني، “لقد أحرزتم انتصاركم ثم فشلتم”.
*محلل السياسة الخارجية، ومؤلف كتاب “حروب البنتاغون” الذي اقتطفت منه هذه القطعة. ويستند هذا المقتطف، من الفصل السادس، إلى عدة مقابلات أجراها المؤلف مع الجنرال العراقي رعد الحمداني.
*نشر هذا المقتطف تحت عنوان:
How Saddam Hussein Predicted America’s Failure in Iraq
ترجمة عبد الرحمن الحسيني – الغد – 5/11/2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى